تراجع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في التاسع من إبريل الجاري (2025) عن القيود التجارية الجديدة المفروضة على السلع المستوردة، معلناً تعليق الرسوم الجمركية الجديدة التي فُرضت على الواردات الأمريكية في 2 إبريل لمدة 90 يوماً مع خفض الرسوم الجمركية المتبادلة إلى 10% فقط بدلاً من الحد الأقصى المقرر لها عند 50%. وتمثل هذه الخطوة تحولاً جذرياً للسياسة التجارية للإدارة الأمريكية، حيث تهدف لتجنب الأضرار التي كانت ستلحق بالاقتصاد الأمريكي والعالمي نتيجة التعريفات الجمركية الجديدة، ومنها ضعف وتيرة نمو الاقتصاد الأمريكي والعالمي وزيادة الضغوط التضخمية. ومن ثم يحمل تجميدها لمدة ثلاثة أشهر إشارات إيجابية للاقتصادات والأسواق المالية العالمية، في حين ستحقق واشنطن مكسباً آخر، ألا وهو انفتاح دول العالم الآن وأكثر من أي وقت مضى على التعاون مع إدارة ترامب لإبرام صفقات تجارية واستثمارية مربحة.
تكتيك تفاوضي
أثارت التعريفات الجمركية الشاملة التي فرضتها الإدارة الأمريكية برئاسة دونالد ترامب على معظم دول العالم في 2 إبريل الجاري الكثير من التكهنات حول ما إذا كانت واشنطن جادة بالفعل في تطبيقها أم أنها مجرد تكتيك تفاوضي للحصول على تنازلات اقتصادية وتجارية من قبل شركائها التجاريين الرئيسيين[1]. فمن منظور جيوسياسي، عادة ما تُستخدم هذه الرسوم الجمركية العالية كأدوات ردع وإكراه ضد الشركات والحكومات الأجنبية لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية مستقبلية[2]. وطٌرحت هذه التعريفات كمحاولة أساسية من قبل إدارة ترامب لتصحيح الاختلال المزمن للميزان التجاري، ودعم التصنيع، فضلاً عن زيادة الإيرادات الضريبية، وخفض العجز المالي والدين العام الأمريكي[3].
وإضافة إلى تعريفات جمركية عامة بنسبة 10% على جميع الواردات الأمريكية، أعلنت الإدارة الأمريكية في 2 إبريل الجاري عن فرض رسوم جمركية متبادلة خاصة تستهدف 57 دولة بنسب تتراوح بين 10% إلى 50%[4]، هذا قبل أن تعلق الإدارة الأمريكية في التاسع من نفس الشهر تطبيق التعريفات الجديدة لمدة 90 يوماً[5]. وليس بغريب أن يكون عدم اليقين والتقلب السريع الذي يحيط بالسياسة التجارية الأمريكية تكتيكاً تفاوضياً تهدف الإدارة الأمريكية من خلاله دفع حكومات العالم لعقد صفقات تجارية مربحة مع واشنطن في الأجل المنظور[6].
المصدر: منظمة التجارة العالمية
صدمة بالأسواق
أحدثت السياسة التجارية الأمريكية المعلنة حديثاً صدمة كبيرة بالأسواق المالية العالمية والأمريكية، ففي اليومين الأولين عقب إعلان ترامب عن الرسوم الجمركية، انخفض مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" (S&P 500) بنسبة 10.5% أو ما يعادل خسائر سوقية للشركات المدرجة به بقيمة 5 تريليون دولار[7]، ما يعكس حالة عدم اليقين الناجم عن تأثير التعريفات الجمركية على الاقتصاد العالمي وأرباح الشركات الكبرى[8].
الافتراض الأساسي أن التعريفات الجمركية الأمريكية المفروضة في 2 إبريل كانت ستقود لضعف نمو الاقتصاد الأمريكي مع احتمال تعرضه للركود، فضلاً عن أنها كانت ستزيد من الضغوط التضخمية المحلية، وما سيصاحب ذلك من تعقيدات إدارة السياسة النقدية الأمريكية من قبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. ويرى بنك "آي إن جي" الهولندي (ING) أن التعريفات الجمركية الجديدة كانت ستحمل المستهلك الأمريكي تكاليف جديدة تقدر بــ 1350 دولاراً سنوياً، وذلك اعتماداً على درجة نقل أعباء هذه الرسوم من الشركات إلى المستهلكين.
فإذا ما كانت التحديات الاقتصادية المتعددة المذكورة سلفاً تمثل دافعاً منطقياً لتأجيل الإدارة الأمريكية الرسوم الجمركية، فإن ذلك يطرح أيضاً العديد من الأسئلة حول إمكانية نجاح السياسة التجارية الأمريكية المباغتة في تحقيق أهدافها المعلنة. وترى وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني أنه وإن كانت عائدات الرسوم الجمركية ستساهم في تقليص عجز الموازنة الأمريكية في عام 2025، إلا أن الضرر الذي سيلحق بالنمو الاقتصادي والتخفيضات الضريبية الأخرى، سيحد من مكاسبها المالية المنتظرة في الأفق البعيد[9].
فضلاً عن السابق، تشير تجارب الدول الأخرى إلى أن التعريفات الجمركية المفرطة أثبتت فعالية محدودة في الحد من العجز التجاري المزمن، ذلك بالنظر إلى تأثيرها السلبي على الصادرات في الأمد الطويل، من خلال قناتين وهما، تأثير قوة العملة أو الإجراءات الانتقامية للشركاء التجاريين[10]. فضلاً عن ذلك، فلن تكون السياسة التجارية كافية بمفردها لإنعاش الصناعة الأمريكية، ذلك بالنظر إلى هيكل "سلاسل القيمة العالمية"، والذي يسيطر عليه المنتجون الآسيويون ذوو العمالة الرخيصة والإنتاجية العالية. ومن ثم، يبدو أن إعادة سلاسل التوريد بأكملها إلى الولايات المتحدة فكرة غير واقعية ليس بسبب تكاليفها العالية فحسب وإنما التعقيدات التقنية والسياسية التي تنطوي عليها[11].
ارتباك عالمي
وكما يتبين من الاستعراض السابق، تميل التدابير الحمائية في كثير من الأحيان لتحقيق نتائج عكسية، سواءً بالنسبة للدولة التي تتبناها أوحتى المتضررين منها. وتشير الافتراضات الأساسية إلى أن تطبيق الرسوم الجمركية المعلنة في 2 إبريل الجاري ستحمل عواقب وخيمة للاقتصاد العالمي، مرشحة للتفاقم كلما زادت الإجراءات الانتقامية من قبل شركاء الولايات المتحدة[12]، أو بمعنى آخر قد يتسع نطاق التصعيد المتبادل بين الولايات المتحدة ودول العالم لتصل إلى حرب تجارية دولية واسعة[13].
وقد توقعت شركة "أليانز" أن ينخفض الناتج المحلي العالمي بنقطة مئوية ويرتفع التضخم في العالم ما بين 0.7 و1.5 نقطة مئوية في الأمد المتوسط بسبب التعريفات الجمركية الأمريكية الجديدة [14]، كما أن التجارة العالمية قد تنكمش بنسبة 1% في ضوء التعريفات الأمريكية المعلنة منذ بداية عام 2025، وفق تقديرات منظمة التجارة العالمية[15].
وقد تكون الدول الآسيوية أكبر الخاسرين من تطبيق الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة، ليس هذا لأنها تواجه رسوماً جمركية أعلى من غيرها فحسب، بل إن صادراتها أكثر انكشافاً على السوق الأمريكية[16]. ومن المحتمل أن يتراجع الناتح المحلي لفيتنام وتايلاند بــ 5.5 نقطة مئوية و3 نقاط مئوية على التوالي، بسبب الرسوم الجمركية الأمريكية العالية المفروضة على وارداتهما[17].
كما تحيط القيود التجارية الأمريكية بتهديدات أكبر للاقتصاد الصيني، فمن المتوقع أن ينخفض الناتج المحلي الصيني بما يتراوح بين 0.4 و0.8 نقطة مئوية بسبب الرسوم الجمريكة الأمريكية، مما يُفاقم فائض الطاقة الصناعية لديها ويضعف الأداء الاقتصادي[18]، وهذه الآثار السلبية مرشحة للاتساع مع رفع الرسوم الجمركية المفروضة على الصادرات الصينية للسوق الأمريكية من 104% إلى 125% مؤخراً[19]. ومع احتمالية زيادة تعرض الاقتصادات الآسيوية لتبعات الرسوم الجمركية الأمريكية، قد تتعرض عملات الاقتصادات الناشئة لانخفاضات حادة إلى جانب احتمال تدهور جدارتها الائتمانية وارتفاع مستويات ديونها، وفق "بنك جي بي مورجان" [20].
أما بالنسبة لمنطقة اليورو، فيقدر أن يتأثر آفاق اقتصاداتها بسبب الرسوم الجمركية الأمريكية المتبادلة المقدرة بنسبة 20%. وخفض بنك "آي إن جي"، قبل تعليق الرسوم الأمريكية، توقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي بمنطقة اليورو إلى 0.6% لعام 2025 من 0.7% في السابق، وإلى 1% من 1.4% لعام 2026 [21].
تصحيح الأوضاع
إلى جانب ما استعرضناه آنفاً بشأن التبعات المحتملة للرسوم الجمركية الأمريكية، تمثل الأخيرة نقطة تحولية في مسار البيئة الاقتصادية العالمية والنظام التجاري الدولي، حيث تترك تأثيرات عميقة محتملة- قد لا تكون الدول على استعداد للاستجابة لها الآن- على سلاسل التوريد والسياسات الصناعية والاستراتيجيات الاقتصادية للدول في جميع أنحاء العالم[22]. بناء عليه، حمل تعليق الرسوم الجمركية لمدة 90 يومياً أخباراً جيدة للشركات والحكومات حول العالم، وأرسل للأسواق المالية إشارات إيجابية في طريقها نحو تصحيح أداءها المتعثر مؤخراً[23].
توحي تحركات الإدارة الأمريكية الأخيرة أنها ستتبني سياسة تجارية أكثر وضوحاً وتوجهاً نحو الصين، في حين ستخفف القيود التجارية على دول العالم الأخرى، مما سيجعل الأخيرة أكثر انفتاحاً على التعاون مع واشنطن بشأن عقد صفقات تجارية مربحة، أو الاتفاق على ضخ استثمارات كبيرة بالسوق الأمريكية[24]. ولعل إحدى الوسائل التي ستحاول بها الدول في الأجل المنظور لتجنب الرسوم الجمركية الالتزام بشراء المزيد من النفط والغاز المسال الأمريكي [25].
مع ذلك، سيستمر عدم اليقين الاقتصادي العالمي وسط فترة المفاوضات التجارية الطويلة بين الولايات المتحدة وشركائها التجاريين حول العالم[26]، مما سيتسبب في استمرار تقلبات الأسواق المالية والسلع الأساسية في الفترة المقبلة. ولكن ربما لن تولي الإدارة الأمريكية اهتماماً كبيراً لهذه التكاليف، التي تعتبرها مؤقتة وحتمية، في مقابل المكاسب طويلة الأمد التي ستجنيها من عقد صفقات تجارية أو استثمارية مربحة مع مختلف دول العالم..
[11] James Scott, Trump’s tariffs: what is behind them and will they work?, King's College London, April 2, 2025, accessible at: https://www.kcl.ac.uk/trumps-tariffs-what-is-behind-them-and-will-they-work
[18] Marieke Blom, The impact of Trump’s tariffs so far, ING, April 07, 2025, accessible at: https://think.ing.com/opinions/the-impact-of-trump-tarriffs-so-far/