بعد نحو ثلاث سنوات على اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، ومع انشغال موسكو في إدارة العمليات العسكرية ومواجهة الضغوط والعقوبات التي تفرضها الدول الغربية، برزت فرص جديدة لإعادة رسم خريطة النفوذ الإقليمي في منطقة كانت حتى وقت قريب خاضعة للتأثير الروسي.
في هذا السياق، تواصل إيران تبني سياسة "التوجه شرقاً"، التي أرسى معالمها الرئيس السابق إبراهيم رئيسي، ويسير على نهجه الرئيس الحالي مسعود بزشكيان، في وقت تواجه إيران تحديات إقليمية متصاعدة، خاصة بعد التحولات التي فرضتها الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة ولبنان، بداية من 7 أكتوبر 2023، والتي توازت مع عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وما قد يترتب على ذلك من تداعيات سياسية واقتصادية على طهران.
ولتعزيز حضورها الإقليمي في آسيا الوسطى وبالتالي تعويض تراجع نفوذها في الشرق الأوسط وتفادي العزلة الناتجة عن العقوبات الغربية، إلى جانب تعزيز شرعية النظام داخلياً في ظل الاضطرابات التي تشهدها البلاد، أولت طهران أهمية خاصة لتطوير علاقاتها مع دول وسط آسيا، لما لتلك المنطقة من أهمية استراتيجية، ولامتلاكها أسواقاً واعدة للصادرات الإيرانية.
أسباب عديدة
تتمتع منطقة آسيا الوسطى والتي تضم كازاخستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان، وتركمانستان، وأوزبكستان، بأهمية استراتيجية بارزة نظراً لموقعها الجغرافي المميز، بين الصين من جهة الشرق، وروسيا من الشمال والشمال الغربي، وإيران من الجنوب الغربي، بينما تفصلها أفغانستان من الجنوب عن الهند، كما يفصلها بحر قزوين عن منطقة جنوب القوقاز غرباً، مما يمنحها إمكانات اقتصادية كبيرة ويجعلها ساحة رئيسية للتنافس على النفوذ بين القوى الإقليمية والدولية.
في المقابل، ورغم العزلة التي تواجهها إيران، يظل موقعها الجغرافي محور استقطاب مهماً للدول الساعية إلى الوصول إلى طرق التجارة البرية والبحرية. وينطبق هذا بشكل خاص على دول آسيا الوسطى، حيث تعد إيران ممراً استراتيجياً رئيسياً لتلك الدول نحو الأسواق العالمية، خاصة أنها توفر لها بوابة إلى الشرق الأوسط وعبر تركيا إلى أوروبا، وكذلك إلى باكستان والهند والدول الآسيوية الأخرى.
وقد اتبعت إيران في تعاملها مع منطقة آسيا الوسطى نهجاً قائماً على مبدأ "التعاون المتبادل في إطار سياسة حسن الجوار"، والذي يهدف إلى ترسيخ علاقات وثيقة بين الحكومات والشعوب في الدول المجاورة، مع تعزيز التعاون في مختلف المجالات. وتعتبر طهران أن الحفاظ على روابطها مع دول آسيا الوسطى امتداد طبيعي لإرث تاريخي وثقافي عريق، ظل راسخاً عبر القرون، لكنه تعرض للانقطاع خلال الحقبة السوفيتية، وذلك استناداً إلى جملة من الدوافع، التي يمكن إجمالها على النحو الآتي:
1- اعتبارات استراتيجية: تكتسب منطقة آسيا الوسطى أهمية استراتيجية كبرى بسبب موقعها الجيوسياسي الفريد. بالإضافة إلى ذلك، تمتلك المنطقة بعضاً من أهم موارد الطاقة، وخاصة النفط والغاز، مما يجعل الوصول إليها ذا أهمية استراتيجية لجميع الأطراف المعنية، سواء كانت قوى إقليمية أو دولية. وقد أدت هذه الأبعاد الاستراتيجية إلى إبقاء آسيا الوسطى في صدارة السياسة الدولية في القرن الحادي والعشرين.
2- دوافع أمنية: ترى إيران أن استقرار حدودها الشمالية يشكل ركيزة أساسية في علاقاتها مع دول آسيا الوسطى، مما يفرض عليها التزامات استراتيجية للمساهمة في تعزيز أمن تلك الدول. ولا يزال استقرار المنطقة، خاصة في ما يتعلق بأفغانستان، يشكل هاجساً أمنياً لإيران. فرغم التقارب المؤقت بين طهران وطالبان خلال الاحتلال الأمريكي لأفغانستان، إلا أن عودة الحركة إلى السلطة عام 2021 أثارت التوتر من جديد بين الجانبين. وحتى قبل الانسحاب الأمريكي، نظرت إيران إلى أفغانستان باعتبارها بؤرة للتطرف، متهمة طالبان بإيواء مقاتلي داعش-خراسان. في المقابل، تتوجس الحركة من الدعم الإيراني لبعض المكونات على غرار الهزاره، الذين تعرضوا تاريخياً للقمع على يد الجماعات المتشددة.
وتساهم القضايا العابرة للحدود - كتهريب المخدرات وتدفق اللاجئين الأفغان إلى إيران – في تفاقم حدة التوتر بين طهران وكابول. إذ كثيراً ما تنتقد إيران دول آسيا الوسطى لعجزها عن احتواء هذه التدفقات، التي تفوق قدرة بنيتها الاجتماعية المثقلة بالأساس، ما يزيد من تعقيد المشهد الإقليمي ويعزز الحاجة إلى مقاربات أكثر شمولية لتحقيق الاستقرار. ومن هذا المنطلق، ترى اتجاهات عديدة في إيران أنه يمكن لطهران توسيع نفوذها الإقليمي عبر تعزيز التعاون في مجالات مكافحة الإرهاب، وضبط الحدود، وترسيخ الاستقرار، مستغلة تراجع الحضور الروسي نتيجة انشغال موسكو بالحرب في أوكرانيا.[1]
3- أسباب اقتصادية: تعمل إيران على تعزيز مكانتها كمركز محوري لحركة العبور والتجارة، مستفيدة من مشاريع البنية التحتية التي تربطها بالمنطقة. ويبرز ممر الشمال-الجنوب كأحد أهم المشاريع الاستراتيجية، حيث يتيح لإيران دوراً رئيسياً في تسهيل حركة التجارة بين آسيا الوسطى، والخليج، وأوروبا. كما أن المشاركة في مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، والانخراط في منظمة شنغهاي للتعاون، يوفران لطهران فرصاً إضافية لتعزيز علاقاتها التجارية والاستثمارية، وتطوير شبكة النقل واللوجستيات داخل البلاد.
إلى جانب ذلك، يمثل تنويع مصادر استيراد الطاقة والتبادل التجاري مع دول آسيا الوسطى عاملاً رئيسياً في تخفيف الضغوط الاقتصادية الناجمة عن العقوبات الغربية. فإيران، من خلال تعميق تعاونها مع هذه الدول، يمكنها تعزيز اقتصادها، وتأسيس شراكات استراتيجية تُسهم في كسر العزلة المفروضة عليها، وتوسيع نفوذها في محيطها الإقليمي.
تحديات قائمة
هناك العديد من التحديات التي يمكن أن تعرقل طموحات إيران في آسيا الوسطى، خاصة في ظل التنافس الإقليمي والدولي على النفوذ في هذه المنطقة. ولهذا، وضعت كل القوى الإقليمية والدولية المعنية بهذه المنطقة استراتيجيات خاصة لتعزيز نفوذها الاقتصادي فيها. ويمكن ملاحظة ذلك من خلال عدد من المبادرات والمشاريع الكبرى، مثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وطريق الحرير الجديد، ومبادرة آسيا الوسطى الكبرى، ومشروع "حزام واحد، طريق واحد"، بالإضافة إلى مشروع خط أنابيب الغاز "TAPI"، وممر الشمال-الجنوب. هذه المشاريع قد توفر فرصاً لإيران، لكنها قد تفرض أيضاً تحديات قد تؤثر على مصالحها الوطنية. وتتمثل أبرز تلك التحديات في:
1- تحديات اقتصادية: يمكن القول إنه رغم سعي إيران لتعزيز روابطها مع آسيا الوسطى، إلا أن دول المنطقة قد تنظر إلى التعاون مع طهران بحذر، نظراً لحالة عدم الاستقرار السياسي التي تلازم علاقاتها الخارجية. ويكتسب هذا الحذر أهمية خاصة في وقت تتطلع فيه دول آسيا الوسطى إلى بناء شراكات مستقرة وموثوقة، لاسيما مع التراجع النسبي لدور روسيا في المنطقة. كما يبرز تحدٍ جيو-اقتصادي آخر يتمثل في احتمال تعارض المصالح التجارية بين إيران والصين، وهو ما قد يثير خلافات بين البلدين بشأن مشاريع البنية التحتية الإقليمية.
وتمثل القيود التي تفرضها روسيا عقبة رئيسية أخرى أمام دخول إيران إلى سوق الطاقة، حيث تسعى موسكو إلى الحفاظ على هيمنتها على صادرات الغاز والنفط إلى دول آسيا الوسطى وأوروبا، مما يحد من قدرة طهران على توسيع نفوذها في هذا القطاع الحيوي. من جهة أخرى، يشكل التوجه الهندي المدعوم من الولايات المتحدة تحدياً آخر لإيران، خاصة مع دعم نيودلهي للمشاريع الأمريكية التي تهدف إلى تقليص الدور الإيراني في شبكات الطاقة الإقليمية. ويعد مشروع خط أنابيب الغاز "TAPI" (تركمانستان - أفغانستان - باكستان - الهند) أحد أبرز هذه التحديات، حيث يهدد المشروع الطموحات الإيرانية في تصدير الغاز إلى جنوب آسيا، ويقلل من اعتماد هذه الدول على الإمدادات الإيرانية. كما أن فشل مشروع خط أنابيب السلام (إيران-باكستان-الهند)، الذي كان من المفترض أن يعزز مكانة إيران كمصدر رئيسي للغاز إلى جنوب آسيا، أدى إلى إضعاف نفوذ طهران في المنطقة، وترك المجال مفتوحاً أمام البدائل المدعومة من القوى الكبرى.
2- تنافس إقليمي: رغم أن طهران تتبنى مقاربة براجماتية تسعى من خلالها إلى تحقيق مكاسب دون الدخول في صراعات مباشرة، إلا أن التنافس الإقليمي يفرض عليها تحديات معقدة. إذ يتصاعد نفوذ قوى إقليمية مثل تركيا وإسرائيل، مما يحد من قدرتها على تعزيز حضورها الاستراتيجي في المنطقة.
وتعد تركيا من أبرز المنافسين لإيران في آسيا الوسطى، حيث تسعى إلى تعزيز نفوذها الثقافي والاقتصادي والعسكري في المنطقة، مستفيدة من الروابط اللغوية والثقافية مع الدول الناطقة بالتركية. ورغم أن التنافس بين البلدين لم يصل إلى مرحلة الصراع المباشر، فإن التحركات التركية، مثل تزويد قيرغيزستان بطائرات بيرقدار TB2، تعزز دور أنقرة كفاعل أمني مؤثر، مما قد يحد من النفوذ الإيراني، لا سيما في ظل العلاقات المتوترة بين طاجيكستان (الحليف الأقرب لإيران في المنطقة) والدول الناطقة بالتركية.
إلى جانب المنافسة مع تركيا، تواجه إيران تحدياً استراتيجياً آخر في آسيا الوسطى يتمثل في تنامي النفوذ الإسرائيلي في المنطقة. إذ تعمل إسرائيل بالتعاون مع الولايات المتحدة على تحجيم نفوذ إيران في آسيا الوسطى من خلال أدوات دبلوماسية واقتصادية تهدف إلى عزل طهران دولياً وإقليمياً. فمنذ انهيار الاتحاد السوفييتي، عملت تل أبيب على تعزيز علاقاتها مع دول آسيا الوسطى، مستفيدة من الروابط الدبلوماسية والاقتصادية، وهو ما يضعها في مواجهة غير مباشرة مع طهران. فقد عززت إسرائيل علاقاتها الدفاعية والاستخباراتية مع بعض دول آسيا الوسطى، مثل أذربيجان وكازاخستان، وتقوم باستغلال هذه الشراكات لجمع معلومات استخباراتية عن الداخل الإيراني. كما تسعى إسرائيل إلى تقديم نفسها كشريك اقتصادي لدول آسيا الوسطى، مستفيدة من خبراتها في مجالات التكنولوجيا والزراعة والمياه، مما قد يقلص من اعتماد هذه الدول على التعاون مع إيران.
ختاماً، يمكن القول إنه رغم التحديات التي تواجهها إيران في منطقة آسيا الوسطى، إلا أنه لا يمكن التقليل من أهمية دورها في تلك المنطقة، حيث تظل سياسة "التوجه شرقاً" أحد الأركان الأساسية في استراتيجيتها الخارجية، خاصة في ظل التطورات التي طرأت على الساحتين الإقليمية والدولية والتي لا توفر خيارات كثيرة لها في المرحلة القادمة.