جاء التصعيد الإسرائيلي، في 18 مارس 2025، باستئناف عمليات قصف قطاع غزة، ارتباطًا بسياق حالة التعثر التي كان عليها تنفيذ مراحل اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة الذي دخل شهره الثاني، دون أن تنطلق مفاوضات المرحلة الثانية التي كان مقرر لها أن تبدأ في اليوم الـ 16 من عمر المرحلة الأولى، وفقًا لبنود الاتفاق، وهو ما راوغت وتلكأت تل أبيب في تنفيذه، تارة عبر رفع سقف مطالبها بشروط جديدة كخطوط عريضة للمرحلة الثانية، تمثلت في اشتراط خروج قيادات حركة حماس من القطاع ونزع كامل سلاحها، وإطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين، وتارة أخرى عبر اقتراح مد المرحلة الأولى بفترة انتقالية، يبدأ بعدها التفاوض بشأن باقي مراحل الاتفاق، دون أن يقترن ذلك بأية التزامات. ويطرح ذلك بدوره التساؤل حول حسابات إسرائيل التي دفعتها للمراوغة والتنصل من التزامات الاتفاق الذي ذهبت للموافقة على بنوده، وما إذا كانت هذه الموافقة جاءت في إطار تكتيكي تزامنًا مع مجئ الإدارة الأمريكية الجديدة التي مارست ضغوطًا للتوصل إلى هذا الاتفاق قبل تنصيب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أم إنها أرادت أن تجعل تقيدها بالاتفاق مقترن بالحسابات السياسية للائتلاف الحكومي الذي يعاني عديدًا من الأزمات التي تهدد استقراره وبقاءه.
معطيات السياق الراهن لعملية التفاوض
عكس المنهج الإسرائيلي في التعامل مع اتفاق وقف إطلاق النار منذ دخوله حيز التنفيذ في 19 يناير 2025، العديد من الإشارات غير الإيجابية، خاصة في ظل عدم التزامه ببنود المرحلة الأولى المرتبطة بـ "البروتوكول الإنساني"، وكذلك عدم التقيد بالجدول الزمني الذي حدده الاتفاق بشأن باقي المراحل، على نحو عزز من الدفع بأن موافقة المستوى السياسي الإسرائيلي على الاتفاق جاءت في إطار تكتيكي لاستيعاب ضغوط الإدارة الأمريكية الجديدة التي أرادت أن تبدأ فترتها بانتصار تروجه وتُظهر من خلاله قوتها، وفي الوقت ذاته تعكس عجز الإدارة السابقة. بيد أن هذا لا يلغي جدية التعامل الأمريكي مع هذا الاتفاق باعتباره أرضية انطلاق لبدء الصفقات الإقليمية للإدارة الجديدة في المنطقة، على أن يكون ذلك وفقًا لمقاربتها التي تتماهى مع احتياجات الائتلاف الإسرائيلي الراهن، وهو ما رفضته حركة حماس، خاصة فيما يتعلق بالتقيد الأمريكي – الإسرائيلي بشروط نزع الحركة لسلاحها وخروج قياداتها من القطاع، وإطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين، كخطوط عريضة لبدء التفاوض بشأن المرحلة الثانية وباقي مراحل الاتفاق.
وتزامن مع ذلك تصعيد خطابي من جانب الرئيس الأمريكي بشأن مقترح تهجير سكان القطاع، وهو ما وازنته الجهود المصرية والعربية بطرح خطة بديلة، خلال القمة العربية التي احتضنتها القاهرة في 4 مارس الجاري (2025)، تتضمن إجراءات عملية وقابلة للتطبيق – كما كان قد أوضح المبعوث الأميركي لشئون الرهائن آدم بوهلر بضرورة أن تكون أي تصورات مقترحة "عملية وقابلة للتطبيق – ورغم التفاعل السلبي الذي أبدته إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية مع الخطة منذ إعلانها برفضها، إلا أن الأخيرة قد أرسلت بعض الإشارات الإيجابية في التجاوب مع الخطة من خلال مبعوث الإدارة الأمريكية إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، التي عكسها في اتصاله بوزير الخارجية المصري، د. بدر عبد العاطي، في 6 مارس الجاري (2025)، حيث أكد أن الخطة "تتضمَّن عناصر جاذبة وتعكس نوايا طيبة"، مبديًا ترحيبه بالتعرف على مزيد من التفاصيل بشأن الخطة خلال الفترة المقبلة.
وفي هذا الإطار، كان لافتًا انفتاح الإدارة الأمريكية على القيام بمحادثات مباشرة عبر مبعوثها لشئون الرهائن آدم بوهلر مع حركة حماس، وهو ما أكدت أنه تم بالتنسيق مع إسرائيل، في محاولة ربما لحلحلة جمود موقف المفاوضات التي كانت تشهد تعثرًا، خاصة في ضوء تطور الأمر بإيقاف إسرائيل دخول المساعدات للقطاع، بالمخالفة لبنود الاتفاق. ويبدو أن الإدارة الأمريكية كانت تستهدف عبر هذا التحرك من ناحية، إبراز حرصها على حياة الأسرى خاصة مزدوجي الجنسية الأمريكية، وإبراز جهودها في هذا الشأن بكسرها التقاليد الأمريكية والتواصل مباشرة مع تنظيم مصنف على قوائم الإرهاب لديها، وذلك تحسبًا لأي تصعيد عسكري إسرائيلي محتمل (آنذاك) قد ينجم عنه مقتل أي منهما، وهو ما قد يشكل حرجًا للإدارة الأمريكية، التي أمدت تل أبيب مؤخرًا بعدد كبير من القنابل والذخائر التي ستستخدمها في عملياتها العسكرية في القطاع. ومن ناحية أخرى، ربما ممارسة الضغوط على حركة حماس للتجاوب مع احتياجات الائتلاف الإسرائيلي الحاكم سواء تلك المتعلقة بالإطار العام الذي وضعه لليوم التالي في قطاع غزة بحيث لا تكون حركة حماس ضمن فواعل المشهد العسكري والسياسي من خلال استبعاد قادتها ونزع سلاحها، أو التجاوب مع مقترح مد المرحلة الأولى بفترة انتقالية يتم من خلالها استمرار الحركة في الإفراج عن عدد من الأسرى الأحياء وجثث المتوفين منهم.
ارتباطًا بهذا السياق، نشر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على حسابه بموقع Truth Social، في 6 مارس 2025، تغريدة هدد فيها حماس بضرورة إطلاق سراح جميع الرهائن الآن وإلا فسيكون هناك "جحيم يُدفع ثمنه"، في إشارة ربما لاستئناف العمليات العسكرية في القطاع. وهو ما يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تلقفه وتذرع به لاستئناف العمليات العسكرية ضد القطاع، حيث أكد في خطاب متلفز في 18 مارس الجاري (2025) قبوله مقترح المبعوث الأمريكي، ستيف ويتكوف، لوقف إطلاق النار، إلا أن "حركة حماس رفضت جميع العروض المقدمة"، وهو ما نفته الحركة مؤكدة أن "مقترح ويتكوف كان على طاولة المفاوضات ولم ترفضه وتعاملت معه بإيجابية".
وفي هذه الأثناء، يبحث الوسطاء العودة للتهدئة والحفاظ على اتفاق وقف إطلاق النار من الانهيار من خلال التوصل لاتفاق مرحلي يتم بموجبه وقف مؤقت لإطلاق النار في مقابل الإفراج عن عدد من الأسرى الإسرائيليين، وهو ما قد يكون أقرب للمقترح الإسرائيلي الذي تبنته الإدارة الأمريكية بمد فترة المرحلة الأولى حتى 20 أبريل القادم، في مقابل الإفراج عن 10 من الأسرى الأحياء وبعض الجثث، وهو ما تم خفضه بعد ذلك إلى 5 من الأسرى قبل أن تستأنف إسرائيل العمليات العسكرية. وبحسب ما يُتداول في الوقت الراهن، فإن إسرائيل ترفض وقف إطلاق النار الحالي، وهو ما أكده رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في خطابه بقوله أن المفاوضات "لن تجرى من الآن فصاعدا إلا تحت النار"، وتشديد هذا الموقف ربما يُفهم في سياق تصدير ذلك الموقف لشركاءه في الائتلاف خاصة بعد عودة زعيم حزب "عوتسما يهودت" اليميني المتطرف إيتمار بن غفير، وربما رغبة في تعزيز الموقف التفاوضي بشأن الاتفاقات المرحلية المشار إليها سلفًا.
الائتلاف الإسرائيلي وحسابات اللحظة الراهنة
انخرطت الحكومة الإسرائيلية في اتفاق وقف إطلاق النار، وهي محملة بحسابات سياسية ترتبط بمشهد بقاءها واستقرارها، على نحو عزز من هامش المناورة والمراوغة في التقيد ببنود الاتفاق، وهو ما قاد في الأخير إلى استئناف العمليات العسكرية ضد القطاع، وذلك ارتباطًا بجملة من الحسابات، يُمكن إيضاح أبرزها على النحو التالي:
1- تعزيز تماسك الائتلاف الحكومي: استهدف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عبر قراره باستئناف العمليات العسكرية ضد قطاع غزة واختراق بنود الاتفاق الذي وافق عليه، تعزيز تماسك ائتلافه من خلال حاضنة دعم الأحزاب اليمينية المتطرفة التي أذعن لشروطها بضرورة استئناف الحرب وعدم استكمال باقي مراحل الاتفاق وفقًا لما كان اشترطه زعيم حزب "الصهيونية الدينية" بتسلئيل سومتريتش للبقاء في الحكومة، وكذلك أتاح ذلك التحرك عودة وزير الأمن القومي اليميني المتطرف إيتمار بن غفير بكتلة مقاعد حزبه التي تمثل 6 مقاعد، ليتعزز بذلك تماسك الائتلاف ويرتفع تمثيله إلى 67 مقعدًا.
وقد ساعد سياق الضغط الناشئ في الوقت الراهن ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي ارتباطًا بمشهد محاكمته في قضايا الفساد المتورط فيها، وكذلك تورط مساعديه في تلقي رشاوى مالية من جانب إحدى الدول بحسب تقارير إسرائيلية، وهو ما كان يحقق فيه جهاز الشاباك الذي اتجه نتنياهو لإقالة رئيسه رونين بار على نحو تسبب في تصاعد احتجاجات الشارع الإسرائيلي، هذا فضلًا عن تصاعد التوترات بين الائتلاف والمؤسسات القضائية، على أن يبدي المرونة في التعامل مع مطالب شركاءه من اليمين المتطرف ويخضع للابتزاز الذي يمارسوه ضده، من أجل تعزيز تماسك الائتلاف خاصة في ظل تضاؤل فرص تحقيق ذلك عبر "مظلة أمان" من جانب المعارضة التي يقود زعماؤها الاحتجاجات في الوقت الراهن في الشارع الإسرائيلي ضد السياسات الحكومية التي يتبناها الائتلاف.
2- ضمان تمرير الاستحقاقات الائتلافية اللازمة لبقاء الائتلاف: يعد الائتلاف الحكومي الإسرائيلي على موعد مع عدد من الاستحقاقات الائتلافية اللازم تمريرها من أجل بقاءه، ومن أبرزها تمرير مشروع قانون الميزانية العامة لعام 2025، المقرر التصويت عليه خلال الأيام القادمة بحد أقصى نهاية الشهر الجاري، والذي يعد بمثابة تصويت على سحب الثقة من الائتلاف وانهياره إذا فشل في تمريره، وهو ما يتطلب أغلبية معقولة لتمريره خاصة في ظل تهديد نواب من الأحزاب الدينية بعدم التصويت بالموافقة على الميزانية إذا لم يتزامن معها تمرير قانون إعفاء الحريديم من التجنيد. وبالتالي تعزز عودة إيتمار بن غفير للحكومة، ارتباطًا باستئناف الحرب ضد القطاع، من هامش حركة رئيس الوزراء الإسرائيلي لموازنة تهديدات نواب الأحزاب الدينية من أجل تمرير هذا الاستحقاق الائتلافي المهم.
3- تعزيز هامش المناورة لموازنة الضغط الأمريكي: يتيح تعزيز تماسك الائتلاف الحكومي الإسرائيلي تأمين هامش حركة أوسع نسبيًا لرئيس الوزراء الإسرائيلي في موازنة ضغط الإدارة الأمريكية، التي ربما أثارت تحركاتها خلال الفترة الماضية بالانفتاح على التفاوض المباشر مع حركة حماس، وكذلك إبداء بعض الإشارات الإيجابية تجاه الخطة العربية، فضلًا عن التراجع النسبي للرئيس الأمريكي عن مخطط تهجير سكان القطاع في ضوء تصريحاته التي أصدرها مؤخرًا، تخوف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من اتجاه الإدارة لفرض مزيد من الضغوط للحصول على تنازلات مرتبطة باتفاق وقف إطلاق النار واستكمال مراحله التي من شأنها أن تضر باستقرار الائتلاف خاصة في ظل السياق الضاغط المنسوج حوله في الوقت الراهن على النحو المبين سلفًا، وهو ما دفعه لتعزيز صفوفه عبر الرهان على شركاءه من أحزاب اليمين المتطرف. ولعل ذلك يفسر في جانب منه مسارعة الإدارة الأمريكية إلى تأكيد التنسيق المسبق مع تل أبيب ودعمها بشأن استئناف العمليات العسكرية في القطاع لتقليص هامش المناورة المستقل الذي ربما تحاول الحكومة الإسرائيلية تعزيزه والترويج له بما يضر بصورة الإدارة الجديدة.
4- فرض الضغط وإضعاف الموقف التفاوضي لحركة حماس: رغم الحسابات السياسية الضيقة التي ينطلق منها الائتلاف الإسرائيلي في تعامله مع اتفاق وقف إطلاق النار، إلا أن هذا لا يلغي الرغبة الإسرائيلية في تعزيز موقفها التفاوضي عبر الرهان على المسار العسكري خاصة في ضوء تغييرات هيكل القيادة العسكرية بتعيين رئيس أركان جديد إيال زامير بما يسمح بمزيد من الضغط ضد حركة حماس وبنيتها العسكرية والمدنية بحسب ما تدفع به تحليلات المراقبين الإسرائيليين، على نحو يدفعها في الأخير للتماهي مع المطالب الإسرائيلية بنزع السلاح واستبعاد قياداتها من القطاع، والإفراج عن جميع الأسرى لديها. وربما أرادت أيضًا عبر تصعيدها العسكري الأخير إرسال رسائل بالقدرة على تحييد التكلفة المرتبطة بأرواح أسراها باعتبارها أهم أوراق الضغط لدى حركة حماس، وهو ما كانت تتبعه منذ بداية الأحداث وفقًا لما صرح به وزير الدفاع السابق باتباع بروتوكول "هانيبال" في التعامل مع الأسرى وآسريهم. كما قد يساعد تصدير رئيس الوزراء الإسرائيلي إصراره على تحقيق هدف تدمير حركة حماس في تخفيف وطأة الاتهامات الموجهة إليه ومساعديه في توفير الدعم المالي القطري للحركة.
ختامًا، يمكن القول إنه رغم ما تعكسه هذه المعطيات السابقة من هامش حركة واسعة نسبيًا يتمكن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من تأمينها عبر قراره باستئناف العمليات العسكرية ضد قطاع غزة ارتباطًا بحساباته الائتلافية، إلا أن ذلك قد يتصادم مع بعض المعوقات التي ستقلص بدورها هذه المساحة من الحركة خاصة تلك المرتبطة بغطاء الدعم الأمريكي لهذا المسار العسكري إذا ما اتسعت رقعته وتصاعدت وتيرته، وترافق معه تصعيد عسكري على جبهات أخرى مشتعلة في الوقت الراهن مثل الجبهة اليمنية التي يصعدها الحوثيون، بما يبرز البعد الاستنزافي الذي ستكون مضطرة معه الإدارة الأمريكية لتحمل أعباءه المالية بما يتعارض مع منهجها الذي أعلنته. بالإضافة إلى الإضرار بصورة "صانع السلام" الذي أراد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن يرسخها في بداية ولايته. فضلًا عن التصاعد المحتمل في وتيرة احتجاجات الداخل الإسرائيلي، نظرًا للخسائر المحتملة في أرواح الأسرى الإسرائيليين نتيجة عمليات القصف التي يراها أهالي الأسرى والمتعاطفون معهم من الجمهور الإسرائيلي والمعارضة أنها استؤنفت لاعتبارات سياسية ضيقة.