صافيناز محمد أحمد

خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

اندلعت عدة توترات طائفية فى عدد من المدن والقرى حول العاصمة السورية دمشق التى يتمركز فيها عدد كبير من الأقلية الدرزية؛ لاسيما فى جرمانا وصحنايا بريف دمشق. فعلى مدار الفترة ( 29 إبريل – 2 مايو) 2025، جرت عدة اشتباكات عنيفة أسفرت عن مقتل عدد من الأفراد المنتمين لطائفة الدروز وعدد آخر من قوات الأمن السورية، وذلك بعد تداول أنباء بشأن حديث لأحد رموز الطوائف الدرزية تضمن عبارات مسيئة للإسلام، مما أدى إلى رد فعل عنيف من قبل مجموعة من الأفراد المسلحين تجاه الدروز فى مناطق جرمانا وصحنايا وأشرفية صحنايا بريف دمشق.

 وقد اختلفت الروايات بشأن مصدرها؛ فبعضها أشار إلى قيام مجموعات من الأفراد المسلحين بإطلاق نيران فى صحنايا رداً على هذه الإساءة دون معرفة انتماءاتهم، وإن أشير إلى الفصائل المسلحة المحسوبة على هيئة تحرير الشام. وفى المقابل قامت مجموعة من طائفة الدروز بالرد بالمثل، الأمر الذى يفتح مجال الحديث عن مدى قدرة الحكومة على حصر السلاح المنفلت بيد الدولة.

 والبعض الآخر من تلك الروايات يشير إلى أن المجموعات التى هاجمت الدروز فى جرمانا وصحنايا ينتمون لقوات الأمن نفسها أو فصائل محسوبة على هيئة تحرير الشام، ما يفرض الحديث عن دور المؤسسة الأمنية التى تكونت من الفصائل المسلحة المندمجة فى آلية أمنية واحدة، وما إذا كانت لديها القدرة على التعامل مع الطوائف المختلفة المكونة للمجتمع السورى، أم أنها لاتزال تحكمها عقلية التطرف العنيف فى التعامل مع الآخرين؟!! 

معادلة الأمن والاستقرار على المحك

يصبح التساؤل السابق ذا أهمية يعتد بها نظراً لما تتعرض له معادلة الأمن والاستقرار فى سوريا خلال الوقت الراهن، لاسيما مع دخول المتغير الإسرائيلى على تلك المعادلة عبر وسيلتين الأولى؛ تتمثل فى قيام دولة الكيان باحتلال الجنوب السورى وتدميرها للبنية العسكرية من مطارات وقواعد عسكرية وطيران حربى وأنظمة الدفاع الجوى، وتدمير كافة وحدات الأسطول السورى.

والثانية، تتمثل فى قيامها ( أى إسرائيل) بمحاولة التأثير على حالة السلم المجتمعى السورى عبر توظيف حالة التوتر الطائفى لصالحها، من خلال شن ضربات جوية استهدفت عدداً من قوات الأمن السورية فى ريف دمشق وفى السويداء بذريعة حماية الأقلية الدرزية؛ حيث وجهت إسرائيل تهديداً مباشراً للنظام السورى بالتدخل واستخدام القوة ضده فى حالة تهديد أمن الطائفة الدرزية، وتستهدف دولة الاحتلال بذلك إيجاد حلفاء محللين لها من بعض تيارات طائفة الدروز الذين يتخوفون من مستقبل العلاقة بينهم وبين الحكومة الانتقالية ورئيسها أحمد الشرع. هذا إلى جانب توسيع إسرائيل لعملية الانتشار العسكرى لقواتها فى الجنوب السورى بأكمله، فى توغل عسكرى نوعى بات يمثل تهديداُ مباشراً لسيادة الدولة السورية ووحدة أراضيها ولرمزها السياسى ممثلاً فى الرئيس الانتقالى أحمد الشرع، لاسيما بعد أن وسعت إسرائيل استهدافاتها فى 2 مايو 2025 لتشمل مناطق قريبة جداً من مقر رئاسة الجمهورية السورية.

ورغم نجاح الحكومة الانتقالية فى إعادة فرض حالة الأمن فى مناطق التوتر الطائفى بالسويداء وريف دمشق (جرمانا وصحنايا) بعقد عدة اتفاقات وتفاهمات أمنية- يوم 29 إبريل 2025- مع رموز وزعماء التيارات الدرزية تتضمن دخول قوات الأمن العام إلى مناطق التوتر الطائفى فى صحنايا وانتشارها فيها، مع التأكيد على حصر السلاح بيد الدولة فقط، وتعويض أهالى الضحايا، ومحاكمة المتورطين فى الأحداث، والعمل على تحييد حالة التجييش على أسس طائفية ومناطقية، إلا أن حالة الاحتقان الطائفى باتت هى السمة الرئيسية للعلاقة بين الحكومة الانتقالية وبين الأقليات خلال الشهور الثلاثة الماضية، وهى حالة مرشحة للاستمرار على المدى المنظور؛ بالنظر إلى ما سبق من أحداث فى الساحل السورى خلال شهر مارس 2025 بين قوات الأمن السورية الجديدة والعلويين من أنصار النظام السابق. وبالنظر كذلك للاتفاق الهش الموقع فى مارس من العام المذكور، بين الحكومة الانتقالية وبين قوات سوريا الديمقراطية "قسد" والقاضى بتنظيم طبيعة العلاقة بين الأكراد والدولة السورية اجتماعياً وأمنياً وسياسياُ، والذى يفترض ضمنياً إلغاء الأكراد لفكرة الانفصال عن جسد الدولة مقابل الحصول على كافة الحقوق المشروعة اجتماعياُ وسياسياً وأمنياً، وتضمين ذلك نصاً فى الدستور الجديد عند صياغته، وهو الاتفاق الذى بات على المحك فى ظل نتائج مؤتمر "وحدة الصف الكردى" الذى عُقد فى القامشلى أواخر إبريل 2025، والذى أعادت خلاله التيارات الكردية أهمية الطرح القاضى بالحفاظ على إدارة ذاتية واحدة للأكراد فى إطار علاقة فيدرالية مع الحكومة المركزية فى دمشق إلى الواجهة مجدداً، ما يُعد نكوصاً من جانب "قسد" عن اتفاق شهر مارس المبرم مع الحكومة السورية.  

وتزامن التوصل لاتفاقات بين الحكومة الانتقالية فى دمشق وبين رموز وزعماء الطوائف الدرزية، بالصيغة المشار إليها آنفاً، مع قيام الرئاسة السورية بإصدار بيان اعتبرت فيه أن استهداف إسرائيل لمحيط القصر الرئاسى يعد "تصعيداً خطيراً ضد مؤسسات الدولة وضد سيادتها"، وإنه يعكس مساعٍ خارجية تستهدف استمرار زعزعة الاستقرار الداخلى وتفاقم الأزمات الأمنية"، مع مطالبة الدول العربية والمجتمع الدولى باتخاذ مواقف داعمة للحكومة السورية فى مواجهة الأعمال العدائية ضدها.

 فى السياق نفسه، أصدرت وزارة الخارجية بياناً رفضت فيه التدخلات الخارجية فى الشأن السورى، ونددت فيه بتوسيع إسرائيل نطاق هجماتها فى الجنوب من ناحية، وتعمدها استهداف مناطق قريبة من المقر الرئاسى فى دمشق من ناحية ثانية، إلى جانب تأكيد البيان على أن الحكومة السورية ملتزمة بحماية كافة مكونات الشعب السورى بما فيهم الدروز.

بالرغم من قتامة الوضع الطائفى بين الحكومة الانتقالية وبين بعض الطوائف الدرزية، إلا أن الأولى نجحت، ولو بصورة مؤقتة فى إدارة الأزمة لحظياً، بل ودفع طائفة الدروز إلى تبنى موقف مغاير لموقف سابق بشأن تسليم السلاح الثقيل - حازته إبان سقوط الجيش السورى وانسحابه أمام هيئة تحرير الشام فى ديسمبر 2024- وبشأن الاندماج ضمن صفوف قوات الأمن.

إذ أصبحت الطوائف الدرزية، ووفقاً للاتفاق المبرم بين رموزها ووجهائها وبين الحكومة الانتقالية، مضطرة عملياً وواقعياً لتسليم سلاحها من ناحية، واندماج شبابها من المقاتلين ضمن صفوف قوات الأمن من ناحية ثانية بعد أن أسندت إليهم الحكومة مهمة "ضبط الأمن العام" فى صحنايا والأشرفية.

ثمة آراء تقول بأن الحكومة الانتقالية بهذا الاتفاق نجحت فى إحداث حلحلة فى موقف بعض طوائف الدروز من مسالة تسليم السلاح، وهو طرح يؤيده يوسف الجربوع زعيم طائفة الموحدين، بينما يعارضه حكمت الهاجرى الزعيم الروحى للطائفة نفسها، والمتماهى مع فكرة الحماية الإسرائيلية للدروز السوريين. كما يرى أنصار هذا الرأى أن التوصل لمثل هذا الهدف - نجاح الحكومة الانتقالية فى دفع الدروز إلى اتفاقات أمنية - يعد فى حد ذاته "حلاً وسطاً" بين مطلب الحكومة بإقرار نظام حكم مركزى، وبين تطلعات الدروز لإقامة إدارة ذاتية لمناطقهم فى الجنوب على غرار الإدارة الكردية الذاتية فى الشمال.

وفى هذا الإطار، يفضل أن تمارس الحكومة السورية نوعاً من المرونة فى التفاعل مع التيارات المتشددة التى تتبع الطائفة الدرزية بهدف تفويت الفرصة على إسرائيل الساعية إلى طرح مشروع تقسيم سورية، أو على أقل تقدير فرض "الفدرالة" كواقع سورى، تسعى إلى تنفيذه عسكرياً فى الجنوب بما يمكنها من الاستمرار فى إقامة علاقات أمنية مباشرة مع الدروز فى السويداء وريف دمشق الجنوبى، ويمكنها كذلك من إنشاء مناطق منزوعة السلاح فى الجنوب السورى.

 لكن يظل موقف الهاجرى – الزعيم الروحى لطائفة الموحدين الدروز- الرافض لأى اتفاقات مع الحكومة الانتقالية مدخلاً للانقلاب على الاتفاق فى أى وقت تقع فيه حوادث طائفية جديدة ولو بصورة فردية. 

التوظيف الإسرائيلى لمخاوف الدروز

تسعى إسرائيل إلى توظيف العلاقة المتوترة بين الحكومة الانتقالية فى دمشق وبين بعض تيارات الطائفة الدرزية فى السويداء وريف دمشق الجنوبى. ويرجع البعض هذه المساعى إلى عدة أهداف منها:

1- توظيف حالة التماهى التى يبديها بعض رموز وزعماء الدروز مع دعوات إسرائيل بشأن توفير الحماية الأمنية للطائفة على مجمل أراضى الجنوب السورى، وذلك عبر دعم فكرة إنشاء كيان درزى إما فى صورة دويلة فى الجنوب، أو فى صورة إدارة ذاتية درزية تربطها بدمشق علاقة فيدرالية فقط، وذلك خدمة لرغبة إسرائيل فى وجود حلفاء يضمنون حماية مجالها الحيوى مع سوريا فى ظل الادارة الانتقالية الجديدة. والمجال الحيوى لإسرائيل مع سوريا يعنى إنشاء منطقة بعمق 80 كيلومتر داخل الجنوب السورى تكون منطقة منزوعة السلاح الثقيل بالكامل.

2- تحريك النعرة الطائفية لدى بعض تيارات وقيادات الدروز بتعزيز الرغبة فى الانفصال، ما يعنى استمرار الدور الإسرائيلى فى تغذية التوتر الطائفى عبر استنهاض القيادات الدرزية فى إسرائيل، ودفعها للتواصل مع دروز سوريا، مستغلة فى ذلك هشاشة الأوضاع الأمنية فى سوريا، فضلاً عن مخاوف كافة الأقليات من مستقبل علاقاتهم بالحكومة الانتقالية، وهو ما يعزز حالة الانقسام الداخلى ويزيد من فرص استمرارها.

3- محاولة إسرائيل كسب نفوذ متزايد داخل سوريا، بدعمها للدروز جنوباُ، فى مقابل النفوذ التركى المتزايد أيضاً؛ لاسيما بعد أن بدأت تركيا على أرض الواقع في اتخاذ خطوات ملموسة لتفعيل الاتفاقات الأمنية التى أبرمها الشرع مع تركيا فى فبراير 2025، ومنها تشغيل قاعدة تى فور وقاعدة تدمر الجوية فى محافظة حمص، وقاعدة المطار الرئيسى فى محافظة حماة. هذا النفوذ التركى المتزايد فى سوريا يفرض على إسرائيل انتهاج أحد مسارين: الأول، مسار الصدام المباشر مع تركيا فى سوريا وهو خيار له تكلفته العالية سياسياً وأمنياً بالنسبة لإسرائيل فى ظل حربها المستمرة والمفتوحة على قطاع غزة منذ عام ونصف تقريباً، ويكاد يكون مستبعداً فى الوقت الراهن، وإن اتجهت حظوظه للتزايد فى ظل أجواء التوتر التى خلقتها إسرائيل فى الجنوب السورى حالياً.

 أما المسار الثانى، فهو مسار "التهدئة والتفاهم " مع الجانب التركى؛ لأنه بإمكانه توفير الرعاية الإقليمية لتفاهمات سورية إسرائيلية ممكنة مستقبلاً تتعلق بترتيب الأوضاع فى الجنوب السورى.

مما سبق يمكن القول إن الإدارة السورية الانتقالية تواجه مستويات متعددة من التحديات الداخلية أبرزها يتمثل فى معضلات إدارة العلاقة مع المكونات الطائفية سواء الدروز أو العلويين أو الأكراد، وأن الإخفاق فى إدارة هذه العلاقة سيؤثر سلباُ على حالة السلم المجتمعى والاستقرار الأمنى ومسار الانتقال السياسى ككل. ومن ثم فإن الإدارة الانتقالية باتت مطالبة أكثر من أى وقت مضى بضرورة "ضبط تفاعلات" الفصائل المتشددة التى كانت متحالفة معها ضمن هيئة تحرير الشام لمنعها من انتهاج معالجات أمنية للأزمات تقوم على أسس طائفية أو عرقية؛ لأن تزايد الإخفاقات فى معالجة الإشكاليات الطائفية والمناطقية من شأنه أن يعزز من محاولات قوى إقليمية تسعى إلى استغلال هذه الإخفاقات وتقوم بتوظيفها لخدمة أهدافها الكبرى خاصة إسرائيل فى الجنوب، فضلاً عن أن الفوضى الناتجة عن مثل هذه الاخفاقات قد تمثل عوامل محفزة لبعض القوى الإقليمية التى تضرر نفوذها فى سوريا برحيل النظام السابق كإيران تحديداً، والتى تحاول إعادة بناء نفوذها هناك مجدداُ.