شنت إسرائيل فى 2 إبريل 2025، عدة ضربات عسكرية جوية واسعة النطاق داخل العمق السورى فى حمص وحماة وجنوب دمشق، فضلاً عن توغلات برية عميقة فى درعا. الضربات الجوية شملت بنية عسكرية كبيرة من مطارات ومواقع للدفاع الجوى وقواعد عسكرية مهمة أبرزها قاعدة "تى فور T4" الجوية، فى واحدة من أكثر الضربات عنفاً واتساعاً فى الأهداف منذ تولى الرئيس الانتقالى أحمد الشرع رئاسة الدولة فى اواخر يناير 2025. ورغم أن إسرائيل اعتادت استباحة الأجواء السورية كما استباحت الجنوب السورى نفسه برياً بصورة متزايدة منذ ديسمبر 2024 بذريعة تأمين حدودها فى مواجهة نظام سورى جديد لم تستبين بعد توجهاته السياسية والعسكرية تجاهها، إلا أن اعتداءات الثانى من أبريل كانت مختلفة إلى حد كبير عن مثيلاتها سواء من حيث التوقيت أو من حيث الدوافع والأسباب.
أسباب التصعيد ودوافعه
الاعتداءات الإسرائيلية الواسعة ضد سوريا تأتى فى ظل توقيت إقليمى تتصاعد فيه التطلعات التوسعية لدولة الاحتلال وتتزايد سياستها نحو تأجيج حالة من الصراع الإقليمى على هامش تفاعلات المنطقة منذ عملية طوفان الأقصى فى أكتوبر 2023، عبر مواصلة اعتداءاتها العسكرية ضد حزب الله فى جنوب لبنان رغم اتفاق وقف اطلاق النار المبرم بينهما منذ نوفمبر 2024، واستكمال مسيرة حرب الإبادة فى قطاع غزة بعد انتهاء المرحلة الأولى من اتفاق الهدنة – بدأت فى 19 يناير وانتهت فى 1 مارس 2025- بخلاف توسعها العسكرى على حساب الجنوب السورى فى درعا والقنيطرة، كما استغلت حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة حالة الدعم المطلق التى قدمها لها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب وهى حالة منحت تل أبيب "فرصة تاريخية كبرى" لتحقيق أهدافها التوسعية بشأن تعديل منطقة الشرق الأوسط تحت ذريعة حماية أمنها القومى، لاسيما فى ظل تراجع دور "محور المقاومة" الإقليمى برعاية إيران فى لبنان والعراق وسوريا، ومن ثم تراجع التكلفة الأمنية والعسكرية التى كانت تتحسب لها دولة الاحتلال خلال نشاطها العسكرى التوسعى فى المنطقة.
أما أسباب ودوافع توسيع إسرائيل لنطاق ضرباتها الجوية داخل العمق السورى فهى تتمحور معظمها حول رغبتها فى منع استحواذ الإدارة السورية الجديدة على ممتلكات النظام السابق من أسلحة ومعدات وترسانة عسكرية ضخمة، وذلك بهدف إبقاء سوريا الجديدة أمامها كدولة "ساحة"؛ بما يعنى استباحتها فى أى وقت تريده وبالكيفية العسكرية التى ترغبها الحكومة اليمينية الإسرائيلية المتطرفة، وهى فى سبيل ذلك ترغب فى جعل سوريا دولة ضعيفة عبر استكمال عمليات تفكيك وضرب بنيتها العسكرية لاسيما المطارات والدفاع الجوى وقواعدها الجوية، وإبقائها كذلك دولة بلا سيادة كاملة على مجمل أراضيها عبر احتلالها الجنوب السورى وإنشاء بنية عسكرية ولوجستية متقدمة فيه بمسافة قدرها البعض بأنها تتراوح ما بين 200 إلى 600 كيلومتر، والتمهيد كذلك لمشروع التقسيم الذى تستهدفه بقوة باقتطاع الجنوب ضمن دولة يحكمها جماعات محلية موالية لها كبعض الطوائف الدرزية، فضلاً عن دعم فكرة إنشاء دولة كردية فى الشمال ترتبط بها بعلاقات تعاون عسكرية وسياسية قوية، أما الوسط السورى فتسعى الحكومة الإسرائيلية إلى وضعه تحت "مجهر المراقبة" ضمن معادلة إقليمية أوسع تبقيه إما فى حالة ضعف عسكرى وأمنى مستمر، عبر تأجيج عوامل عدم الاستقرار الأمنية والطائفية ضد الحكومة الانتقالية على المدى الطويل، وإما تجعله نظاماً مهادناً لها وغير عدائي، هذا إلى جانب مساعيها بشأن فكرة إبقاء الجنوب السورى منزوع السلاح - المتوسط والثقيل - ورفضها وجود قوات أمنية تتبع الحكومة الانتقالية فيه .
وتجدر الإشارة إلى أن مشروع تقسيم سوريا المستهدف من قبل إسرائيل بالكيفية السابقة يهدد حالة الاستقرار الإقليمي فى المنطقة، فضلاً عن كونه يتعارض بصورة مباشرة مع حسابات ومصالح تركيا الأمنية التى تتمحور حول حتمية إبقاء سوريا دولة واحدة وموحدة منعاً لاستقلال الشمال السورى تحت راية قوات سوريا الديمقراطية "قسد" التى تصنفها تركيا قوات معادية بالنظر إلى تحالفاتها مع حزب العمال الكردستانى التركى المعارض. ومن هنا يبدو أن تعارض المشروعين الإسرائيلى والتركى بشأن مستقبل سوريا بدأ يأخذ منحى متصاعداً تتزايد فيه معدلات التوتر بين الطرفين، وانعكس ذلك بصورة مباشرة فى توقيت العمليات العسكرية الواسعة التى شنتها إسرائيل مؤخراً، والتى جاءت بعد أنباء تواردت بشأن وجود عسكريين أتراك كانوا فى مهمة عمل عسكرية داخل عدد من القواعد الجوية والمطارات السورية بهدف إعادة تأهيلها لتدخل نطاق الخدمة العسكرية.
كما أشيع بأن القاعدة الجوية المستهدفة (T 4) كانت تركيا تسعى لجعلها مركزاً لوجود عسكرى دائم لها فى وسط سوريا تفعيلاً لما سبق وأن أعلنت عنه الدولتان، فى يناير الماضى، بشأن إبرام اتفاقات للدفاع العسكرى المشترك بينهما تتضمن إعادة تأهيل الجيش السورى تدريباً وتسليحاً، إلى جانب سيطرة تركيا على ثلاثة قواعد عسكرية وسط سوريا وهى قاعدتى تى فور، وتدمر فى محافظة حمص، والمطار الرئيسى فى محافظة حماة بهدف جعلها مراكز للتواجد العسكرى التركى، وهو ما ترفضه إسرائيل لأنه يعنى اتساع نطاق النفوذ التركى وتمدده من الشمال نحو الوسط بما تعتبره تهديداً لأمنها فى الجنوب السورى المحتل، هذا بخلاف أن تأهيل تركيا للجيش السورى سيكون تأهيلاً عسكرياً على درجة عالية من التطور والتحديث التقنى بالنظر إلى عضوية تركيا فى حلف الناتو؛ حيث تمكنها هذه العضوية من التمتع بمنظومة دفاع جوى عسكرية فائقة القدرات الدفاعية والقتالية والتكنولوجية، ومن ثم فإن بناء تركيا وجوداً عسكرياُ فى سوريا بهدف إعادة تأهيل الجيش السورى بات يشكل مصدر قلق كبيراً لإسرائيل؛ لأنه سيضع قيوداً على حالة استباحتها المستمرة للأجواء السورية بما يتعارض مع رغبتها فى إبقاء سوريا الجديدة ضعيفة عسكرياً.
فى السياق نفسه، فإن إسرائيل وتركيا تسعيان وربما بصورة غير مباشرة إلى إرساء "معادلة عسكرية جديدة" فى سوريا؛ فبالنسبة لتركيا تسعى – عبر اتفاقات الدفاع المشترك – إلى دعم الإدارة الانتقالية ودعم قدرتها على تحقيق الاستقرار السياسى والأمنى والاقتصادى داخلياً، بما يخدم فى النهاية المصالح التركية العسكرية والاقتصادية فى سوريا. هذا الدعم سيؤدى إلى "تقوية" وضع الرئيس الانتقالى أحمد الشرع ليس فى معادلة الاستقرار الداخلى فقط، ولكن أيضاً تقوية موقفه فى معادلة التفاعلات الإقليمية ككل بما فيها مواجهة إسرائيل سياسياً، من خلال دعوة المجتمع الدولى إلى تحمل مسئوليته فى الضغط عليها لمنعها من انتهاك سيادة الدولة السورية، ودفعها إلى التفاوض بشأن "اتفاقية" جديدة من شأنها إعادة الوضع فى الجنوب السورى إلى ما كان عليه قبل نقضها اتفاقية فض الاشتباك. أما بالنسبة لإسرائيل؛ فهى تحاول فرض معادلة عسكرية تتمحور فى الإبقاء على وجود عسكرى لها فى الجنوب السورى، وفرض سيطرة جوية فى الأجواء السورية أيضاُ؛ والهدف من ذلك هو خلق واقع جديد على الأرض يمكن توظيفه فى أى مفاوضات مع الحكومة الانتقالية فى دمشق مستقبلا.
يضاف إلى الأسباب السابقة بعد آخر وهو البعد الاقتصادى؛ فثمة صراع خفى يقبع وراء سعى تركيا وإسرائيل إلى الفوز بنوع من المصالح الاقتصادية فى سوريا بعد سقوط نظام الأسد، وأبرزها المصالح المتعلقة بالغاز والنفط والطاقة، خاصة مع تطلع تركيا إلى إعادة ترسيم الحدود البحرية مع حكومة دمشق الانتقالية، وهو ما تعتبره إسرائيل تهديداً مباشراً لأمنها البحرى من منطلق متغير الطاقة وتنافس الممرات الاقتصادية العابرة لسوريا.
وكذلك تعد الضغوط التى تواجهها الحكومتان التركية والإسرائيلية على المستوى الداخلى أحد مداخل تفسير حالة تصعيد الخلافات بين الطرفين؛ وذلك بمحاولة تجاوز هذه الضغوط عبر توجيه أنظار الداخل السياسى والاجتماعى لمهددات أمنية خارجية؛ لاسيما فى حالة الحكومة اليمينية فى إسرائيل التى تعانى من عدة مشاكل داخلية، سواء مع المعارضة، أو مع الرأى العام، أو مع أهالى الرهائن لدى حماس، أو حتى مشاكل التعبئة العسكرية المتواصلة، إلى جانب التكلفة الاقتصادية الناتجة عن استمرار عدوانها على قطاع غزة. والأمر نفسه بالنسبة للرئيس التركى رجب طيب أردوغان الذى تعانى حكومته من أزمة داخلية مع المعارضة السياسية حالياً أدت إلى احتجاجات واسعة النطاق ألقت بتأثيراتها على الوضع الاقتصادى للدولة.
الأبعاد الإقليمية
تفاعل أنقرة مع تعميق إسرائيل لهجماتها العسكرية فى سوريا مؤخراً، جاء هادئ النبرة، بصورة لا تتماشى مع كون هذه الهجمات تستهدف مباشرة محاولات تركيا مد نفوذها العسكرى إلى وسط سوريا، حيث أعلنت أنقرة أنها ليست بصدد مواجهة إسرائيل فى سوريا، والأمر نفسه بالنسبة لتل أبيب التى أدلت حكومتها بتصريح مماثل. وربما يرجع ذلك إلى رغبة أنقرة بالدرجة الأولى فى عدم التصادم مع إسرائيل بشأن سوريا فى ظل التطورات الإقليمية الراهنة، حيث اكتفت بإدانة الهجمات الإسرائيلية واسعة النطاق من باب كونها تضعف من قدرة الحكومة الانتقالية الجديدة على إرساء الاستقرار والأمن فى سوريا، وليس من باب كونها تهدد مباشرة المصالح التركية فيها، وهو ما يعكس رغبة أنقرة فى الارتكان إلى آلية "إدارة الصراع" بينها وبين تل أبيب فى سوريا، حالياً، كبديل عن مسار التصعيد. وإدارة الصراع هنا تعنى أننا سنكون أمام مرحلة ستسعى فيها تركيا وإسرائيل إلى التنافس على فرض معادلات سياسية وأمنية جديدة على الحكومة السورية الانتقالية، كل دولة وفق مصالحها التى قد تتطابق فى بعض مساراتها أو تتعارض فى غيرها.
من هذا المنطلق ستسعى تركيا ،عبر المتغير السورى، إلى تقديم نفسها للعالم وللولايات المتحدة تحديداً، على أنها الدولة التى تدعم استقرار سوريا فى مقابل إسرائيل التى تقوض هذا الاستقرار، وأنها تدعم مشروع سوريا الموحدة مقابل إسرائيل التى تطرح مشروع التقسيم والتجزئة، وأن تفاعلاتها عبر اتفاقات التعاون الاستراتيجى أمنياً واقتصادياً مع سوريا هدفها تقوية النظام الجديد لمواجهة محاولات إيران وعملائها من فلول النظام القديم العودة مجدداً للساحة السورية، وبالتالى الترويج لفكرة أنه لا غنى عن أنقرة كضمانة لتعزيز الأمن والاستقرار فى سوريا الجديدة، وأن على إسرائيل والولايات المتحدة تفهم مدى أهمية هذه الضمانة فى تحقيق الاستقرار الإقليمى ككل.
لكن السؤال المطروح هنا، هو إلى أى مدى يمكن لأنقرة الاستمرار فى لعب هذا الدور؟ دور الضامن لأمن واستقرار سوريا فى مقابل إسرائيل، لاسيما فى ظل تصاعد الأعمال العدائية التى تمارسها الأخيرة ضد دمشق وضد قطاع غزة والضفة وجنوب لبنان؟. هذا ينقلنا إلى احتمالية لجوء الجانبين التركى والإسرائيلى – خلال المرحلة المقبلة - إلى تغليب آلية خفض التصعيد وتفعيل آلية الحوار بينهما عبر طرف ثالث وهو "الوسيط" الأمريكى، وإن ظلت حظوظ هذا الاحتمال رهناً لتفاعلات إسرائيل فى الأجواء السورية والتى تبدو مرشحة لمزيد من التصعيد وليس التهدئة.
فى الأخير، يمكن القول إن "إدارة الصراع والتنافس" بين تركيا وإسرائيل ستكون هى عنوان المرحلة القادمة فى سوريا، وهو ما يعنى ضمنياً استبعاد "مؤقت" لاحتمالات وقوع مواجهة عسكرية مباشرة بين الجانبين، وإن ظلت احتمالات هذا التصور رهناً لتفاعلات إسرائيل فى الأجواء وعلى الأرض السورية، وهى تفاعلات تحكمها معادلة "غرور القوة" التى تنتهجها حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة، الأمر الذى سيجعل الأوضاع فى سوريا- رغم محاولات الاحتواء التركية- مفتوحة على كافة الاحتمالات؛ سواء احتمالات التفاوض السياسى أو احتمالات التصعيد العسكرى. وإن كان توسط المتغير الأمريكى العلاقة بين تركيا وإسرائيل قد يدفع نحو ارتفاع احتمالات التوصل إلى "تفاهمات" نوعية بشأن سوريا، لاسيما وأن الأخيرة فى حاجة ماسة لاستكمال عملية رفع العقوبات الأمريكية التى كانت مفروضة عليها إبان وجود النظام القديم، مع ملاحظة أن هذه "التفاهمات" ستراعى بالضرورة كلاً من المصالح التركية والإسرائيلية فى سوريا على حد سواء.