تصاعد تأثير الألغام الأرضية والعبوات الناسفة ومخلفات الحرب المتفجرة ومخازن الذخيرة غير الآمنة في إدارة تفاعلات إقليم الشرق الأوسط، خلال الربع الأول من عام 2025. إذ لا تزال تتسبب في الوفاة والإصابة بشكل يومي، وذلك بعد أكثر من ربع قرن على توقيع اتفاقية حظر الألغام المضادة للأفراد، المعروفة باسم معاهدة أوتاوا، مما يؤثر على الحركة الآمنة للمدنيين ويعقد من مهام العاملين في المجال الإنساني ويقلص فرص التجارة ومعدلات الاستثمار ويضعف محاولات إعادة الإعمار.
غير أن التأثير يتجاوز الأبعاد المتعلقة بتلك الخسائر البشرية والمادية ليصل إلى عواقب الفوضى الممتدة، وهو ما تعكسه مؤشرات مختلفة منها تعقيد مهمة التخلص من الألغام في بؤرة الصراع الليبية، وانفجار الألغام في المناطق الطرفية بتونس، وانتشار الألغام من مناطق الصراع إلى المدن السودانية، وإيقاف دعم الهيئات الدولية للمشروعات الإنسانية الخاصة بمكافحة الألغام في اليمن، وزرع الحوثيين الألغام لإعاقة عملية أمريكية برية في مناطق نفوذهم، وبدء إسرائيل عملية إزالة الألغام في الجولان، ومتاهة إدارة نزع الألغام للإدارة السورية الجديدة، واستمرار مخاطر الألغام في المدن العراقية.
ويبرز ذلك الخطر بدرجة واضحة في بؤر الصراعات والتوترات في الإقليم وتحديداً في أفغانستان والسودان وسوريا والأراضي الفلسطينية المحتلة وغيرها، وتستوي في ذلك المجتمعات المحلية الريفية والحضرية، وتتوارى مخلفات الحرب في الحقول وعلى الدروب والطرق، لدرجة أنه في اليوم الدولي للتوعية بخطر الألغام الموافق 3 ابريل 2025، حذر الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش من أن أكثر من 100 مليون شخص حول العالم يواجهون هذا الخطر، وهو ما أكده أيضاً مسئولون في دائرة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام (أونماس).
اتجاهات عاكسة
يمكن القول إن هناك اتجاهات عاكسة لمحورية دور ملف الألغام في إدارة تفاعلات الشرق الأوسط، خلال الثلث الأول من عام 2025، وذلك على النحو التالي:
1- تعقيد عملية التخلص من الألغام في بؤرة الصراع الليبية: يكشف ملف الألغام عن تحدٍ إضافي لبناء السلام بين الأطراف المتصارعة، وهو ما اتضح في الحالة الليبية بعد سقوط نظام معمر القذافي، وانتشار الأسلحة والذخائر في أوساط الليبيين المسلحين، حيث قالت فاطمة زريق رئيسة برنامج الأعمال المتعلقة بالألغام في ليبيا، في تصريحات بتاريخ 3 أبريل 2025، أن ليبيا لا تزال تعاني من مخلفات الحرب، وأضافت أنه بين مايو 2020 وأوائل عام 2025، تم تسجيل أكثر من 200 حادث أسفر عن أكثر من 300 ضحية، من بينهم 125 قتيلاً، والعديد منهم من المدنيين والأطفال.
وتشير التقديرات الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة إلى أنه تم تطهير أكثر من مليون من مخلفات الحرب من المتفجرات وحوالي 54 طناً من ذخائر الأسلحة الصغيرة في ليبيا منذ عام 2011. إلا أن التحدي لازال قائماً، إذ أكدت زريق أن "تطهير ليبيا (من مخلفات الحرب) ليس مجرد مهمة تقنية، بل هو جهد إنساني وجهد لبناء السلام. يتعلق الأمر بإنقاذ الأرواح واستعادة الثقة وتمكين الناس من العودة إلى ديارهم".
2- انفجار الألغام في المناطق الطرفية بتونس: تعاني المناطق الآهلة بالسكان في تونس قرب المناطق الهامشية أو الطرفية وتحديداً الجبال والمرتفعات في القصرين، ومن بينها السلوم والشعانبي، من انتشار الألغام التقليدية الصنع التي وضعتها جماعات متطرفة في ذروة نشاطها بعد الحراك الثوري في نهاية عام 2010 وبداية عام 2011. وقد تسببت في وفاة عدد من المدنيين والعسكريين، فضلاً عن بتر أرجل المصابين. وفي هذا الإطار، توفى شخص وأصيب آخر في 4 أبريل 2025، نتيجة انفجار لغم في جبل السلوم بولاية القصرين. ولذا، تصدر المحاكم التونسية المتخصصة في قضايا الإرهاب أحكاماً متشددة بحق المتورطين في زراعة الألغام ما بين الإعدام والسجن المؤبد مع المراقبة الإدارية لمدة خمسة أعوام.
3- انتشار الألغام من مناطق الصراع إلى المدن السودانية: أدى تمدد بؤرة الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، على مدى عامين، إلى انتشار كثيف لحقول الألغام في مدن وقرى مختلفة، كانت بعيدة نسبياً عن مجريات الصراع، ثم أصبح المزارعون، والأطفال، وحتى العائدون إلى منازلهم هدفاً سهلاً لتلك الألغام، خاصة أن قوات الدعم السريع توسّعت في استخدام الألغام بشكل عشوائي في ارتكازاتها في الشوارع الرئيسية وداخل الأسواق والأحياء لإعاقة تقدم القوات المسلحة وتأمين فرارها. وعلى مدار الأشهر من نهاية عام 2024 وبداية عام 2025، عجّت مواقع التواصل الاجتماعي، وحسابات السودانيين بتلك المنصات، بمقاطع فيديو وصور تُوثِّق انتشار الألغام في الأحياء السكنية وعلى الطرقات، إلى جانب مشاهد مؤلمة لضحايا تلك المتفجرات.
4- زرع الحوثيين الألغام لإعاقة عملية أمريكية برية: تزامنت زيادة الغارات العسكرية الأمريكية في الأسابيع القليلة الماضية على مواقع الحوثي في اليمن وخاصة في مناطق سيطرتهم بصنعاء وصعدة والجوف ومآرب وعمران مع تكثيف الحوثيين لزراعة الألغام في ميناء الحديدة الاستراتيجي على البحر الأحمر ووسط التجمعات السكانية تحسباً لعملية عسكرية برية من المتوقع أن تخطط القوات الحكومية لتنفيذها بالتنسيق مع الجيش الأمريكي لمهاجمة المدينة وانتزاعها من سيطرتهم بعد تزايد عملياتهم ضد السفن التجارية والملاحة الدولية في أعقاب حرب غزة الخامسة.
ووفقاً لما ذكرته صحيفة "وول ستريت جورنال" في تقرير في أبريل الجاري، فإن بعض المسئولين الأمريكيين أبدوا انفتاحاً على دعم عملية برية تقودها قوات يمنية محلية ضد الحوثيين، لكن لم يُتخذ بعد قرار نهائي بشأن طبيعة هذا الدعم أو توقيته، لاسيما في ظل "عقدة فيتنام" التي أدت إلى انسحاب الجيش الأمريكي منها في خمسينات القرن الماضي. ولذا، تشير بعض الكتابات إلى أن اليمن هي "فيتنام الخليج" سواء للقوات التحالف العربي بقيادة السعودية أو الولايات المتحدة.
5- إيقاف دعم الهيئات الدولية للمشروعات الإنسانية الخاصة بمكافحة الألغام في اليمن: يسهم إعاقة تدفق الموارد المالية المخصصة للتخلص من الألغام في الحد من الجهود المبذولة من الدول أو المنظمات، لاسيما في حال قيام بعض الجماعات أو المليشيات المسلحة بزرع الألغام في سبيل تعزيز سيطرتها، حيث تشير بعض التقارير إلى قيام المليشيا الحوثية بزراعة أكثر من 2 مليون لغم في مناطق واسعة في البلاد. لذا، انتقد مدير عام المشروع السعودي لتطهير الأراضي اليمنية من الألغام (مسام)، أسامة القصيبي، في تصريحات بتاريخ 4 أبريل 2025، موقف بعض الدول والمنظمات الدولية التي أوقفت دعمها للمشروعات الإنسانية الخاصة بمكافحة الألغام في اليمن. وأكد أن الحوثيين يستمرون في زراعة الألغام العشوائية بشكل مكثف في مختلف أنحاء البلاد، ما يشكل خطراً كبيراً على المدنيين.
وتشير بعض الكتابات إلى خطر الألغام والذخائر غير المنفجرة من مخلفات الحرب التي من الوارد أن تجرفها السيول من المواقع الملوثة إلى المناطق السكنية والزراعية خلال موسم الأمطار فيما يطلق عليه "الألغام المهاجرة". لذا، دعا بيان صادر عن المشروع السعودي لتطهير الأراضي اليمنية من الألغام "مسام"، بتاريخ 27 أبريل 2024، كافة المزارعين ورعاة الأغنام والإبل في الوديان والمزارع والصحاري، خصوصاً في مناطق التماس الملوثة بالألغام، إلى الحذر في التعامل مع كل ما يجدونه من أجسام غريبة جرفتها سيول الأمطار الغزيرة إلى مناطقهم.
فقد تم تسجيل عدة حوادث خلال الأعوام الماضية في محافظات مأرب، والجوف، وحجة، وشبوة، والبيضاء، والضالع، ولحج، وتعز والحديدة، نتيجة انفجارات ألغام وعبوات متفجرة أخرى في مناطق كانت آمنة، نتيجة جرف السيول لتلك الأجسام الخطيرة. وهنا، تصنف الأمم المتحدة اليمن بأنها واحدة من أكثر بؤر التلوث بالألغام الأرضية على مستوى العالم، ووفقاً لتقرير سابق لمكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع، فإن اليمن يحتل المرتبة الثالثة بين البلدان الأكثر تضرراً بالألغام الأرضية ومخلفات الحرب من المتفجرات.
6- بدء إسرائيل عملية إزالة الألغام في الجولان: أعلنت إسرائيل في 4 مارس 2025 بدء إزالة الألغام على الشريط الحدودي في الجولان، بعد توغل إسرائيلي بين محافظتي درعا والقنيطرة جنوب غربي سوريا. وفي هذا السياق، جاء في بيان وزارة الدفاع الإسرائيلية حينذاك: "يتم نشر فرق عمل في المناطق المحيطة بمجتمع عين زيفان لإزالة الألغام والذخائر غير المنفجرة المدفونة في الأرض هناك".
7- متاهة إدارة نزع الألغام للإدارة السورية الجديدة: يعد من الإشكاليات الرئيسية التي تواجه السلطة الانتقالية الجديدة في سوريا مواجهة الألغام بعد أكثر من 13 عاماً من الحرب بين قوات الجيش السوري السابق وقوى المعارضة المسلحة وكذلك التنظيمات الإرهابية، بحيث أصبحت مساحات شاسعة من سوريا مليئة بالألغام في ظل عدم وجود خرائط محددة تشير لمواقع انتشارها، وهو ما يهدد حياة المدنيين، إذ أن آلاف الأشخاص العائدين إلى منازلهم، بعد سقوط حكم الرئيس السابق بشار الأسد معرضون لخطر شديد يعرقل عمليات إعادة الإعمار.
وتشير التقارير الصادرة عن المراصد الحقوقية إلى تعرض العشرات من المدنيين السوريين في الحقول والقرى والمدن في تدمر وحماة وحمص ودير الزور، للوفاة أو الإصابة، في أثناء قيامهم بعمليات تفكيك أو إزالة الألغام، من دون توفر التجهيزات اللازمة أو الدعم التقني، مما يكشف حجم المخاطر المتزايدة التي تواجهها جهود نزع الألغام في سوريا. كما دعت منظمة Save the Children في منتصف مارس 2025 الإدارة السورية الجديدة والمانحين الدوليين إلى تسريع عملية إزالة الألغام والذخائر غير المنفجرة.
8- استمرار مخاطر الألغام في المدن العراقية: لازالت المدن العراقية موبوءة بالألغام، سواء بسبب الحرب العراقية الإيرانية أو تحرير الكويت من الغزو العراقي أو الاحتلال الأمريكي للعراق أو الاستيطان الداعشي لمدن عراقية. وفي هذا السياق، قالت المتحدثة الرسمية باسم اللجنة الدولية للصليب الاحمر في العراق، هبة عدنان لـبعض المواقع الإخبارية بتاريخ 4 أبريل 2025: "تمتد الألغام الأرضية والمخلفات الحربية المتفجرة على مساحةٍ تقدر بـ 2100 كيلومتر مربع في العراق، أي ما يعادل نحو 300 ألف ملعب كرة قدم." وأشارت هبة إلى أن الألغام والمخلفات الحربية تشكل تهديداً مستمراً على حياة المدنيين، وتحول دون عودة العوائل النازحة إلى مناطقها، وتقيد إمكانية الوصول إلى الأراضي الزراعية، وتبطئ من جهود إعادة الإعمار. ووفقاً لما تشير إليه إحصائيات اللجنة الدولية للصليب الأحمر في العراق، تسببت الألغام والمخلفات الحربية خلال عامي 2023 و2024، بمقتل وإصابة ما مجموعه 78 ضحية.
محور رئيسي
خلاصة القول، إن ملف الألغام صار محوراً رئيسياً في تفاعلات الشرق الأوسط خلال الثلث الأول من عام 2025، بسبب الإشكاليات اليتي يثيرها داخل الدول وبين الدول، ويظل التحدي مرتبطاً بغياب إحصائيات دقيقة عن العدد الفعلي للألغام المزروعة في بؤر الصراعات، خاصّة أن المعارك ماتزال مستمرة في ليبيا واليمن والسودان وسوريا، كما أن الألغام لا تترك تأثيرها فقط على الأجساد، بل تدمر قطاعاً من المجتمعات جسدياً، حيث تتسبب في البتر، العمى، العقم، والإجهاض وغيرها من العاهات المستديمة، فضلاً عن ضعف أو نقص الموارد المالية المخصصة لأطر المواجهة.