دفعت التطورات التي طرأت على الساحتين الإقليمية والدولية خلال الفترة الماضية حلف شمال الأطلنطى إلى تعزيز الاهتمام بمناطق عديدة على غرار مناطق شرق المتوسط وشمال أفريقيا والساحل. وفي هذا السياق، شهدت العلاقات بين موريتانيا وحلف "الناتو" طفرة نوعية في الآونة الأخيرة، على نحو انعكس في تكرار الزيارات واللقاءات الرسمية بين الجانبين، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة من الشراكة، التي يتمثل عنوانها الرئيسي في تقديم الحلف دعماً لموريتانيا على المستوى الأمني، باعتبار أن ذلك يمثل، في رؤية الحلف، محوراً أساسياً في تعزيز الاستقرار في منطقة الساحل الأفريقي، وهو الدعم الذي يأتي في سياق التهديدات الأمنية المتزايدة في المنطقة، خاصة مع تصاعد أنشطة الجماعات الإرهابية. ومن هنا، اكتسبت المباحثات التي أجراها وزير الدفاع وشئون المتقاعدين وأولاد الشهداء الموريتاني حننه ولد سيدي، في 30 يناير 2025 في نواكشوط مع بعثة حلف "الناتو" برئاسة خافيير كولومينا الأمين العام المساعد للحلف أهمية خاصة، حيث بحث الجانبان علاقات التعاون القائمة بين موريتانيا وحلف الناتو وسبل تعزيزها، خصوصاً في قطاع الدفاع.
شراكة جديدة
تعد موريتانيا شريكاً استراتيجياً مهماً لحلف "الناتو"، وقد بدأت العلاقات تشهد مساراً تصاعدياً منذ عام 1995 على خلفية انضمام موريتانيا - من خارج الدول الأعضاء بالحلف - لمنظومة "الناتو" للحوار عبر المتوسط وما تبعها من تعاون ممتد منذ ذلك الحين.
وقد مثلت دعوة الحلف لمشاركة موريتانيا في قمته المنعقدة في مدريد في نهاية يونيو 2022، تحولاً استراتيجياً مستجداً في خضم التفاعلات الدولية التي جرت في مرحلة ما بعد اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية بصورة عامة. وفى هذا السياق، أبدى الناتو اهتماماً متزايداً بموريتانيا خلال هذه القمة، حيث كانت موريتانيا والأردن البلدان الوحيدان غير العضوين في الحلف اللذين تمت دعوتهما إلى القمة، وشهدت الشراكة بين الجانبين نقلة نوعية بعد زيارة الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، لمقر الحلف في بروكسل في يناير 2021، والتي كانت الأولى من نوعها لرئيس موريتاني منذ استقلال البلاد في عام 1960. وعقب هذه الزيارة، ازدادت وتيرة الاتصالات عالية المستوى بين الطرفين بشكل ملحوظ، ومن أبرز تلك الاتصالات؛ كانت زيارة خافيير كولومينا الأمين العام المساعد للحلف إلى موريتانيا، خلال الفترة من 31 مايو حتى 2 يونيو 2022، حيث صرح حينها بأن موريتانيا انتقلت من مرتبة شريك أساسي مع الحلف إلى وضع الشريك الوحيد في منطقة الساحل، التي تعاني حالياً من تحديات أمنية متعددة.
ويعزز توصيف الأمين العام المساعد لحلف "الناتو" موريتانيا بالشريك الوحيد للحلف في منطقة الساحل من هذا الطرح، بل ويشير إلى المسار المستقبلي الذي يمكن أن تتجه إليه العلاقات بين الحلف وموريتانيا، خاصة في ظل ما تقوم به نواكشوط من دور قيادي في مجموعة الدول الخمس في الساحل وما حققته من نجاحات في مواجهة الجماعات المسلحة.
أسباب التحول في سياسة "الناتو"
ثمة أسباب متعددة جعلت حلف "الناتو" يغير من سياساته ويزيد من اهتمامه بتطوير العلاقات مع موريتانيا، يتمثل أبرزها في:
1- التحديات الأمنية القادمة من الشرق الأوسط: تأثرت الاستراتيجية العالمية لحلف "الناتو" بالتحديات الأمنية القادمة من منطقة الشرق الأوسط، التي تفاقمت خلال الفترة الماضية. وقد تجسدت هذه التحديات بشكل واضح في الحرب التي اندلعت في قطاع غزة ولبنان، بداية من 7 أكتوبر 2023، فضلاً عن الحرب الروسية – الأوكرانية التي نشبت في 24 فبراير 2022، حيث أبرزت نفوذ القوى الإقليمية وتأثيرها المباشر على الاستقرار العالمي1 . ففي الحرب الأوكرانية، لعبت الطائرات المسيرة الإيرانية دوراً حيوياً في دعم روسيا، ما أثر على الدفاعات الأوكرانية والأهداف الاستراتيجية. أما الحرب في غزة، فقد تسببت في تهديد مسارات التجارة العالمية والتحكم في موارد الطاقة، بسبب تصاعد حدة الهجمات على السفن في البحر الأحمر 2.
2- التصدي للتغلغل الصيني: تمثل الصين إحدى أبرز القوى التي تُثير تحركاتها قلق حلف "الناتو" والدول الغربية في منطقة الساحل، حيث تسعى لتعزيز وجودها في موريتانيا. وقد أسفرت الزيارة الأخيرة للرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني إلى الصين، في 4 سبتمبر 2024، عن إعفاء بكين لموريتانيا من ديون تصل إلى 150 مليون يوان صيني (حوالي 20 مليون دولار)، فضلاً عن توجيه الشركات الصينية للاستثمار داخل البلاد وتوقيع اتفاق إطار للتعاون في إطار مبادرة "الحزام والطريق". كما تسعى الصين أيضاً إلى تأكيد مكانتها كقوة عظمى على المستوى الأفريقي، خاصة في خضم الحرب الباردة الجديدة مع الدول الغربية، وذلك لضمان وصولها غير المقيد إلى المعادن الثمينة والموارد الطبيعية الحيوية للاقتصاد والمصالح العسكرية الصينية3. ونتيجة لذلك، يُعتبر النشاط التجاري المتزايد للصين مصدر قلق لـ"الناتو"، الذي يعتبر أن التوسع الاقتصادي لبكين قد يُسهم بشكل مباشر في تعزيز نفوذها داخل القارة الأفريقية.
3- تعثُّر إمدادات الغاز الطبيعي الروسي: وقد فرض ذلك تهديداً خطيراً للأمن الطاقوي في القارة الأوروبية، على نحو كان له دور في الاتجاه نحو إعادة بناء الاستراتيجيات النفطية والغازية لدول المنظومة الأطلسية، والتي يتمثل أحد محاورها في تطوير التعاون الاقتصادي مع دول شمال وغرب أفريقيا المنتجة للغاز الطبيعي.
4- انهيار منظومة الشراكة الساحلية: وذلك بعد الانقلابات العسكرية التي وقعت في مالي وبوركينافاسو والنيجر خلال السنوات من 2021 الى 2023، وما تلاها من انسحاب مالي من مجموعة G5 في 15 مايو 2022، مع تزايد النفوذ العسكري الروسي في المنطقة (في مالي خصوصاً). ومع الانسحاب الفرنسي والأمريكي من مالي وتجميد الشراكة الأطلسية مع دول المنطقة، فإن ذلك كان دافعاً للتعجيل بمراجعة أهداف وتوجهات حلف "الناتو" في إقليم الساحل.
5- احتواء التمدد الإيراني: في ظل التحولات الجيوسياسية المعقدة التي يشهدها الساحل الأفريقي، تسعى إيران إلى استغلال الفراغ الأمني القائم لتعزيز وجودها. وتتحرك طهران بخطوات محسوبة نحو دعم نفوذها في المنطقة. وقد تجلت هذه الجهود في زيارات رفيعة المستوى لمسئولين إيرانيين، لبحث سبل التعاون مع موريتانيا، بما في ذلك مواجهة الإرهاب في غرب أفريقيا وتوسيع نطاق التعاون الاقتصادي. وتأتي هذه التحركات في إطار مساعي إيران لموازنة النفوذ المتنامي لحلف "الناتو" في المنطقة، ومحاولة تأمين موقع استراتيجي لها في غرب أفريقيا، خاصة في ظل تزايد التوترات مع الدول الغربية حول الملف النووي 4.
6- مواجهة التمدد الروسي: حرصت روسيا على استغلال التوتر الذي تصاعدت حدته بين دول الساحل والدول الغربية، لا سيما فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، من أجل تعزيز دورها ونفوذها في تلك المنطقة، عبر تأسيس علاقات على مستويات مختلفة، لا سيما السياسية والعسكرية. وقد كان لمجموعة "فاجنر" حضور بارز في التطورات الميدانية التي شهدتها العديد من تلك الدول خلال الفترة الماضية، على نحو كان له دور في اتجاه حلف "الناتو" نحو تطوير علاقاته مع دول تلك المنطقة، ولا سيما موريتانيا.
ختاما، يُعد توسيع نطاق التعاون بين حلف "الناتو" وموريتانيا خطوة استراتيجية مهمة لتعزيز الاستقرار والأمن في منطقة الساحل الأفريقي التي تحظى باهتمام خاص من جانب الأول. هذا التعاون يأتي في سياق التهديدات الأمنية المتزايدة التي تشهدها المنطقة، خاصة مع تصاعد أنشطة الجماعات الإرهابية. كما أنه لا ينفصل عن التحولات الجديدة التي طرأت على العلاقات بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، في ظل السياسة التي تتبناها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي ربما تدفع الحلف إلى إعادة توجيه الاهتمام نحو مناطق التماس المباشر، وفي مقدمتها منطقة الساحل، التي يمكن أن تفرض التطورات فيها تهديدات مباشرة لأمن واستقرار دوله.
المراجع:
1- عبدالمنعم علي، تقارب متنامٍ: الناتو وموريتانيا ومعادلة الأمن الإقليمي، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 4/8/2024، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/LJEdjuWX
2- مريم عبد الحي فراج، موريتانيا وحلف الناتو: دوافع الشراكة، مركز فاروس، 2024/09/30، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/cmN8PH7Z
3-أقريني أمينوه، موريتانيا "شريكة الناتو" تشق طريقها نحو الصين وروسيا، إندبندنت عربية، 1/8/2023، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/Y3tCE4MW
4-إيران تراهن على موريتانيا والجزائر لتقوية النفوذ في شمال أفريقيا والساحل، هسبريس، 9/4/2023، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/GHlxdXDf