صافيناز محمد أحمد

خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

قام رئيس الورزاء العراقى محمد شياع السودانى بزيارة مهمة من حيث توقيتها وأهدافها ودلالاتها، إلى العاصمة التركية أنقرة فى 8 مايو 2025، حيث طغت ملفات الأمن والاقتصاد والوضع فى سوريا فى ظل المرحلة الانتقالية الجديدة على جدول أعمال السودانى خلال لقائه بالرئيس التركى رجب طيب أردوغان.

الزيارة تعد الثالثة خلال العامين الماضيين، وتأتى فى توقيت إقليمى بالغ الأهمية، حيث يُعاد تشكيل الوضع فى منطقة الشرق الأوسط عامة والمشرق العربى خاصة فى ظل تداعيات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة التى دخلت عامها الثانى من ناحية، وتأتى كذلك قبيل انعقاد اجتماع القمة العربية فى بغداد يوم 17 مايو 2025 من ناحية ثانية، وفى ظل تطورات بالغة الأهمية تعيشها دولة الجوار السورى منذ سقوط نظام بشار الأسد وتولى الرئيس الانتقالى أحمد الشرع السلطة فى دمشق من ناحية ثالثة، فضلاً عن تفاعلات غير مسبوقة من جانب الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة دونالد ترامب مع الوضع فى منطقة الشرق الأوسط من ناحية رابعة.

ويعكس ذلك في مجمله أهمية "التنسيق الاستراتيجى" بين تركيا والعراق راهناً وخلال المرحلة القادمة؛ سواء على مستوى ملفات التعاون الثنائية، أو على مستوى الأمن والاستقرار الإقليمى فى المنطقة، التى تمر بتحديات أمنية بالغة الصعوبة حالياً.

ملفات الأمن والاقتصاد

ثمة عدة ملفات تتوسط العلاقات العراقية-التركية؛ حيث يحتل ملف التواجد العسكرى التركى فى شمال العراق مقدمة الملفات التى ناقشها رئيس الوزراء العراقى شياع السودانى مع الرئيس التركى أردوغان؛ حيث سبق لأنقرة أن أبرمت "اتفاقاً أمنياً" تعاونياً مع الحكومة العراقية تضمن قيام أنقرة بحملة عسكرية فى شمال العراق لملاحقة عناصر حزب العمال الكردستانى التركى المعارض فى مناطق تمركزهم فى منطقة جبال قنديل وقضاء سنجار. ورغم مرونة بغداد تجاه هذا النمط من التدخل العسكرى الذى منحته نوعاً من الشرعية على الأراضى العراقية بموافقتها عليه، إلا أن استمرار البقاء العسكرى التركى فى شمال العراق ضمن ما تسميه أنقرة "حزام الآمان التركى" والممتد من شمال العراق إلى شمال سوريا، وزيادة عدد القوات التركية بصورة متتالية خلال السنوات الثلاثة الماضية، قد أدى إلى تأثيرات سلبية على العلاقة بين السودانى وشركاء العملية السياسية فى العراق من القوى والأحزاب السياسية فى الإطار التنسيقى الشيعى، لاسيما وأن "الاتفاق الأمنى" بين بغداد وأنقرة منح الأخيرة الدخول المؤقت لمسافة لا تزيد عن 40 كيلومتر، على أن ينتهى هذا التواجد بمجرد تحقيق العملية العسكرية التركية لأهدافها؛ بينما الواقع الفعلى على الأرض يعكس توغلاً عسكرياً تركياً لمسافة تزيد عن 140 كيلومتر داخل الأراضى العراقية.

تسعى أنقرة بهذا التوغل إلى إقامة قواعد عسكرية ثابتة لها فى شمال العراق، بذريعة عدم امتثال مقاتلى حزب العمال الكردستانى التركى المعارض لدعوة زعيمه عبدالله أوجلان والخاصة بتفكيك الحزب وتسليم سلاحه، فضلاً عن نجاح الحزب فى إنشاء "واقع اجتماعى" له فى شمال العراق عبر إقامة شبكة من الروابط الاجتماعية مع العشائر الكردية العراقية هناك، بخلاف العلاقات المتميزة التى تجمع مقاتليه بحزبى الاتحاد الكردستانى والديمقراطى الكردستانى العراقيين.

ويبدو أن السودانى سعى خلال زيارته إلى وضع جدول زمنى يتضمن انسحاباً قريباً من جانب القوات التركية إلى المسافات المتفق عليها بين الجانبين، خاصة فى ظل انتهاء مهمتها بتمشيط منطقة الحزام الآمن فى شمالى العراق، وهو ما يعنى أن بغداد باتت ترغب فى إنهاء مهمة التوغل العسكرى التركى فى إقليم كردستان واستبداله بنمط جديد من العلاقات الأمنية المشتركة التى تقوم على "ضبط الحدود" بين الجانبين عبر تفاهمات مشتركة تحافظ من خلالها العراق على سيادتها ووحدة أراضيها.  

ورغم أهمية ملف المياه بين البلدين؛ لاسيما مع حالة الجفاف التى يعانى منها العراق نتيجة للمشاريع النهرية التى تقيمها أنقرة على نهرى دجلة والفرات وتشمل سدود ضخمة ومحطات لتوليد الكهرباء، إلا أنه بات الملف الرئيسى الذى لم يحظ بحلحلة فعلية فى تفاعلات الدولتين بشأنه على مدار سنوات ماضية، وهو ما يلقى أيضاً بتبعات جمة على الوضع الاقتصادى فى العراق، وعلى الأمن المائى لشعبه، ويضع السودانى فى موقف حرج أمام القوى السياسية من ناحية، وأمام جموع الشعب العراقى من ناحية ثانية، حيث يفقد العراق سنوياً مزيداً من الأراضى الزراعية نتيجة لعوامل جفاف الأنهار والتصحر.

 فى هذا السياق، ضغطت القوى السياسية على السودانى من أجل تبنى سياسة أكثر حزماً تجاه أنقرة بصورة تدفعها إلى تحمل مسئولياتها تجاه تنفيذ الاتفاقات المبرمة بين الجانبين، فيما يتعلق بإدارة الأنهار الدولية، بما يضمن حصة العراق المائية من تدفقات نهرى دجلة والفرات. ويمتلك العراق قدرة على الضغط الفعلى على أنقرة فى ملف المياه عبر ما يسميه المختصون بالتفاوض المبنى على المصالح المشتركة؛ بمعنى أن العراق يمكنه استخدام ورقة التبادل التجارى كورقة ضغط لصالحه فى مواجهة أنقرة بخصوص تقاسم مياه الأنهار العابرة للحدود؛ حيث سبقت الإشارة إلى أن العراق يأتى فى المرتبة الثالثة فى قائمة الشركاء التجاريين لأنقرة، وهو ما يوفر له فرصة لممارسة ضغط اقتصادى على أنقرة فى ملف المياه.  

بخلاف ملفى أمن الحدود والمياه، سجل اللقاء بين السودانى وأوردوغان حضوراً لافتاً لملف العلاقات التجارية بين البلدين؛ حيث يحتل العراق المرتبة الثالثة فى قائمة الشركاء التجاريين لتركيا. وترتبط العلاقات التجارية العراقية-التركية بمشروع اقتصادى ضخم تسعى الدولتان إلى إتمامه وهو مشروع "ممر التنمية الاستراتيجى". المشروع عبارة عن مسار تجارى على مسافة 1200 كيلومتر يتم من خلاله نقل التجارة بين دول الخليج عبر العراق إلى تركيا على البحر المتوسط. ومن المخطط له أن ينتهى إعداده خلال العامين القادمين. وثمة مصادر تشير إلى رغبة العراق فى تسريع مسار إنشاء هذا المشروع؛ نظراً لعائده الاقتصادى عليه كدولة عبور تجارى - سيكون العراق ممراً للتجارة الإقليمية - من الخليج إلى تركيا، فضلاً عن كونه يوفر "نفاذية" للتجارة العراقية على البحر المتوسط عبر تركيا ومنها إلى السوق الأوروبية، والطريق بهذا المفهوم – حال إتمام تنفيذه – سيتعدى نطاق التعاون الإقليمى إلى نطاق التعاون الدولى من خلال ربط منطقة المشرق العربى بأوروبا عبر العراق، ومن ثم يصبح الطريق ممراً لعبور مسارات الطاقة من نفط وغاز وكهرباء، ومسارات لعبور التجارة من خدمات وسلع وبضائع، فضلاً عما يخلقه بالتبعية من نشاط صناعى وسياحى.   

وفيما يتعلق بملف نقل النفط من إقليم كردستان إلى تركيا، وبعد معالجة إشكاليته جراء اتجاه حكومة أربيل إلى الاتفاق مباشرة مع أنقرة على تصدير نفط الإقليم دون الرجوع إلى الحكومة العراقية، ثم عدولها عن ذلك ضمن تسويات مباشرة بين الحكومة المركزية وبين حكومة الإقليم، فقد أشارت مخرجات الاجتماع بين السودانى وأردوغان إلى اتفاق الطرفين على بدء مفاوضات مباشرة حول قضية تجديد التعاقد بخصوص استخدام أنبوب النقل التركى لمصادر الطاقة العراقية من نفط خام، مقابل استيراد العراق للغاز من تركيا بهدف رفع مستوى كفاءة محطات توليد الكهراباء، وهو أمر بالغ الأهمية نظراً للنقص الذى يعانى منه العراق بصورة مستمرة فى مجال إنتاج الكهرباء.

ملفات التوازن الإقليمى

سياسياً، تعكس زيارة السودانى لأنقرة واجتماعه بالرئيس أردوغان أهمية سياسية كبيرة فيما يتعلق بحالة الاستقرار الإقليمى فى المنطقة، لاسيما فى ظل التطورات الراهنة؛ بدءاً من تداعيات الحرب الإسرائيلية على غزة، ومروراً بمفاوضات البرنامج النووى بين الولايات المتحدة وإيران، ووصولاً إلى تطورات الأوضاع المتسارعة فى سوريا منذ سقوط نظام بشار الأسد. وشكلت تطورات المرحلة الانتقالية فى سوريا تحديداً، وتفاعلات الإدارة الانتقالية الجديدة برئاسة أحمد الشرع معها، موضوعاً ملحاً فرض نفسه بقوة على اجتماعات أردوغان والسودانى، خاصة فى ظل ما تشهده سوريا مؤخراً من أزمات أمنية على وقع العلاقة المتوترة بين الحكومة الانتقالية وبين الأقليات من الدروز والعلويين والأكراد.

وحقيقة تخشى تركيا، ويشاركها فى ذلك العراق، من احتمالية تصاعد الاضطرابات الأمنية فى سوريا مستقبلاً بما يفقد الحكومة الانتقالية القدرة على فرض الأمن والاستقرار داخلياً، وما سينتج عن هذا من تهديد لحالة التوازن والاستقرار الإقليمى فى المنطقة ككل، لاسيما مع دخول المتغير الإسرائيلى على معادلة الداخل السورى عبر احتلال الجنوب وصولاً إلى مناطق جنوب دمشق بذريعة حماية الدروز السوريين، حيث تحاول الحكومة الإسرائيلية استغلال مخاوف بعض تيارات الطائفة الدرزية فى سوريا من الإدارة السورية الحالية بالنظر إلى خلفيتها الدينية المتشددة.        

وعموماً، تشهد العلاقات التركية-العراقية "تطابقاً كاملاً" فى الرؤى بشأن سوريا؛ حيث تعول بغداد على دور أكثر نفاذاً لأنقرة بشأن فرض قدر من التوازن الإقليمى داخل سوريا فى مواجهة إسرائيل؛ على اعتبار أن أنقرة باتت هى اللاعب الإقليمى الرئيسى فى سوريا حالياً، وذلك عبر بدء مفاوضات مباشرة بين أنقرة وتل أبيب بشأن سوريا، وتشير بعض المصادر إلى وجود فعلى لمفاوضات تركية-إسرائيلية فى هذا الشأن. ويرى العراق أن المفاوضات من شأنها خلق حالة من تهدئة التصعيد فى الجنوب السورى، بما سينعكس بالضرورة على أمن منطقة المشرق العربى، أو على الأقل سينعكس على أمن دول الجوار السورى تحديداً. وتتفق الدولتان: العراق وتركيا على عدد من قضايا الشأن السورى ومنها؛ التأكيد على وحدة الأراضى السورية وسيادتها، وأمن الحدود، ومحاربة الإرهاب. كما يرى السودانى أن العلاقات العراقية-التركية بإمكانها أن تكون "صمام أمان" لحالة الاستقرار الإقليمى فى المنطقة ككل.

ختاماً، فإن رفع مستوى التعاون الاستراتيجى بين العراق وتركيا خلال زيارة رئيس الوزراء العراقى شياع السودانى لأنقرة مؤخراً، يشير إلى التطابق فى الرؤى بشأن العلاقات البينية من ناحية، رغم استمرار بعض إشكالياتها، وبشأن الأوضاع الإقليمية من ناحية ثانية، وأن الرهان على العلاقات التجارية ودعم أمن الحدود ومحافحة الإرهاب من شأنه تقريب وجهات النظر حول دور الدولتين فى دعم "التوازن الإقليمى" والحفاظ عليه، مع ملاحظة أن التقارب التركى-العراقى وفقاً لملفات التعاون المشترك، السابق الإشارة إليها، لا يعنى التأثير التركى فى العلاقات الأمريكية-العراقية من ناحية، ولا العلاقات العراقية-الإيرانية من ناحية ثانية، لكنه يفتح "طريقاً ثالثاً" أمام العراق يمكنه من تعزيز مكانته داخلياً وإقليمياً خلال المرحلة المقبلة.