د. أحمد قنديل

رئيس وحدة العلاقات الدولية ورئيس برنامج دراسات الطاقة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيحية

 

في 17 مارس 2025، اتفق الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، على "هدنة محدودة" في أوكرانيا لمدة ثلاثين يوماً، تشمل عدم استهداف مرافق الطاقة والبنية التحتية لكل من الروس والأوكرانيين، مع العمل "بسرعة" من أجل التوصل إلى "هدنة شاملة" لإنهاء الحرب الدائرة بين الجانبين منذ أكثر من 3 سنوات.

وإذا ما نجح الرئيسان ترامب وبوتين في التوصل إلى "تفاهمات" تحقق مصالحهما المتبادلة بشأن القضايا الخلافية الكبرى بين واشنطن وموسكو، سواء فيما يتعلق بكيفية إنهاء الحرب في أوكرانيا أو ما يتصل بكيفية التعامل المستقبلي مع الصين وإيران وغيرها من مسائل عالقة، فليس من المستبعد أن تقوم إدارة الرئيس ترامب بتخفيف العقوبات القاسية المفروضة على قطاع الطاقة الروسي، على اعتبار أن هذا التخفيف هو "الثمن" مقابل التوصل مع موسكو إلى مثل هذه التفاهمات. كما أن رفع العقوبات عن روسيا سوف يساهم أيضاً، من وجهة نظر عدد من المراقبين، في تحقيق أحد التعهدات المهمة للرئيس الأمريكي، أثناء حملته الانتخابية، وهو خفض أسعار البنزين للمستهلك الأمريكي، وبالتالي خفض التضخم في البلاد. وكان ترامب قد كرر أكثر من مرة القول بأنه يريد رؤية أسعار البنزين في محطات الوقود الأمريكية عند مستوى 1.87 دولار للجالون، ويعني ذلك، وفق كثير من الخبراء، ضرورة تراجع أسعار النفط العالمية إلى نحو 20 دولاراً للبرميل، وهو سيناريو "غير مستبعد حدوثه" حال عودة الصادرات الروسية إلى مستوياتها في سوق النفط العالمية قبل عدة سنوات.

ورغم تراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية في منتصف شهر مارس الجاري إلى ما دون حاجز 70 دولاراً للبرميل، بعد الاتصالات الهاتفية للرئيسين الأمريكي والروسي والمباحثات التي أجراها المسئولون الأمريكيون والروس في السعودية بشأن أوكرانيا، إلا أن هذه الأسعار ما تزال أعلى "كثيراً" مما يستهدفه الرئيس ترامب. وبالتالي، يتوقع كثير من الخبراء أن تستمر واشنطن في مساعيها الرامية إلى التفاهم مع الروس بشأن العمل على حدوث خفض أكبر في أسعار النفط العالمية، بما يحقق طموح الرئيس ترامب في هذا الصدد. ويشير هؤلاء أيضاً إلى أن توجه الإدارة الأمريكية الحالية بشأن التعاون مع روسيا في قطاع الطاقة يعني "الانقلاب" على موقف إدارة بايدن السابقة، والذي تمسكت به واشنطن منذ اندلاع العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا في فبراير 2022. وكان هذا الموقف يستند على ضرورة استمرار العقوبات الأمريكية القاسية على قطاع الطاقة الروسي لحرمان موسكو من الإيرادات المالية الضخمة لصادراتها، وبالتالي وقف "العدوان" الروسي على أوكرانيا.

وبالمثل، توجد دوافع قوية لدى الرئيس الروسي من أجل التوصل إلى "تفاهمات" مع نظيره الأمريكي تقود إلى رفع العقوبات المفروضة على قطاع الطاقة الروسي. فعلى سبيل المثال، يعلم الرئيس بوتين جيداً أن بلاده على بُعد بضعة أشهر فقط من استنفاد جميع احتياطياتها المالية تماماً، وفي الوقت نفسه تعاني من تضخم بنسبة 10% وأسعار فائدة قياسية بنسبة 21%. وبالتالي، يؤكد كثير من المراقبين على أن بوتين أصبح على استعداد كبير للتوصل إلى "صفقة ما" مع نظيره الأمريكي لاستعادة عافية الاقتصاد الروسي من خلال الحصول على عوائد مالية من عودة صادرات النفط الروسي إلى السوق العالمية. ومن ناحية ثانية، قد ترى موسكو في رفع العقوبات على صادراتها النفطية "فرصة" من أجل خفض الأسعار العالمية للنفط، وبالتالي توجيه "ضربة" قوية لكثير من الشركات الأمريكية العاملة في قطاع النفط الصخري، خاصة إذا  ما هبطت اسعار النفط العالمية إلى مستوى أقل من 50 دولاراً للبرميل.

تأثيرات محتملة على قطاع الطاقة العالمي

"تفاهمات" ترامب – بوتين سوف يكون لها، على الأرجح، تداعيات مهمة على أسواق النفط العالمية. فعلى سبيل المثال، قد تشتمل هذه "التفاهمات" على اتفاق (ضمني أو مقصود) بضرورة إشراك واشنطن في أية اتفاقات بين موسكو وتحالف أوبك بلس (الذي تقوده السعودية)، بشأن ضبط الإنتاج المعروض في السوق العالمية للنفط. وهذه التفاهمات، إن تم تطبيقها على أرض الواقع، من شأنها أن تربك ميزانيات عديد من دول الخليج العربي، لا سيما تلك المرتبطة بمشروعات تنموية كبيرة، يصل فيها "حد التعادل" في موازناتها إلى ما بين 80 و90 دولاراً للبرميل.

ومن ناحية ثانية، قد تقود "التفاهمات الأمريكية الروسية" أيضاً إلى احتمال عودة المزيد من الغاز الروسي إلى الأسواق الأوروبية، والتي انخفضت وارداتها من الغاز الروسي بشكل كبير من حوالي 450 مليون متر مكعب يومياً في نهاية عام 2021 إلى حوالي 150 مليون متر مكعب يومياً فقط في فبراير 2025. ومما يزيد من إمكانية تحقق هذا الاحتمال، ما نشرته صحيفة "فاينانشال تايمز" مؤخراً عن خطة الرئيس السابق للشركة الأم لخط أنابيب "نورد ستريم 2" لبدء تشغيله قريباً. وتتضمن هذه الخطة قيام شركات أمريكية بشراء هذا الخط، لتكون بمثابة وسيط بين روسيا والمستهلكين الأوروبيين. فإذا ما حدث ذلك بالفعل، يتوقع بعض المراقبين إمكانية ارتفاع إمدادات الغاز الروسي لأوروبا، مرة أخرى، وبالتالي تراجع الأسعار العالمية للغاز الطبيعي المسال.

ومن ناحية ثالثة، قد تقود "تفاهمات" ترامب بوتين أيضاً إلى الدخول في مشروعات مشتركة بين الجانبين الأمريكي والروسي في قطاع الطاقة. فعلى سبيل المثال، قد تتعاون الشركات الأمريكية والروسية في التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي في المناطق الصعبة، مثل منطقة القطب الشمالي، حيث تمتلك روسيا خبرات كبيرة، بينما تتمتع الولايات المتحدة بتقنيات متقدمة. كذلك، قد تتعاون واشنطن وموسكو في تطوير مفاعلات الجيل الرابع للطاقة النووية أو في تقنيات تخصيب اليورانيوم الأكثر أماناً، مع الاتفاق على ضمانات ضد الانتشار النووي. كذلك، قد تتحمس الشركات الأمريكية للدخول في شراكات مع نظيرتها الروسية لإقامة مشروعات البنية التحتية، مثل خطوط أنابيب التي تربط بين حقول الطاقة الروسية والأسواق العالمية.

ومن ناحية رابعة، قد تؤدي "التفاهمات" الأمريكية الروسية أيضاً، إلى عرقلة الشراكة المتنامية بين روسيا والصين، في مشاريع مثل خط أنابيب "سيلا سيبيريا"، نتيجة إعادة توجيه صادرات موسكو نحو الأسواق الغربية الأكثر ربحية مقارنة بمثيلتها الصينية. ويشار في هذا الصدد إلى أن بكين كانت قد حققت أرباحاً هائلة من تجارة الغاز الطبيعي مع روسيا، نتيجة الخصومات التي حصلت عليها نظير شراء الغاز الروسي في ظل العقوبات الدولية المفروضة على موسكو.

تحديات مهمة

رغم المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة التي يمكن تحقيقها من وراء "تفاهمات" ترامب – بوتين، إلا أن هذه التفاهمات سوف تواجه العديد من التحديات المهمة في قطاع الطاقة. فعلى سبيل المثال، سوف يكون هناك تنافس كبير بين الشركات الأمريكية والروسية بشأن الدخول في الأسواق الأوروبية المربحة للغاز الطبيعي. ومن جهة ثانية، قد تتردد موسكو كثيراً في الاستجابة لمطالب واشنطن بشأن إشراكها في أية اتفاقات مستقبلية تتوصل إليها روسيا مع تحالف أوبك بلس بشأن ضبط المعروض من النفط في الأسواق العالمية، وذلك في ظل التراجع المتوقع في الطلب العالمي على النفط في المدى القريب. وفي هذا  السياق، حذرت وكالة الطاقة الدولية في 13 مارس 2025 من أن المعروض العالمي من النفط قد يتجاوز الطلب بنحو 600 ألف برميل يومياً هذا العام، بسبب نمو الإنتاج العالمي للنفط، والذي تقوده الولايات المتحدة، والطلب العالمي الأضعف من المتوقع نتيجة تصاعد التوترات التجارية بين الولايات المتحدة وعديد من الدول.

ومن جهة ثالثة، أصبح من غير المرجح أن تؤدي التفاهمات الأمريكية الروسية إلى تعديل نية الدول الأوروبية في مواصلة تشديد العقوبات على موسكو في قطاع الطاقة، خاصة بعدما صار تأمين إمدادات كافية ومستدامة من الغاز الطبيعي المسال من مصادر أخرى غير روسيا يمثل "أولوية أمنية أوروبية". بعبارة أخرى، سوف يجد الروس، على الأرجح، أن الاعتماد على الأمريكيين من أجل العودة إلى الأسواق الأوروبية للغاز، من خلال شراء الشركات الأمريكية لخط انابيب "نورد ستريم 2" مجرد "سراب"، خاصة بعدما عمل عدد من شركات الطاقة العملاقة - وخاصة في المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة - بجد لبناء شبكة من مصادر إمدادات النفط والغاز الجديدة تمتد من الولايات المتحدة عبر الشرق الأوسط (ولا سيما قطر) إلى شمال إفريقيا (ولا سيما مصر). كما قامت هذه الشركات أيضاً بتوقيع صفقات توريد جديدة كبيرة للأسواق الأوروبية مع دول أخرى غنية بالنفط الخام، بما في ذلك العراق وليبيا والمملكة العربية السعودية، من قبل شركات مثل إكسون موبيل وشيفرون وكونوكو فيليبس الأمريكية، وبي بي وشل البريطانية، وتوتال إنرجيز الفرنسية وإيني الإيطالية، وغيرها. ومما يشير أيضاً إلى صعوبة (وربما استحالة) عودة النفط والغاز الروسيين إلى الأسواق الأوروبية في المدى القريب قيام الاتحاد الأوروبي بفرض حزمة جديدة من العقوبات على موسكو في بداية العام الجاري في الذكرى السنوية الثالثة للحرب الروسية الأوكرانية. وتتضمن هذه الحزمة السادسة عشرة من عقوبات الاتحاد الأوروبي على موسكو توسيعاً هائلاً للقيود المفروضة على أسطول ناقلات النفط الروسي، وعلى النظام الروسي للتحويلات المالية SPFS، والذي أُنشئ ليكون بديلاً لنظام الدفع الدولي SWIFT.

على أية حال، يمكن القول إن "تفاهمات" ترامب بوتين بشأن القضايا الخلافية المهمة بين الولايات المتحدة وروسيا، وعلى رأسها الأزمة الأوكرانية، قد تفتح المجال أمام رفع العقوبات الدولية القاسية على قطاع الطاقة الروسي. فإذا ما نجح تطبيق هذه التفاهمات على أرض الواقع فسوف تشهد أسواق الطاقة العالمية، في الغالب، تداعيات مهمة في المدى المنظور. ومع ذلك، من المرجح أن يبقى التعاون الأمريكي الروسي في قطاع الطاقة "رهينة" للصراعات الجيوسياسية الأوسع بين الجانبين. وهنا يوجد سيناريوهان أساسيان: السيناريو الأول، يستند على زيادة الثقة بين ترامب وبوتين فيحدث توافق على تقاسم الأسواق العالمية للطاقة بين الدولتين، وبالتالي نشهد استقراراً نسبياً في الأسعار العالمية للنفط والغاز الطبيعي، في ظل رفع "جزئي وتدريجي" للعقوبات المفروضة على قطاع الطاقة الروسي. والسيناريو الثاني، يقوم على انهيار  الثقة بين الرئيسين الأمريكي والروسي، وبالتالي زيادة التصعيد والمنافسة بين الجانبين مما يقود إلى حدوث تذبذب شديد في الأسعار العالمية للنفط والغاز الطبيعي، ومن ثم حدوث مزيد من الاضطراب والفوضى في الاقتصاد العالمي.

وفي كل الأحوال، يجب أن تستعد مصر بجدية لكلا السيناريوهين، لما لهما من تأثير عميق على المصالح الوطنية، خاصة فيما يتعلق بهدف مصر الاستراتيجي في أن تصبح مركزاً إقليمياً لإنتاج وتجارة الطاقة.