شهد الأسبوع الثانى من شهر مارس 2025 حدثين مهمين فى مسار الانتقال السياسى داخل سوريا فى ظل إدارة الرئيس الانتقالى أحمد الشرع ووسط العديد من التحديات الأمنية والاجتماعية والاقتصادية التى تواجهها إدارته خلال العام الأول من المرحلة الانتقالية التى قد تمتد لخمسة سنوات مقبلة.
الحدث الأول؛ يتعلق بتوقيع الشرع اتفاقاً تاريخياً مع مظلوم عبدى قائد قوات سوريا الديمقراطية "قسد" فى 10 مارس الجارى، وهو الاتفاق الذى يقضى بدمج قوات "قسد" ضمن منظومة المؤسسة العسكرية السورية، ما يعد تحولاً تاريخياً فى علاقة الإدارة الذاتية الكردية بفرعيها: العسكرى وتمثله قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، والسياسى ويمثله مجلس سوريا الديمقراطية "مسد" مع الدولة السورية الجديدة بعد سنوات من العمل كتنظيم مسلح تم تشكيله من قبل قوات التحالف الدولى لمحاربة تنظيم "داعش" فى سوريا عام 2015، وقد حظيت "قسد" بدعم مالى وعسكرى واستخباراتى كامل من قبل الولايات المتحدة؛ حيث عدت الحليف المحلى للولايات المتحدة فى سوريا، وبمقتضى نجاح "قسد" فى حربها ضد الإرهاب استطاعت فرض السيطرة على أجزاء كبيرة من الأراضى السورية فى الشمال والشمال الشرقى، قُدِّرت حتى نهاية عام 2024، بحوالى 30% من المساحة الكلية للدولة السورية، فضلاً عن أنها مناطق تمتلك موارد اقتصادية كبيرة زراعية ونفطية ومائية، ومن ثم يمثل الاتفاق بين الطرفين أهمية سياسية واقتصادية مزدوجة تسهم فى تعزيز مسار بناء الدولة السورية الجديدة.
أما الحدث الثانى؛ فيتمثل في إصدار "الإعلان الدستورى" للمرحلة الانتقالية يوم 13 مارس؛ الذى تضمن عدة بنود شكلت ملامح ومسار المرحلة الانتقالية للدولة السورية، وقد أثار الإعلان ردود فعل داخلية بعضها أيد ما جاءت به بنوده، والبعض الآخر عارض بعضاً منها، ومسار ثالث محايد يرى أن ما جاء فى الإعلان من بنود يعد تحدياً فى حد ذاته إن استطاعت الحكومة الانتقالية تنفيذه.
وتجدر الإشارة إلى أن كلا الحدثين: الاتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، والإعلان الدستورى، تم التوصل إليهما فى غضون ثلاثة أيام – 10 و13 مارس- وفى ظل توترات أمنية حادة شهدتها محافظات ومدن الساحل السورى فى اللاذقية وطرطوس فيما سُمى بتمرد العلويين، وهى التوترات التى مثلت تحدياً أمنياً صعباً على الإدارة الانتقالية الجديدة؛ حيث لاتزال معالجتها الأمنية لهذا التمرد محل انتقاد كبير، لاسيما وأنها قد أعادت إلى الأذهان مخاوف الأقليات العرقية والمذهبية فى سوريا من أن تمارس القوات الحكومية الناشئة، التى تمثل "هيئة تحرير الشام " قوامها الرئيسى، عنفاً ممنهجاً ضدها بعد التجاوزات الأمنية التى مورست ضد المدنيين من أبناء الطائفة العلوية فى الساحل السورى مؤخراً. فضلاً عن تصاعد الخلافات مع تيار من طائفة الدروز فى محافظة السويداء بالجنوب نتيجة تلويحها بالتقارب مع دولة الاحتلال الإسرائيلى، فضلاً عن انتقاد هذا التيار المعالجة الأمنية لأحداث الساحل السورى، ما قد يشير إلى أن الرئيس الانتقالى أحمد الشرع أسرع إلى تحقيق إنجاز عبر إبرام الاتفاق مع "قسد"، وتالياً الكشف عن الإعلان الدستورى فى محاولة لاستعادة الزخم والتأييد للإدارة الجديدة ولرؤيتها فى استكمال مسار المرحلة الانتقالية بالرغم من الإخفاق الأمنى فى مدن الساحل.
الاتفاق مع "قسد": الدوافع والدلالات
يمثل الاتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية "قسد" بالنسبة للإدارة السورية الجديدة إنجازاً مهماً، لاسيما وأن "قسد" تعد قوة عسكرية مسلحة ضخمة العدد والتسليح والتدريب، ما يجعلها أداة مهمة يمكن التعويل عليها فى إقرار الأمن داخل البؤر التى تشهد تمرداً مناطقياً مثل الساحل السورى على سبيل المثال، فضلاً عن كونها تحظى بدعم أمريكى مباشر سياسى وعسكرى، هذا بخلاف الأراضى التى تسيطر عليها فى الشمال وشمال شرق سوريا والتى تتميز بالوفرة الاقتصادية حيث تسيطر على عدة آبار بترول ضخمة هى: حقل العمر وكونيكو والجفرة بدير الزور وحقول الرميلان بالحسكة، والثورة بالرقة. بخلاف الأراضى الزراعية الخصبة ما يجعلها مصدراً مهماً من مصادر النمو الاقتصادى للدولة السورية، هذا بخلاف سيطرة "قسد" على إدارة المعابر فى مناطق إدارتها الذاتية ما يجعلها متحكمة فى حركة التجارة الخارجية مع دول الجوار الإقليمى، ناهيك عن سيطرتها الأمنية على إدارة مخيمات عوائل تنظيم الدولة "داعش" ما يخلق تحديات أمنية كبيرة أمام الحكومة الانتقالية، ومن ثم فإن التوصل لاتفاق يضمن دمج "قسد" ضمن المؤسسة الأمنية للدولة وكذا دمج كافة مؤسساتها المدنية ضمن مؤسسات الدولة خطوة نجاح غير مسبوقة بالنسبة للإدارة الانتقالية الجديدة.
الاتفاق وإن كان خطوة مهمة فى مسار إعادة بناء مؤسسات الدولة ودمج التنظيمات المسلحة فى مؤسسة أمنية وأخرى عسكرية واحدة، إلا إنه لايزال "اتفاقاً أوّلياً" تمت مناقشته على مدار الشهر الماضى، فى ظل رفض "قسد" تفكيك التنظيم وتسليم السلاح؛ لأنها اشترطت حال الاندماج فى المؤسسات الأمنية تحت مظلة الدولة أن تندمج كتنظيم وليست كأفراد مسلحين؛ على عكس رغبة الشرع والحكومة الانتقالية، فضلاً عن اشتراطها الاعتراف الرسمى من قبل الإدارة الجديدة بخصوصية المجتمع الكردى كشعب له ثقافته ولغته الخاصة، فى مقابل تعهد "قسد" بإلغاء مشروع الانفصال السياسى عن الدولة السورية لغلق الباب أمام مشاريع التقسيم التى قد تواجهها سوريا خاصة بعد احتلال إسرائيل لمناطق واسعة فى الجنوب السورى. ومن ثم فإن الإسراع بالإعلان عن الاتفاق وإخراجه للعلن يعنى أن طرفى الاتفاق قد توافقا مع الشروط التى وضعها كل منهما أمام الآخر على مدار الشهر الماضى، خاصة وأن "قسد" حصلت على اشارات من الإدارة الأمريكية الجديدة بأنها ستتجه إلى الانسحاب من الشمال السورى، ما سيفقدها الدعم الدولى، وبناءً عليه فإن خياراتها فى التعامل مع الحكومة الانتقالية فى دمشق ستكون محدودة للغاية ومن الأفضل لها – مرحلياً- بدء مسار للتفاوض حول مستقبلها العسكرى ضمن إطار الدولة السورية، كما أن بعض المصادر تشير إلى أن واشنطن شجعت "قسد" على الدخول فى مفاوضات مع الإدارة السورية فى هذا الشأن. يضاف إلى ما سبق حالة التهدئة التى أعلنها عبدالله أوجلان قائد حزب العمال الكردستانى التركى المعارض – تتعاون معه قوات سوريا الديمقراطية وتحظى بدعمه – مع الحكومة التركية فى أنقرة ومطالبته لمقاتلى التنظيم بإلقاء السلاح والتفاوض مع الحكومة، وهو إن تم فستكون "قسد" قد فقدت كل أوجه الدعم الخارجى التى كانت تحظى بها بما يؤثر على استمراريتها كتنظيم فى مواجهة الدولة السورية.
هذا بخلاف وجود حلحلة لتفاهمات جادة انعكست فى تمرير "قسد" شحنة بترول من الحقول التى تسيطر عليها لصالح الحكومة فى دمشق، وأن أحداث الساحل السورى و"اهتزاز" صورة الإدارة السورية الجديدة داخلياً وخارجياً بشأن طبيعة المعالجة الأمنية لها، كانت ضاغطة على الرئيس الانتقالى، مما حفز من عملية الإسراع بإبرام الاتفاق كإنجاز يعيد إلى الواجهة رعاية الشرع لمسار انتقالى جاد لا تقلل من شأنه بعض الإخفاقات الأمنية، خاصة مع تعهده بفتح لجنة لتقصى الحقائق ومعاقبة المتجاوزين.
فى هذا السياق، ثمة رأى يقول بأن الاتفاق الأولى بين الشرع وعبدى – الذى سيخضع لعمل لجان مشتركة لوضع آليات التنفيذ الممكنة للاتفاق قبل نهاية عام 2025- لن يكون اتفاقاً حقيقياً إلا إذا اقترن دستورياً بالنص على "حماية وضمان كافة حقوق الشعب الكردى"، وأن ثمة مساراً تفاوضياً فى هذا الشأن اتفق عليه الطرفان بحيث يفضى فى النهاية إلى بلورة لوضع دستورى محدد للحقوق الكردية الثقافية، بالإضافة إلى تمثيل عادل فى البرلمان. هذا الرأى يراهن على حاجة الرئيس الانتقالى أحمد الشرع لتحقيق الاستقرار السياسى والأمنى باعتبارهما سبباً مباشراً فى استكمال مسار رفع العقوبات بما ينعكس إيجابياً على الوضع الاقتصادى الصعب.
1- الموقف التركى والأمريكى
الاتفاق بين الإدارة السورية الجديدة وقوات سوريا الديمقراطية "قسد" يعد فرصة لتجنب عملية عسكرية تركية كبيرة ضد "قسد" فى مناطق إدارتها الذاتية بشمال وشمال شرق سوريا، طالما سيتم دمجها ضمن القوات العسكرية النظامية للدولة السورية الجديدة، حيث سيوفر خضوعها للإدارة المركزية فى دمشق فرصة للتحكم فى تفاعلاتها فى منطقة الحدود السورية-التركية بما لا يهدد الأمن القومى التركى، خاصة وأن هذا الاندماج من شأنه تقليص فرص التعاون بين حزب العمال الكردستانى التركى المعارض وبين قوات "قسد". ورغم هذا التفاؤل إلا أن الحكومة التركية كان لديها حذر شديد فى التفاعل مع خبر التوصل لاتفاق بين أحمد الشرع وبين مظلوم عبدى وتمثل هذا الحذر فى مشهدين: الأول هو تأخر الإعلان عن موقف رسمى مباشر لتركيا بخصوص الاتفاق. والثانى هو توجيه غارات جوية تركية إلى مناطق تمركز "قسد" فى شمال شرق حلب بعد الإعلان عن الاتفاق بساعات قليلة، فى رسالة ضمنية تشى بعدم قبول أنقرة لهذا الاتفاق. وعلى العكس من موقف الجيش التركى، جاء موقف الرئيس التركى رجب طيب أردوغان؛ حيث أعلن عن ترحيبه بالاتفاق باعتباره يؤسس لمرحلة من الاستقرار السياسى فى سوريا، ويمنع شبح الانفصال الكردى، لكن فى الوقت نفسه أصر على نزع سلاح "قسد" وتفكيكها كتنظيم. واختلف المحللون فى توصيف هذا التناقض بكونه "توزيع أدوار" بين مؤسسات صنع القرار السياسى والعسكرى فى تركيا، وأنه تناقض لم تخفيه حقيقة كون الاتفاق بين "قسد" ودمشق تم التفاوض بشأنه برعاية أمريكية-تركية مشتركة. بمعنى أن تركيا وافقت فعلياً على بنود الاتفاق ومضمونها، لكنها فى الوقت نفسه تتحسب لعدم قدرة الطرفين على تنفيذ هذه البنود، خاصة وأن الاتفاق لايزال "أوّلياً" سيخضع للتفاوض عبر لجان مشتركة تتولى مهمة تنفيذ بنوده الثمانية قبل نهاية العام الجارى.
والجدير بالذكر أن الاتفاق بين "قسد" ودمشق سيحقق لتركيا أهم أهدافها فى سوريا وهى: توفير فرص سانحة لعودة اللاجئين السوريين الموجودين فى تركيا، وتفكيك قوات حماية الشعوب الكردية التى تمثل القوام الرئيسى لقوات سوريا الديمقراطية والمتعاونة بقوة مع حزب العمال الكردستانى التركى المعارض، ودخول قوات الأمن الحكومية الجديدة لتتولى حماية المعابر والحدود مع الجانب التركى بدلاً من قوات "قسد" التى كانت المهدد الرئيسى لأمن المنطقة الحدودية فى جنوب تركيا، فضلاً عن تقليص النفوذين الإيرانى والإسرائيلى اللذين كانا يتمتعان بعلاقات مباشرة مع الأكراد السوريين، إلى جانب تخليص العلاقات التركية-الأمريكية من ملف بينى شائك وهو ملف الدعم الأمريكى لقوات "قسد".
أما بالنسبة للموقف الرسمى الأمريكي، فقد رحب وزير الخارجية ماركو روبيو بالاتفاق باعتباره يعزز الانتقال السياسى فى سوريا من باب كون الاتفاق بين الدولة وإحدى القوميات بها وهى القومية الكردية، مما اعتبرته الخارجية الأمريكية أحد مظاهر "دمج القوميات" بصورة عابرة للطائفية فى النظام السياسى للدولة السورية الجديدة، بما يجنب فتح مزيد من جبهات الصراع الداخلى.
2- فرص صمود الاتفاق
الاتفاق بين دمشق و"قسد" لازال فى مراحله الأولى، حيث سيخضع تنفيذه للآليات التى ستضعها اللجان المشتركة بين الطرفين التى تتولى تنفيذ بنوده، ومن ثم فإن الاتفاق لديه من عوامل الصمود ما يمكنه من استكمال مسار تطبيقه، لكن فى الوقت نفسه ثمة عوامل كفيلة بإجهاضه وإفشاله فى مراحله الأولى. ويمكن الإشارة باختصار إلى عوامل صمود الاتفاق وأبرزها:
1- الرغبة التركية-الأمريكية المشتركة (فى ظل إدارة ترامب) بشأن تطبيق تهدئة فعلية بين النظام السورى الجديد وقوات سوريا الديمقراطية؛ بحيث تؤدى إلى قدر من الاستقرار السياسى والأمنى فى سوريا خلال المرحلة المقبلة.
2- الرغبة الجادة لدى الحكومة الانتقالية فى سوريا فى إبعاد شبح مشروعات تقسيم سوريا لدولة كردية فى الشمال ودرزية فى الجنوب وسنية فى الوسط.
3- حالة الدعم العربى الكبيرة للنظام السورى الجديد بما يوفر عمقاً سياسياً عربياً ودعماً إقليمياً من شأنه تقوية وضع الإدارة السورية الجديدة، بما يحفزها على معالجة مشاكل الداخل بصورة عملية على الأرض، ويمكنها فى الوقت نفسه من تقويض محاولات إيران العودة إلى لعب دور داخلى عبر تأليب الأقليات لاسيما العلوية، وكذلك تقويض محاولات إسرائيل خلق حليف محلى لها من أبناء الطائفة الدرزية.
وفى المقابل ثمة عوامل من شأنها التاثير سلباً على فرص تنفيذ الاتفاق نفسه من أبرزها:
1- عدم حسم الاتفاق لمصير الإدارة الذاتية الكردية بحدودها الجغرافية وموقف الحكومة فى دمشق منها، حيث اكتفى الاتفاق بالنص على "دمج المؤسسات العسكرية والمدنية فى مؤسسات الدولة" دون تحديد آلية التنفيذ.
2- عدم حسم طريقة "دمج" قوات "قسد" ضمن المؤسسات الأمنية والعسكرية للدولة؛ هل سيتم دمجها كتنظيم داخل الجيش السورى وفقاً لرغبة "قسد" نفسها، أم سيتم تفكيك التنظيم ويدمج مقاتلوه بصفة فردية ضمن المؤسسة العسكرية الواحدة؟. ويلاحظ هنا أن الاتفاق لم ينص صراحة على تفكيك سلاح "قسد"، وإنما اكتفى بدمجها وهو ما يؤشر على أن قوات "قسد" ستدخل المؤسسة العسكرية كتنظيم وليس كمقاتلين منفردين.
3- عدم حسم مصير تيار داخل "قسد" يرفض الاتفاق؛ وهو تيار أكثر ارتباطاً بحزب العمال الكردستانى التركى المعارض، هذا التيار يعارض السلطة الجديدة فى طريقة إدارتها للداخل السورى، حيث أصدر بياناً شديد اللهجة أدان فيه معالجة السلطة السورية الجديدة لأحداث الساحل السورى.
4- إحالة الخلافات البينية فى وجهات النظر بين الرئيس الانتقالى أحمد الشرع وبين قائد قوات سويا الديمقراطية "قسد" مظلوم عبدى إلى عمل اللجان التنفيذية المشتركة، مما قد يفتح المجال أمام الخلافات البينية مجدداً.
5- الترقب التركى لتطور تنفيذ الاتفاق؛ ففى حالة أن وجدت تركيا تأثيراً سلبياً للاتفاق على نفوذها فى سوريا الجديدة، أو أنه لم يوفر ضمانات أمنية كافية لحدودها الجنوبية فإنها قد تلجأ إلى شن عملية عسكرية موسعة وجديدة فى شمال سوريا، بما سيضع الاتفاق على المحك من ناحية، ويضع الشرع نفسه فى مأزق أمام تعهداته الداخلية للشعب السورى ككل من ناحية ثانية.
الإعلان الدستورى بين الإيجابيات والسلبيات
فى إطار محاولات الرئيس الانتقالى أحمد الشرع تحقيق قدر من الاستقرار الداخلى- لاسيما بعد التوصل إلى اتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية "قسد"- وقع يوم 13 مارس 2025 على وثيقة "الإعلان الدستورى" المنظم للمرحلة الانتقالية الجديدة التى ستستغرق خمسة سنوات. الإعلان شمل كافة مناحى إدارة لدولة؛ لاسيما الفصل بين السلطات، وتحديد شكل النظام السياسى بكونه نظاماً رئاسياً، وتشكيل مجلس تشريعى حيث يمنح الإعلان الرئيس سلطة تعيين ثلث أعضاؤه، ووضع الإعلان استقلال القضاء كأساس للمحاسبة القانونية، كما منح الرئيس سلطة فرض حالة الطوارئ بموافقة مجلس الأمن القومى الذى أعلن الشرع عن تشكيله قبيل تدشين الإعلان الدستورى، وقد شمل الإعلان أيضاً العديد من البنود والمواد التى لا يتسع المجال هنا لسردها.
كان من أبرز ردود الفعل على الإعلان الدستورى هو الرفض الذى أبداه مجلس سوريا الديمقراطية "مسد" – الذراع السياسى لقوات سوريا الديمقراطية "قسد" - للإعلان باعتباره من وجهة نظر المجلس يتناقض مع الاتفاق الموقع بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية قبلها بيومين، كما أنه لم ينص صراحة على وضع الأكراد دستوريا، ويغفل حالة التنوع العرقى والطائفى فى سوريا.
من اللافت فى الإعلان أيضاً هو النص على أن "الفقه الإسلامى" هو المصدر الرئيسى للتشريع بدلاً من الشريعة الإسلامية، ما يفتح الباب أمام التأويل والاجتهاد عند صياغة الدستور الجديد. وفى معرض تفسير النص على اعتبار الفقه وليس الشريعة الإسلامية هو مصدر التشريع، سيقت العديد من التفسيرات تمحور معظمها فى محاولة الإدارة السورية الجديدة تجاوز المسائل الخلافية التى تحتاج وقتاً طويلاً لمناقشاتها، خاصة تلك التى تمثل إشكالية بين مكونات المجتمع السورى كمسألة الشريعة الإسلامية، وهو ما يعكس رغبة السلطة الجديدة ذات المرجعية الدينية الإسلامية في إبعاد فكرة أنها ستسعى لإقامة (نظام دينى) بما قد يثير مخاوف الأقليات والطوائف فى سوريا، وثمة مصادر تقول بأن صيغة "الفقه الإسلامى" كانت موجودة فى الدستور السابق، وهو ما اعتبرته اللجنة التى صاغت الإعلان الدستورى صيغة توافقية تتجاوز الاختلافات التفسيرية بشأن النص الخاص بالشريعة الإسلامية. بل ثمة من يشير إلى أن مظلوم عبدى نفسه كان قد حذر من اعتبار الشريعة الإسلامية مرجعية للحكم، لأن ذلك سيخلق من وجهة نظره مزيداً من الفوضى والانقسام. ويلاحظ هنا أن السلطة الجديدة قد تماهت مع مطلب عبدى – بالرغم من كونه لا يتفق مع مرجعية الإدارة الجديدة – الأمر الذى يعكس براجماتية ومرونة عالية من قبل تلك الإدارة من ناحية، ورغبتها فى تفويت الفرصة على راغبى بث الفتن الطائفية من ناحية ثانية.
فى النهاية، يمكن القول إن الاتفاق بين السلطة الجديدة وقوات سوريا الديمقراطية من ناحية، وتدشين الإعلان الدستورى من ناحية ثانية، يمثلان تطورين مهمين فى مسار الانتقال السياسى فى سوريا الجديدة بالرغم من التحديات والإشكاليات المتعلقة بكليهما، ومن شأنهما أن يحققا قدراً من الاستقرار النسبى داخلياً، ويوفرا فرصاً داعمة لدور أكثر نشاطاً للإدارة السورية الجديدة خارجياً. لكن فى كلا الحالتين، فإن سوريا الجديدة لاتزال فى حاجة ماسة إلى الدعم الإقليمى العربى تحديداً بما يمكنها من إنفاذ مسار انتقالي ناجح فى غضون السنوات الأربعة المقبلة.