تشهد العلاقات الهندية-التركية في المرحلة الحالية توتراً لافتاً، حيث أعلنت وزارة الخارجية الهندية، في 17 مايو 2025، عن تعليق العلاقات التجارية والتعليمية مع تركيا، وذلك رداً على الدعم غير المشروط الذي قدمته الأخيرة إلى باكستان خلال المواجهات العسكرية الأخيرة التي اندلعت بين البلدين في 23 أبريل الفائت، وانتهت بتوقيع اتفاق وقف إطلاق نار برعاية أمريكية في 10 مايو الجاري.
إذ أبدت الهند امتعاضاً من تقديم الحكومة التركية دعماً عسكرياً للجيش الباكستاني من خلال توفير معدات قتالية وأجهزة عسكرية. وكان الخلاف قد تنامى في الأساس بين الدولتين بعد إعلان أنقرة رفضها رسمياً في 23 أبريل الفائت تعليق الهند للعمل بمعاهدة مياه نهر السند لتقسيم المياه مع باكستان، ووصفتها بالتصرف الأحادي الذى قد يزيد من تأجيج الصراع بين البلدين. ورغم دعوة أنقرة للتهدئة، وإعلاء مبدأ الحوار الدبلوماسي بين البلدين، إلا أن نيودلهي وصفت موقفها بـ"المنحاز والعدائي".
إجراءات عديدة
اتخذت الهند عدداً من الإجراءات العقابية ضد تركيا، في إطار الرد على دعمها لباكستان في مواجهتها الأخيرة مع نيودلهي، والتي يمكن بيانها كالتالي:
1- تعليق العلاقات التجارية: فرضت الهند منذ 17 مايو الجاري مقاطعة للمنتجات التركية بالإضافة إلى تعليق بعض الشراكات في مجالات اقتصادية متنوعة. ويُقوِّض القرار الهندي من فرص التعاون التجاري بين البلدين، وربما يدفع نيودلهي للتراجع عن اتفاق حسن النوايا الموقع مع أنقرة في عام 2024، وهو ما قد ينعكس سلباً على جهود البلدين لرفع حجم التبادل التجاري إلى 20 مليار دولار سنوياً.
2- تجميد التعاون التعليمي: أعلن "المعهد الهندي للتكنولوجيا" في بومباي (IIT Bombay)، في 18 مايو الحالي، تعليق جميع اتفاقياته مع الجامعات التركية، كما قامت مؤسسات تعليمية خاصة، مثل جامعة "شانديغار"، بقطع علاقاتها الأكاديمية مع عدد كبير من الجامعات التركية. ولم يقتصر التعاون العلمي على هذه المؤسسات فقط، ففي 15 مايو الحالي، أعلنت جامعة "جواهر لال نهرو" بنيودلهي، عن تعليق مذكرة التفاهم الموقعة مع جامعة "إينونو" في تركيا، وذلك على خلفية ما وصف بأنه تصاعد في المشاعر العدائية في الهند ضد تركيا.
3- وقف برامج الأنشطة السياحية: استخدمت نيودلهي ورقة التعاون السياحي أيضاً باعتبارها متغيراً مؤثراً، ورسالة سياسية للضغط على أنقرة في الملفات الخلافية المرتبطة بعلاقاتها مع باكستان، خاصة وأن الهند تدرك مدى محورية هذا القطاع في دعم الاقتصاد التركي الذى يعاني تراجعاً ملحوظاً في الفترة الحالية.
ووفقاً لبيانات هندية رسمية، فقد تم إلغاء أكثر من 15 ألف حجز من ولاية أوترا براديش الهندية إلى تركيا وأذربيجان خلال الأيام القليلة الماضية. ورغم أن السياحة الهندية لا تمثل شريحة كبيرة في السوق التركية، إذ بلغ عدد السياح الهنود بنهاية عام 2024 نحو 330 ألف سائح، من أصل إجمالي 62.2 مليون سائح زاروا تركيا خلال هذا العام، إلا أن السياحة الهندية، بحسب تحليلات وتقارير تركية، كانت تمثل سوقاً واعدة يمكن توسيع الرهان عليها مستقبلاً.
4- الدعوة لتعليق الاستثمارات الهندية في تركيا: تصاعدت الدعوات لكبريات الشركات الهندية العاملة في السوق التركية من أجل تعليق مشاريعها الاستثمارية فيها، بالتوازي مع قيام الحكومة الهندية مؤخراً بفرض حظر على شركة "تشيلبي" التركية التي تدير عمليات مطار مومباي. وقد وجهت هذه الدعوات إشارة قوية إلى تركيا، مفادها أن الهند مستعدة لاستخدام أوراق ضغط اقتصادية حقيقية.
5- التوجه نحو دعم الخصوم الإقليميين لتركيا: لا يمكن استبعاد اتجاه الهند خلال المرحلة المقبلة نحو تكثيف التعاون مع الخصوم الإقليميين لتركيا، وخاصة قبرص اليونانية، بالإضافة إلى توسيع الشراكة العسكرية مع أرمينيا. كما يرجح أن تعمل حكومة ناريندرا مودي على توثيق التعاون بشكل أكبر مع اليونان، خصوصاً بعد توقيع البلدين في عام 2024 اتفاقية شراكة استراتيجية لتعزيز التعاون في مجالى الدفاع والطاقة. وكانت الهند قد أجرت مناورات عسكرية مع اليونان في البحر الأبيض المتوسط في 4 أبريل الفائت. أما على المستوى الدبلوماسي، فمن المحتمل أن تقود الهند تحركات مضادة تجاه الممارسات التركية ضد الأكراد في شمال شرق سوريا.
حسابات أنقرة
ترتبط التحركات الهندية المناوئة لتركيا بقيام الأخيرة بتقديم دعم لافت لباكستان في مواجهتها العسكرية الأخيرة مع الهند، وهو ما يطرح تساؤلات عديدة عن أسباب هذا الدعم وحسابات أنقرة إزاءه.
في الواقع، يمكن القول إن حسابات أنقرة إزاء هذا التصعيد العسكري تعتمد على محاور عديدة يتمثل أبرزها في:
1- تعزيز التعاون الدفاعي مع باكستان: تبدى تركيا اهتماماً ملحوظاً بتعميق علاقاتها الدفاعية مع باكستان، حيث ازداد التقارب والتعاون بين البلدين في المجال الدفاعي خلال الأعوام الماضية. فبالإضافة إلى عقد تركيا مؤخراً صفقات عسكرية مع باكستان في مجال الصناعات الدفاعية، كان آخرها في فبراير 2025، والتي تضمنت حصول إسلام آباد على طائرات الحرب الإلكترونية التركية، تعد تركيا ثاني أكبر مورد للأسلحة إلى باكستان، بما يمثل نحو 11% من احتياجات الجيش الباكستاني.
ويشار في هذا الصدد إلى أنه خلال زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى باكستان في فبراير 2025، وقعت الدولتان 24 اتفاقية تعاون في مجالات مختلفة، منها 3 اتفاقيات في المجال العسكرى، بالإضافة إلى إعلان البلدين في يناير 2025 عن إنشاء مصنع مشترك مخصص لإنتاج مقاتلة KAAN، وهو مشروع كبير في مجالي التسليح والفضاء.
2- استقطاب تأييد القواعد التقليدية المحافظة: تزامنت المواجهات الهندية-الباكستانية مع تراجع ملحوظ في شعبية حزب العدالة والتنمية بسبب استمرار تراجع المؤشرات الاقتصادية، وتنامي حدة الاستقطاب السياسي مع المعارضة، فضلاً عن تزايد قلق أكراد الداخل من عدم تجاوب الرئيس التركي عملياً مع قرار حل حزب العمال الكردستاني. وعلى ضوء ذلك، ووفقاً للعديد من التقديرات، فإن الدعم التركي لباكستان يرتبط، في جانب منه، برغبة الرئيس أردوغان في استقطاب تأييد القواعد التقليدية المحافظة في الداخل التركي، خصوصاً مع تصاعد تنديد الأتراك المحافظين بما يسمى "الممارسات الهندية بحق المسلمين".
3- توسيع نطاق التعاون الاقتصادي: يمثل العامل الاقتصادي متغيراً مهماً في الدعم التركي لباكستان، خصوصاً في ظل رغبة أنقرة في تعزيز تعاونها التجاري مع إسلام آباد، التي تمثل سوقاً رائجة للمنتجات التركية. ويشار في هذا الصدد إلى أن الرئيس أردوغان كان قد أعلن في فبراير الماضي خلال زيارته لباكستان عن تطلع بلاده لزيادة التبادل التجاري مع الأخيرة، والذي يبلغ حالياً نحو مليار دولار سنوياً إلى خمسة مليارات دولار عبر تطوير التعاون المشترك، واستكشاف الفرص الاستثمارية الجديدة ولا سيما بالقطاع الزراعي، بالإضافة إلى دعم التعاون في مشاريع الطاقة، حيث كشفت تقارير عن توقيع شركات باكستانية وتركية اتفاقية في منتدى باكستان للاستثمار المعدني الذى استضافته إسلام آباد في 12 أبريل الفائت، تتضمن التنقيب عن الهيدروكربونات في المياه الإقليمية الباكستانية.
4- دعم النفوذ التركي في الفضاء الآسيوي: في رؤية أنقرة، فإن توسيع العلاقات الاستراتيجية والعسكرية مع باكستان يساعد على تعزيز نفوذها في آسيا، ويوفر خيارات جديدة لطموحاتها الخارجية، خاصةً في ظل تعثر انضمامها للاتحاد الأوروبي، ناهيك عن مساعيها لتوسيع عضوية منظمة الدول التركية، عبر ضم باكستان إليها، باعتبار ذلك أحد المداخل الحيوية لتعميق النفوذ التركي في الفضاء الآسيوي. كما تسعى تركيا إلى ممارسة دور أمني في آسيا، ومقايضة هذا الدور بتنازلات من الولايات المتحدة وإيران وروسيا في الملفات الخلافية.
سياسة مرنة
رغم اتساع نطاق الخلافات بين الهند وتركيا في التوقيت الحالي، بسبب التباين في التعامل مع بعض القضايا الرئيسية، على غرار الدعم التركي لباكستان في مواجهتها الأخيرة مع الهند، إلا أن ذلك لا ينفي أن أنقرة تبدو حريصة على عدم الوصول بهذه الخلافات إلى درجة غير مسبوقة قد يصعب معها احتواء تداعياتها السلبية. ومن هنا، يرجح أن تعمل تركيا على تبنى سياسات مرنة في التعامل مع الهند خلال المرحلة المقبلة، ويمكن بيان ذلك على النحو التالي:
1- دعم إجراء محادثات بين الهند وباكستان: رغم دعم تركيا لباكستان، إلا أنها أكدت على أهمية إعلاء مبدأ الحوار لتفكيك القضايا الخلافية بين نيودلهي وإسلام آباد، وذلك من خلال دعم إجراء محادثات بين البلدين. وقد رحبت أنقرة في 10 مايو الجاري بقرار وقف إطلاق النار بين البلدين الذي تم التوصل إليه برعاية أمريكية. كما انعكست رغبتها في التهدئة مع الهند في مؤشرات عديدة، كان من بينها دعوة وزارة الخارجية التركية خلال الأيام الماضية إلى ضرورة التصرف بحكمة وتجنب الأعمال الأحادية، وأهمية الانخراط في مفاوضات مباشرة بين البلدين.
2- رفض الاتهامات الهندية المستمرة: رفضت تركيا الاتهامات الهندية المستمرة ضدها، ووصفتها بأنها "لا أساس لها من الصحة". لكنها أبدت مرونة ملحوظة في التعامل مع هذه الاتهامات، على نحو بدا جلياً في نفي وزارة الدفاع التركية في 28 أبريل الفائت صحة التقارير التي تحدثت عن إرسال ست طائرات شحن عسكرية محملة بالأسلحة إلى باكستان، مؤكدة أن طائرة نقل تابعة للقوات الجوية التركية هبطت في باكستان فقط لغرض التزود بالوقود قبل مواصلة رحلتها المقررة. ويبدو أن تركيا حاولت قطع الطريق أمام أي محاولات تشير إلى تورطها المباشر في المواجهات الهندية-الباكستانية، لا سيما في ظل تصاعد الاستياء الشعبي والرسمي في الأوساط الهندية تجاه تركيا بسبب علاقاتها الاستراتيجية مع باكستان.
3- تأكيد الحرص على دعم العلاقات الثنائية: بدت أنقرة حريصة على رفع مستوى التعاون الثنائي مع نيودلهي، خاصة في المجالين التجاري والأمني، وذلك في إطار سياسة "إعادة التوجه إلى آسيا"، وهو ما انعكس في إظهار الحرص التركي على تطوير العلاقات الثنائية مع الهند، إذ يقترب حجم التبادل التجاري بين البلدين من نحو 5 مليار دولار. كما تجدر الإشارة إلى حرص تركيا خلال الفترة الماضية على تجنب طرح قضية كشمير في المنتديات الدولية، وخاصة في الأمم المتحدة، لتجنب إثارة حفيظة الهند.
ختاماً، يمكن القول إن تركيا برغم علاقاتها الحيوية مع باكستان، إلا أنها قد تحرص على إبداء سياسة مرنة في مواجهة التحركات الهندية المضادة، باعتبار ذلك يمكن أن يوجه رسائل طمأنة إلى نيودلهي، ويمهد لاحتواء الاستياء الهندي ضد تركيا، بما يعني أن أنقرة تسعى للحفاظ على علاقات قوية مع نيودلهي، وخاصة على المستوى الاقتصادي، الذى يحظى بأولوية استراتيجية لديها.