أ. د. حمدي عبد الرحمن حسن

أستاذ العلوم السياسية في جامعتي زايد والقاهرة

 

يلاحظ المراقب للنظام السياسي الأمريكي أن تفكير الرئيس دونالد ترامب يتسم بتركيزه الشديد على عظمة أمريكا، وتشككه في الأعراف السياسية والعالمية التقليدية، وموقفه العدائي تجاه من يعتبرهم أعداءً أو منتقدين لسياساته. وكثيراً ما يؤكد اعتقاده بأن البلاد كانت على شفا جرفٍ هاوٍ قبل قيادته، وأن أفعاله، بما في ذلك استخدامه المفرط للسلطة التنفيذية، ضرورية "لجعل أمريكا عظيمة مجدداً". ربما يدفع ذلك البعض إلى ابداء المخاوف من إمكانية تراجع الديمقراطية في الولايات المتحدة. كما قد يدفعنا ذلك إلى استدعاء التاريخ  في محاولة للفهم. لقد كان أعظم مراقب أجنبي للولايات المتحدة هو الأرستقراطي الفرنسي الشاب، أليكسيس دو توكفيل (1805-1859). فقد قام برحلة ميدانية لمدة عشرة أشهر داخل الولايات المتحدة في عامي 1831-1832 – في ظل رئاسة أندرو جاكسون، وهو رجل مثير للجدل بخطابه الشعبوي تماماً مثل دونالد ترامب. ويجادل  توكفيل  في كتابه "الديمقراطية في أمريكا" الذي صدر في مجلدين (نشرا عامي  1835 و1840)، بأن قوة المجتمع المدني الأمريكي - من ريادة الأعمال إلى الحرية الدينية - ستجعله قوة عظمى لا تُقهر.

بيد أن نبوءة ألكسيس دو توكفيل حول السياسة الخارجية الأمريكية لم تكن دقيقة تماماً. فقد تصوّر توكفيل أن النظام الديمقراطي الأمريكي، بطبيعته القائمة على التعددية والتنافس بين الولايات والمصالح المحلية المختلفة، سيجعل من الصعب على الولايات المتحدة صياغة وتنفيذ سياسة خارجية موحدة وفعّالة. واعتقد أن هذا الطابع التنافسي الشديد في صنع القرار الأمريكي سيمنح الدول المعادية، التي غالباً ما تتسم أنظمتها بالتركيز المركزي والقدرة على الحشد السريع، أفضلية واضحة في الساحة الدولية. وحسب رؤية توكفيل، بينما تنشغل الحكومة الفيدرالية الأمريكية بمحاولة التوفيق بين رغبات الولايات ومصالحها المتباينة، تستغل القوى المنافسة هذا الانشغال لبناء جيوشها وتوسيع إمبراطورياتها دون عوائق بيروقراطية أو سياسية كبيرة. وبهذا المنطق، رأى توكفيل أن الديمقراطية الأمريكية، رغم مزاياها الداخلية، لم تُصمَّم لتكون قادرة على الاستجابة السريعة والفعّالة للتحديات الدولية أو إدارة الأزمات الخارجية بكفاءة، مما يجعلها عرضة لخطر الخسارة في صراعات القوى الكبرى على المستوى العالمي.

ومع ذلك، يقدم التاريخ درساً معاكساً. فقد انهارت الأنظمة الاستبدادية، من الاتحاد السوفيتي بقيادة ستالين إلى ألمانيا النازية بقيادة هتلر، بينما أصبحت الديمقراطية الأمريكية المثيرة للجدل من أبرز القوى في تاريخ العالم. إن كيفية صياغة الولايات المتحدة لسياستها الخارجية منحتها ديمومة وقوة حتى أنها أضحت بمثابة شرطي العالم في كثير من الأحيان.

ترامب ومخاطر تراجع الديمقراطية

في غضون أسابيع من تنصيبه رئيساً في يناير 2025، أثار ترامب جدلاً واسعاً حول مجموعة من القضايا الجيوسياسية، بما في ذلك إعادة تسمية خليج المكسيك إلى خليج أمريكا، وعرض شراء جرينلاند، وتقديم رؤية لريفيرا غزة، والإعلان عن محادثات لإنهاء الحرب في أوكرانيا، وذلك بعد تفاخره بأنه يستطيع وقف الحرب في أوكرانيا في غضون 24 ساعة. وفي اجتماع استثنائي في البيت الأبيض في 28 فبراير 2025، اصطدم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والرئيس الأمريكي بشكل دراماتيكي حول ما إذا كان ينبغي الثقة بالرئيس الروسي فيلاديمير بوتين ومسألة التمويل الأمريكي للحرب. عندئذ طُلب من زيلينسكي مغادرة البيت الأبيض، مما أثار أزمة دبلوماسية حول مستقبل الحرب، والقروض الأمريكية، ومستقبل الأمن الأوروبي.

وعلى الصعيد الداخلي، يُعتبر ترامب رمزاً لانهيار النظام القديم في الولايات المتحدة لأنه غيّر بشكل جذري قواعد اللعبة السياسية والإدارية التي سادت لعقود. اعتمد ترامب سياسة "خلق الفوضى ثم ترتيبها"، واستهدف مؤسسات الدولة التقليدية، وألغى أو عدّل سياسات راسخة مثل برامج التنوع والشمول. كما استخدم سلطاته التنفيذية بشكل غير مسبوق لإلغاء أو تعليق قوانين عمرها عشرات السنين، مثل قانون مكافحة الرشوة في الخارج، مبرراً ذلك برغبته في تعزيز تنافسية الشركات الأمريكية حتى لو كان ذلك على حساب معايير مكافحة الفساد.

ولعل ذلك كله يطرح التساؤل حول كيفية تحليل شخصية الرئيس ترامب وكيف يفكر؟. ثمة أربعة جوانب محورية يمكن من خلالها فهم السلوك السياسي للرئيس ترامب، وهي على النحو التالي:

1- تضخيم مفهوم النظام الرئاسي

اتسمت فترة ولاية الرئيس ترامب بالاستخدام المتكرر للأوامر التنفيذية لتوسيع ولاية السلطة التنفيذية التي يحتكرها بحسبانه منتخباً من الشعب، مما أدى في كثير من الأحيان إلى تهميش الكونجرس، وفي بعض الأحيان، إلى تحدي القضاء. على سبيل المثال، منذ بداية ولايته الثانية، وقّع ترامب 143 أمراً تنفيذياً حتى كتابة هذه السطور، مستهدفاً مجموعة واسعة من القضايا من الهجرة والسياسة البيئية إلى التعليم والشئون القانونية. والجدير بالذكر أنه حاول إنهاء حق المواطنة بالميلاد لأطفال المهاجرين غير الشرعيين من خلال أمر تنفيذي - وهو إجراء تحدى بشكل مباشر التعديل الرابع عشر وتجاوز سلطة الكونجرس، ولكن في النهاية تم حظره من قبل العديد من القضاة الفيدراليين باعتباره غير دستوري.

كما أصدر ترامب أوامر بتفكيك الوكالات الفيدرالية، مثل وزارة التعليم والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وتجميد تمويل المنح الفيدرالية، وهي خطوات عطّلت الأطر التشريعية القائمة وأثارت دعاوي قضائية من الولايات وجماعات الدفاع عن الحقوق المدنية. وفي خطوة غير مسبوقة أخرى، استهدف ترامب شركات محاماة بارزة بأوامر تنفيذية، ففرض عقوبات وألغى تصاريحها الأمنية رداً على معارضتها أو مشاركتها في التحقيقات ضده، مما أثار إدانة واسعة النطاق وتحديات قانونية. وتوضح هذه الأمثلة كيف استغل ترامب الإجراءات التنفيذية لتحقيق أجندته، مخترقاً في كثير من الأحيان حدود السلطة الرئاسية ومثيراً معارضة شديدة من الكونجرس والسلطة القضائية.

2- تقويض المشروع الليبرالي

يتعارض أسلوب الرئيس دونالد ترامب بشكل مباشر مع المشروع الليبرالي، الذي يركز على حماية الحقوق الفردية، وسيادة القانون، وتعزيز التعددية، والديمقراطية. وقد دأبت سياسات ترامب وخطاباته على تقويض هذه المبادئ، محلياً ودولياً بحجة أنه يمثل الأغلبية الانتخابية. على الصعيد المحلي، سنّت إدارة ترامب إجراءات شاملة تُقوّض الحقوق الفردية. ففي أول مئة يوم من ولايته الثانية، استهدفت إدارته المهاجرين من خلال عمليات ترحيل جماعي، وفصل العائلات، وفرض قيود صارمة على اللجوء، منتهكةً بذلك القانون الدولي ومُمزّقةً بذلك المجتمعات. كما قمع حرية التعبير بتهديد الطلاب المتظاهرين - وخاصةً غير المواطنين - بالاحتجاز والترحيل لممارستهم حقهم في حرية التعبير. كما هاجمت إدارته حرية الصحافة، واستهدفت الصحفيين، واستخدمت السلطة التنظيمية لتقويض الإعلام المستقل، وكلها أمور أساسية للديمقراطية الليبرالية. كما أدت إجراءات ترامب التنفيذية إلى مزيد من التراجع عن حماية النساء، والأقليات العرقية، بما في ذلك السياسات المناهضة للتحول الجنسي، ومحاولات إضعاف الحقوق الإنجابية، والإغلاق القسري لبرامج التنوع والمساواة والشمول. وتمثل هذه الإجراءات مجتمعةً اعتداءً واسع النطاق على حقوق الفئات المهمشة من وجهة نظر المشروع الليبرالي الذي يطالب به الحزب الديمقراطي.

وعلى الصعيد الدولي، قلل ترامب من أولوية القيم الليبرالية في السياسة الخارجية الأمريكية، معرباً عن إعجابه بالقادة الذين يحكمون بيد من حديد، ومقللاً من أهمية حقوق الإنسان لصالح الاعتبارات الأمنية والاقتصادية. وقد يرى البعض أن هذا التوجه يُقوِّض أسس النظام الليبرالي العالمي الذي كانت الولايات المتحدة تدعمه في السابق. وتسعى مبادرات مثل مشروع 2025، التي تتماشى بشكل وثيق مع أجندة ترامب، إلى ترسيخ السلطة التنفيذية، واستبدال موظفي الخدمة المدنية القائمين على الجدارة بموالين، وتفكيك الوكالات التي تحمي الحقوق المدنية، وتجريم السلوكيات التي تحميها المعايير الليبرالية. ولذلك يحذر خبراء قانونيون من أن هذه المقترحات ستُقوِّض سيادة القانون، وفصل السلطات، والحريات المدنية، وهي عناصر جوهرية في المشروع الليبرالي.

 3- البرجماتية الوطنية والصفقات

يتعامل ترامب مع العلاقات الدولية كصفقات تجارية، وعلى سبيل المثال ينظر إلى التحالفات الأمريكية والمساعدات الخارجية من منظور "ما تحصل عليه الولايات المتحدة في المقابل". كما تُعامل الدول إما بحسبانها زبائن أو منافسين: إما أن تدفع حصتها مثل أعضاء الناتو أو تخاطر بفقدان الدعم الأمريكي. وفي هذا السياق، يُنظر إلى العجز التجاري كدليل على الخداع، بغض النظر عن العوامل الهيكلية أو الاستراتيجية طويلة المدى.

ويعتقد ترامب أن سيادة الولايات المتحدة يجب أن تتجاوز المؤسسات العالمية والاتفاقيات متعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية، واتفاقية باريس للمناخ. كما أنه يُصوّر العديد من القضايا الدولية - مثل الهجرة، والتجارة، وصعود الصين - كتهديدات مباشرة لقوة الولايات المتحدة وكبريائها.

وفي هذا السياق، كثيراً ما يرفض ترامب المبادئ الاستراتيجية الأمريكية الراسخة، فقد انتقد مبدأ مونرو، لكنه أعاد إحياء روحه لمواجهة الصين في أمريكا اللاتينية. كما أن لديه نظرة متشككة أو عدائية تجاه "العولمة"، مُعارضاً التدخل الأمريكي ما لم يُحقق مكاسبَ وطنية فورية.

وعليه، تسيطر عليه مقولات المباراة الصفرية التي محورها أن هناك رابحين وخاسرين. إذ غالباً ما ينظر ترامب إلى السياسة الدولية من منظور ثنائي: الحلفاء مقابل الأعداء والولاء مقابل الخيانة. وهذا التفكير المتحيز يؤثر غالباً على خطابه السياسي.

 4- مبعوث العناية الإلهية

 يتصرف دونالد ترامب وكأنه مبعوث العناية الإلهية، حيث يلاحظ من أسلوبه السياسي وتحالفاته أنها غالباً ما تستلهم لغةً ومواضيع دينية تُثير هذا الشعور، لا سيما من خلال علاقته بحركة إنجيل الرخاء وخطاب الاستثنائية الأمريكية. ويُعدّ ارتباط ترامب الوثيق بقادة إنجيل الرخاء، مثل باولا وايت، التي وصفها ترامب بـ"راعيته الشخصية"، ورئيسة مكتب الايمان في البيت الأبيض، محورياً في هذه الديناميكية. يُعلّم إنجيل الرخاء أن النجاح المادي والسلطة هما من علامات الرضا الإلهي - وهي رسالة تعكس تصوير ترامب لنفسه كقائد ناجح ومختار على نحو فريد. وغالباً ما تمزج خطابات ترامب الموجهة إلى الجماهير الإنجيلية والخمسينية بين اللغة الدينية والقومية، مُصوّرةً رئاسته كجزء من خطة أوسع، تكاد تكون قدرية، لعظمة الولايات المتحدة. وقد برر العديد من المؤيدين والقادة الإنجيليين دعمهم لترامب بالقول إن الله يستخدم أفراداً غير كاملين لتحقيق مقاصد إلهية، مما يُعزز فكرة الرسالة الخاصة.

ويرتبط هذا السرد بجذور عميقة في الاستثنائية الأمريكية، أي الاعتقاد بأن للولايات المتحدة مصيراً فريداً منحها الله إياه لقيادة العالم أو إنقاذه. ويستحضر ترامب الاستثنائية الأمريكية، ولكن مع لمسة جديدة: فبدلاً من المهمة التقليدية لنشر الديمقراطية عالمياً، يُصوّر مصير الولايات المتحدة على أنه استعادة السيادة، واستعادة العظمة، وحماية شعبها أولاً. يردد خطابه صدى لغة "قدرية" وفكرة أن الولايات المتحدة مُتميزة ومُباركة، ومُكلفة بدور خاص في التاريخ.

ختاماً، يرى الكثير من الباحثين والمراقبين أن أفعال وسياسات دونالد ترامب، وخاصةً خلال ولايته الثانية، تُشكل تهديداً كبيراً للمشروع الديمقراطي الأمريكي، كما وصفه ألكسيس دو توكفيل. فقد شدد توكفيل على أهمية دور الولايات والمشاركة المدنية، وتوزيع السلطة، وحماية حقوق الأقليات، باعتبارها ركائز الديمقراطية الأمريكية. كما أنه حذّر من أن الديمقراطية قد تنحدر إلى الاستبداد إذا ما ازداد تركيز السلطة أو إذا قمعت الأغلبية حقوق الأقليات.

وعليه، فإن تضخيم ترامب لوظائف السلطة التنفيذية، وجهوده لتهميش المؤسسات المستقلة أو السيطرة عليها (مثل القضاء والصحافة والوكالات الفيدرالية)، وهجماته على المجتمع المدني والأصوات المعارضة، كلها عوامل تُقوِّض هذه المبادئ التوكفيلية بشكل مباشر. وتمثل خطوات إدارته لإعادة تصنيف العاملين الفيدراليين كموظفين معينين سياسياً، وتطهير الوكالات مما يُنظر إليه على أنه خيانة، وتفكيك آليات التنظيم والرقابة، مركزية للسلطة تُقوِّض التوازن الفيدرالي والاستقلالية المحلية التي كان توكفيل يُعجب بها عندما زار الولايات المتحدة.

علاوة على ذلك، غالباً ما استهدفت خطابات ترامب وسياساته الأقليات والمعارضين، والتي تذكرنا بتحذير توكفيل من "طغيان الأغلبية" ومخاطر التضحية بالحريات الفردية من أجل مصلحة الأغلبية المزعومة. وقد حذّر مئات من الكتاب من أن هذه التوجهات - مقترنةً باستخدام الأوامر التنفيذية لتجاوز الكونجرس وتجاهل استقلال القضاء - تُشكّل خطراً حقيقياً على تراجع الديمقراطية، بل وحتى تغيير النظام.