تواجه عملية تنفيذ بنود المرحلة الأولى لاتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في 19 يناير 2025، والذي كان من المتوقع بحسب بنوده أن يبدأ التفاوض في اليوم الـ 16 على شكل وملامح المرحلة الثانية، حالة من التعثر، حيث يبدو أن الجانب الإسرائيلي يرغب في عرقلته عبر التلكؤ في تنفيذ بنود "البروتوكول الإنساني" بحسب ما كشفت عنه حركة حماس التي كانت قد أعلنت تعليق تسليم الدفعة السادسة من الأسرى، حيث كان من المقرر أن تتم في 15 فبراير - قبل أن تتراجع- وذلك لحين التزام الجانب الإسرائيلي بتنفيذ التزاماته المقررة وفقًا للاتفاق، وهو ما رد عليه الرئيس الأمريكي بالتهديد بـ "فتح أبواب الجحيم"، على نحو تلقفه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وأعلن عن اتجاهه لإنهاء وقف إطلاق النار والعودة إلى "القتال المكثف حتى هزيمة حماس في النهاية"، وذلك في حال "إذا لم تعيد حماس الرهائن حتى ظهر يوم السبت".
يأتي هذا التطور اتساقًا مع سياق تصريحات تهجير سكان قطاع غزة التي يصدرها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي تتعارض بشكل أساسي مع جوهر اتفاق وقف إطلاق النار بمراحله الثلاث التي مقرر لها أن تقود إلى وقف دائم لإطلاق النار وبدء عملية إعادة إعمار القطاع. ومن ثم، تعزز هذه المعطيات حالة عدم اليقين بشأن صمود اتفاق وقف إطلاق النار واستكمال باقي مراحله، وهو ما يطرح التساؤل حول حسابات الموقف الإسرائيلي ومحدداته التي يمكن من خلالها فهم مآلات الاتفاق، وما إذا كان القبول الإسرائيلي منذ البداية للوصول إلى اتفاق ارتبط بتحرك تكتيكي لاستيعاب فقط ضغوط الإدارة الأمريكية الجديدة أم أنه يرتبط بحسابات الواقع الاستراتيجي للدولة العبرية التي قد تجعل استمرار الحرب أكثر ضررًا منها فائدة.
محددات الموقف الإسرائيلي وحسابات اللحظة الراهنة
ينطلق الموقف الإسرائيلي في ضوء متغيرات السياق الراهن، وتفاعله معه الذي أفضى لتمرير المرحلة الأولى لاتفاق وقف إطلاق النار، من عدة محددات وركائز تحرك، يمكن إبرازها في التالي:
1- تأزم الداخل الإسرائيلي وهشاشة استقرار الائتلاف الحاكم: فرض تمرير المرحلة الأولى لاتفاق وقف إطلاق النار مزيدًا من الهشاشة على استقرار الائتلاف الحكومي، حيث أعاد للمشهد مرة أخرى حالة الابتزاز التي يخضع لها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من شركاءه في الائتلاف من الأحزاب الأرثوذكسية المتطرفة، من خلال التهديد بدفع الائتلاف للانهيار عبر الانسحاب منه، ورغم تكرار وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، تهديده بالانسحاب طوال فترة الحرب إلا أنه نفذ هذه المرة تهديده وانسحب من الحكومة في أعقاب التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار، بينما هدد وزير المالية بتسلئيل سومتريتش بالانسحاب في حال عدم استئناف الأعمال العسكرية بعد الانتهاء من المرحلة الأولى. ويبدو أن الأخير قد أبدى مرونة تكتيكية للحفاظ على الائتلاف ودفعه للاستمرار حتى عام 2026، لقطع الطريق أمام نتنياهو للجوء لشبكة أمان من المعارضة، تعويلاً على فرص تمرير رؤيته اليمينية المتطرفة بشأن التوسع الاستيطاني، وضم أراضٍ جديدة بالضفة الغربية، عبر هذا الائتلاف اليميني المتطرف، وذلك اعتمادًا على مجئ إدارة جمهورية أمريكية مفضلة، وهو ما كان قد عبر عنه سومتريتش في تصريحات له في 19 يناير 2025، لتوضيح موافقته على تمرير المرحلة الأولى من الاتفاق، حيث وصف الظرف الناشئ باعتباره يشكل "فرص تاريخية كامنة في عامين من حكم الحكومة اليمينية المدعومة من إدارة ترامب"، موضحًا هذه الفرص في "منع قيام دولة فلسطينية، وتوسيع اتفاقيات إبراهيم، وتعزيز الهوية اليهودية للبلاد (في إشارة لعمليات الضم المحتملة لأراضٍ جديدة في الضفة الغربية)"[1].
ولعل ذلك يتقاطع مع مواقف بعض أعضاء الإدارة الأمريكية الجديدة المؤيدة لهذه الرؤية وهذا الطموح اليميني، حيث كان قد ذهب مايك هكابي الذي عينه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سفيرًا للولايات المتحدة بإسرائيل في تصريحات سابقة إلى إنكار الوجود الفلسطيني مؤكدًا أنه "لا يوجد شيء اسمه فلسطيني"[2]. وبطبيعة الحال، لا ينفصل ذلك عن التبني الأمريكي للمقترح الإسرائيلي بتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، الذي عبر عن تأييده الرئيس الأمريكي ودعوته لاستقبال الدول العربية للفلسطينيين المهجرين.
ومن ثم، تعكس هذه المتغيرات حالة الهشاشة التي عليها الائتلاف الحكومي الإسرائيلي وتأزمه، على نحو دفع المستوى السياسي لعدم الالتزام حتى الآن بالجدول الزمني الذي تضمنته بنود المرحلة الأولى للاتفاق، والتي كان من المقرر أن تبدأ في اليوم الـ 16 من عمر المرحلة الأولى، المفاوضات بشأن المرحلة الثانية الحاسمة للاتفاق، فرغم موافقة رئيس الوزراء الإسرائيلي على إرسال وفد إلى الدوحة لمناقشة التفاصيل الفنية لاتفاق وقف إطلاق النار، إلا أنه لم يفوض الفريق بمناقشة المرحلة الثانية من الاتفاق، بحسب تقارير عبرية[3].
وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى أنه ربما يعوّل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في ظل هامش الحركة الذي تعزز على خلفية زيارته الأخيرة لواشنطن التي عززت موقفه الداخلي في مواجهة شركاءه خاصة على وقع أصداء تصريحات الرئيس الأمريكي بشأن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة[4]، على كسب مزيد من الوقت من أجل تمرير ميزانية عام 2025، المتوقع التصويت عليها بالقراءة الثانية والثالثة بحد أقصى في 31 مارس 2025، وهو إجراء يعد بمثابة تصويت بسحب الثقة من الائتلاف إذا ما فشل في تمريره([5]. هذا فضلاً عن احتواء حالة الغضب التي عليها الشارع الإسرائيلي تحت وطأة ضغوط أهالي الأسرى، الذي يشكل قيدًا على بنيامين نتنياهو للتنصل من الاتفاق الذي انطلق بالفعل وأوتى ثماره بالإفراج عن ذويهم من الرهائن أحياء.
2- متغير الإدارة الأمريكية الجديدة وعامل الضغط: شكل مجئ الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة الرئيس الجمهوري دونالد ترامب العامل الأهم الذي أدى بدوره لفرض الضغط من أجل كسر جمود مشهد المفاوضات الذي حكم مشهد الأزمة طيلة الفترة الماضية باستثناء الهدنة المحدودة التي تم التوصل إليها في نوفمبر 2023، وذلك على خلفية الدعوة التي وجهها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بضرورة إنهاء الحرب قبل تنصيبه في 20 يناير 2025[6]، وهو ما يبدو أن الحكومة الإسرائيلية في تل أبيب أرادت أن تتجاوب معه لتبدأ علاقاتها مع الإدارة الجديدة بشكل إيجابي يساعدها على الحفاظ على استقرارها ويدعم رؤيتها وتحركاتها الأخيرة في الإقليم.
وفي هذا الإطار، حاولت واشنطن تخفيف ضغوط الموقف المأزوم الذي يواجهه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من جانب شركاءه في الائتلاف نتيجة رفضهم الذهاب لاتفاق وقف إطلاق النار والدفع نحو استمرار المسار العسكري، فجاء ضمن أولى قراراته التي اتخذها يوم تنصيبه في 20 يناير 2025، قرار برفع العقوبات عن المستوطنين الإسرائيليين اليمينيين المتطرفين في الضفة الغربية[7]، بالإضافة إلى الموافقة في مطلع فبراير الجاري (2025) على بيع أسلحة إضافية لإسرائيل بقيمة 7.4 مليار دولار[8]، فضلاً عن إعطاء الأفضلية للقاء الأول للرئيس الأمريكي مع مسئول دولي خلال الزيارة التي قام بها نتنياهو لواشنطن وما رافقها من تصريحات للرئيس الأمريكي بشأن دعواته لتهجير الفلسطينيين لدول الجوار، التي حاول من خلالها المزايدة على التوجه المتطرف للأحزاب اليمينية في الداخل الإسرائيلي برفع سقف طموحهم المتطرف بخطة "التهجير"، وهو ما كان له أصداءه الإيجابية في أوساط اليمين المتطرف[9]، وذلك في محاولة لتعزيز مساحة الحركة للإدارة الأمريكية الجديدة ولرئيس الوزراء الإسرائيلي من أجل كسب الوقت وتأمين بقاء اتفاق وقف إطلاق النار باعتباره أرضية انطلاق صفقات الإدارة الأمريكية في المنطقة.
ومن ناحية أخرى، حاول الرئيس الأمريكي عبر هذه التصريحات منح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ثمن مرونة موقفه لتمرير المرحلة الأولى، من خلال تقوية موقفه في الداخل وجعله جزءًا من الحل وليس المشكلة، على نحو يساعده في تخفيف الضغوط التي تعتري مشهد الاستقرار الداخلي في الائتلاف.
3- ترتيبات التحالفات الإقليمية المحتملة واليوم التالي للحرب: تشكل هذه الترتيبات أحد المحفزات الرئيسة لتعزيز قوة الدفع التي يوفرها موقف الإدارة الأمريكية الجديدة للوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بقطاع غزة وتأمين بقاءه من أجل إنضاج الظرف الإقليمي الذي يسمح بانطلاق صفقات إقليمية أوسع.
وفي هذا السياق، يحاول الرئيس الأمريكي نسج تشابك مصلحي ما بين رغبته في تعظيم مكاسبه الإقليمية بالمنطقة من خلال الصفقات المحتملة التي وضع سقفها بحد "التريليون دولار"[10]، والرغبة الشخصية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتشكيل "إرثه" (Legacy) في الحكم، بحيث يكون ذلك عبر الذهاب لتوقيع اتفاق تطبيع مع المملكة العربية السعودية، وهو ما اشترطت المملكة حدوثه بوضع مسار موثوق لتسوية القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين[11]. ورغم أن هذا التخطيط من جانب الإدارة الأمريكية الجديدة قد سبقتها إليه الإدارة السابقة، وعملت عليه مع نتنياهو طيلة فترة الحرب، إلا أنه حال دون ذلك، لإدراكه بمحدودية تأثير هذه الأخيرة على القطاع اليميني المتطرف، وكسر حلقة الابتزاز والإذعان التي يخضع لها من جانب الأحزاب الأرثوذكسية المتطرفة، وهو ما يبدو أن الرئيس الأمريكي الحالي يعمل على تفاديه لتأمين نجاح رؤيته من خلال تصريحاته وتشكيلة إدارته التي تتمتع بثقة الإسرائيليين.
4- تآكل الصورة الدولية والنزوع نحو العزلة: تواجه الدولة العبرية في الوقت الراهن تحديًا يتراكم تأثيره منذ شنها الحرب ضد قطاع غزة، والمرتبط بحالة العزلة التي تتسع في إطار حواضن الدعم الواسعة للتعاطف ضد الانتهاكات الإسرائيلية الوحشية ضد المدنيين الفلسطينيين، فضلاً عن مواقف الرفض الواسعة لرؤيتها اليمينية المتطرفة التي تحاول فرضها عبر المسار العسكري ودعم الإدارة الأمريكية الجمهورية، سواء تلك المرتبطة بمخططات الترانسفير أو التهجير لسكان القطاع أو مخططات التوسع الاستيطاني وضم أراضي الضفة الغربية. وفي هذا الإطار، تتصاعد بعض الرؤى التحليلية لمراكز الفكر الإسرائيلية المهمة للتحذير من أن إسرائيل تتحول بسرعة لتصبح "دولة منبوذة"[12].
ولعل حالة الاستقطابات والتجاذبات الدولية الحادثة في الوقت الراهن كأحد انعكاسات السياسات الانعزالية التي تتبناها الإدارة الأمريكية الجديدة، تحفز من هذا التوجه خاصة في ظل تخندق الائتلاف الحكومي الإسرائيلي في معسكر هذه الإدارة التي تدعم رؤيته اليمينية المتطرفة، في مواجهة العديد من القوى الدولية الرافضة لهذه الرؤية.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه الاستقطابات تنسحب أيضًا للداخل الأمريكي ما بين معسكر جمهوري داعم ومؤيد لهذه الرؤى وما بين معسكر ديمقراطي يرفض قطاع كبير منه هذه الرؤى، وهو ما انعكس في الرسالة التي وقعها ثلثا الديمقراطيين في مجلس النواب الأمريكي (143 من أصل 215 عضوًا ديمقراطيًا) وأكدوا خلالها رفضهم تصريحات الرئيس الأمريكي حول تهجير الفلسطينيين[13]، وهو ما ذهب إليه أيضًا الكاتب الأمريكي البارز توماس فريدمان، الذي أكد خلال مقاله الأسبوعي بصحيفة نيويورك تايمز، رفضه خطة ترامب للسيطرة على قطاع غزة وتهجير الفلسطينيين، حيث اعتبرها "تفكيرًا خارج العقل وليس خارج الصندوق"، محذرًا من خطورتها على المصالح الأمريكية وزعزعة استقرار إسرائي[14].
ورغم التأثير المحدود لمثل هكذا مواقف على تغيير سياسات الرئيس الأمريكي وتوجهاته، إلا أن تل أبيب ستنظر إليها بترقب وحذر خشية مراكمة هذا التوتر الذي ربما يتصاعد لينعكس بشكل سلبي في شكل العلاقات الإسرائيلية مع الديمقراطيين المتوقع ربما مجيئهم في إدارة جديدة بعد الإدارة الحالية، ولعل ذلك يفسر اتجاه بعض الأصوات في الداخل الإسرائيلي للحديث عن ضرورة موازنة العلاقة مع الإدارة الجمهورية الجديدة بما لا يضر بمصالح تل أبيب مع المعسكر الديمقراطي في الداخل الأمريكي، على اعتبار أن هذه الموازنة تخدم مصالح الدولة العبرية على المستوى الاستراتيجي لطبيعة علاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك على مستوى علاقاتها الحيوية في محيطه الغربي وتحديدًا الجانب الأوروبي، هذا فضلاً عن دعم توجهاتها لكسر العزلة في محيطها الإقليمي من خلال مسار الاتفاقات الإبراهيمية.
سيناريوهات ومآلات اتفاق وقف إطلاق النار
تفرض معطيات المشهد الراهن خاصة فيما يتعلق بحسابات الموقف الإسرائيلي المشار إليها سلفًا، درجة من التعقيد وعدم اليقين بشأن مآلات اتفاق وقف إطلاق النار وسيناريوهاته المحتملة، التي يمكن الإشارة إليها على النحو التالي:
1- استكمال مراحل الاتفاق والوصول إلى اليوم التالي للحرب: تتعزز فرص حدوث هذا السيناريو في ضوء توافر بعض الممكنات التي تشكل قوة دافعة لضمان صمود اتفاق وقف إطلاق النار، من ناحية ضغط الإدارة الأمريكية الجديدة لإيقاف الحرب وبدء الصفقات الإقليمية التي ترغبها، حيث ساعد الاتفاق في حلحلة جمود المشهد الإقليمي الذي تحاول واشنطن استغلاله لدفع صفقاتها في المنطقة، وهو ما برز خلال جولة وزير الخارجية الأمريكية ماركو روبيو التي أجراها في المنطقة. أيضًا يشكل ضغط الشارع الإسرائيلي المحتمل تصاعده بشكل كبير في حال عدم إكمال الإفراج عن باقي الأسرى المقيد الإفراج عنهم وفق الجدول الزمني لمراحل الاتفاق، أحد المحددات التي فرضت على المستوى السياسي الإسرائيلي أخذها في الاعتبار إذا ما قرر عدم الالتزام بباقي مراحل الاتفاق التي سيتم بموجبها الإفراج عن باقي الأسرى. بالإضافة إلى ذلك، يأتي محفز استمرار الحكومة اليمينية الراهنة التي ينظر إليها شركاء نتنياهو باعتبارها فرصة تاريخية خاصة في ظل تزامنها مع إدارة أمريكية جمهورية ستساعد في تمرير رؤيتهم اليمينية المتطرفة فيما يتعلق بمخططات ضم الأراضي والتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، ولذلك قد تبدي جانبًا من المرونة مع ما اتفقت عليه الإدارة الأمريكية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي تجنبًا لخطوة لجوء الأخير لتوفير الدعم من خارج الائتلاف عبر شبكة أمان من المعارضة.
رغم التعثرات التي يشهدها الانتقال بين مراحل الاتفاق في الوقت الحالي ارتباطًا بتعقيدات الحسابات السياسية للائتلاف الحكومي وهشاشته، إلا أن الإدارة الأمريكية تعمل على تجاوز هذه العقبات من خلال بلورة مقاربة لليوم التالي للحرب، عكست تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي في أعقاب عودته من واشنطن، وما تلاها من تصريحات لمبعوث الإدارة الأمريكية للشرق الأوسط ستيف ويتكوف، وغيرهم من المسئولين الإسرائيليين، أنه تم الاتفاق على ملامحها، وهي تلك المرتبطة بانزواء حركة حماس عن مشهد اليوم التالي للحرب باعتبار ذلك ثمنًا مقبولًا لشركاء نتنياهو في الائتلاف، بحيث يتم ترويجه كانتصار تتحقق معه أهداف الحرب من ناحية استعادة كامل الأسرى وعدم عودة الحركة لحكم القطاع (الهدف الأصلي كان القضاء الكامل على الحركة). وفي هذا الإطار، تتحرك الإدارة الأمريكية لفرض مزيد من الضغط على حركة حماس لإبداء المرونة مع هذه المقاربة التي ستساعد في تجنب السيناريو الأسوأ المرتبط بتهجير سكان القطاع.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الإطار الأوسع لهذا السيناريو الذي يرتبط بمسار الحركة الإقليمية لواشنطن في المنطقة قد يعرقله عدم المرونة الإسرائيلية في التعامل مع خيار حل الدولتين، خاصة في ظل ارتباط موقف المملكة العربية السعودية بهذا الخيار كأساس لدفع مسار التطبيع مع إسرائيل، وهو ما يبدو أن الأخيرة تسعى لتجنب هذا العائق الذي سيقود إلى انهيار الائتلاف إذا أبدت مرونة معه، وذلك ربما من خلال إبداء المرونة مع سيناريو الإبقاء العضوي التكتيكي لحركة حماس بحيث يتم تحييد قدراتها العسكرية على غرار النموذج اللبناني لحزب الله، على نحو يسمح بالإبقاء على ملف الإنقسام الفلسطيني والعودة إلى إدارة الصراع وليس الحل، خاصة مع انكشاف وفشل السردية الإسرائيلية بشأن "النصر الكامل" عبر المسار العسكري بالقضاء على حركة حماس، وهو ما تجلى في الاستعراض العسكري الذي قامت به عناصرها خلال مشاهد تسليم الأسرى، بالإضافة إلى حالة الاستنزاف العسكري الذي شهدته القوات الإسرائيلية خلال المعارك التي سبقت الاتفاق، هذا فضلاً عن رفض تل أبيب توحيد حكم الضفة والقطاع تحت لواء سلطة فلسطينية موحدة من شأنها بعد ذلك المطالبة باستئناف مفاوضات السلام والتسوية باعتبارها المقرر الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.
2- إطالة أمد الاتفاق عبر فترة انتقالية بين مراحله: يعد هذا السيناريو أحد المسارات المطروحة التي قد يلجأ إليها رئيس الوزراء الإسرائيلي للتعامل مع عقبة مفاوضات المرحلة الثانية التي ستفرض مزيدًا من الضغط على زعيم حزب الصهيونية الدينية الذي هدد بالانسحاب من الحكومة إذا استكمل الاتفاق ولم تستأنف الأعمال العسكرية، حيث من شأن هذا المسار أن يعزز هامش المناورة لنتنياهو عبر تأجيل المفاوضات بشأن المرحلة الثانية من خلال إطالة أمد المرحلة الأولى بحيث يكون هناك فترة انتقالية بين المرحلتين، تحت ذريعة التكيف مع ظروف دخول شهر رمضان بعد أيام قليلة فقط من انتهاء المرحلة الأولى[15]، وهو ما قد يساعد على تمرير بعض الاستحققات الائتلافية المهمة مثل تمرير الميزانية التي تتطلب تبريد سخونة الموقف الداخلي في الائتلاف. هذا فضلاً عن تجنب الصدام المحتمل وربما انهيار كامل المفاوضات في ظل ما يتدفق من تقارير عبرية وتصريحات مسئولين إسرائيليين بشأن اشتراط تل أبيب خروج قيادات حركة حماس من القطاع ونزع سلاحها وإطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين كإطار عام لمفاوضات المرحلة الثانية، وهو ما يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ربما قد اتفق عليه مع الرئيس الأمريكي خلال زيارته لواشنطن، باعتباره ثمنًا مقبولًا لشركائه في الائتلاف لعدم الترويج بكون الاستمرار في باقي مراحل الاتفاق يعد استسلامًا وهزيمة أو ربما تكون هذه التصريحات بخصوص شروط التفاوض على المرحلة الثانية -خاصة أنه لم يتم إقرارها بشكل رسمي عبر التصويت عليها من جانب الكابينت الإسرائيلي- في إطار الضغط على حماس للمرونة مع صيغة النموذج اللبناني، وفي الوقت ذاته تخفيف ضغوط أنصار اليمين المتطرف لاستمرار الاتفاق. ولذلك تلجأ الحكومة الإسرائيلية في الوقت الراهن للمرونة المحدودة في تنفيذ التزاماتها بشأن دخول الجرافات والكرفانات للقطاع لاستمرار آلية الضغط وتخفيف آثار ذلك على اليمين المتطرف بحيث تبقي دائمًا المجال لعودة الحرب.
3- انهيار الاتفاق واستئناف المسار العسكري: يعد هذا السيناريو أحد السيناريوهات المطروحة خاصة في ظل التوترات الناشئة في الائتلاف الإسرائيلي التي تدفع نحو استئناف الأعمال العسكرية، وهو ما قد يدفع رئيس الوزراء الإسرائيلي -إذا ما استشعر خطورة استمراره في الاتفاق على استقرار الائتلاف- بالتذرع برفض حركة حماس المرونة مع شروطه التي يروج إلى أنها مدعومة من واشنطن والذهاب لاستئناف الأعمال العسكرية، خاصة إذا ارتأت حركة حماس أن المرونة المقبولة لها هي عدم المشاركة في حكم القطاع في اليوم التالي مع بقاءها العضوي ودون نزع سلاحها، وتعزيز سردية الانتصار التي تحرص عليها أثناء مشاهد تسليم الأسرى وتأكيد بقاءها الذي سيكون خارج شروط أية عملية تفاوض، وهو ما قد يجد شريك نتنياهو في الائتلاف بتسلئيل سومتريتش صعوبة في التعاطي معه في ظل المزايدة التي يقوم بها شريكه المنسحب من الحكومة إيتمار بن غفير عبر التصريحات التي يصدرها، على نحو قد يدفعه لتنفيذ تهديده بالانسحاب من الحكومة.
ختامًا، يمكن القول إن تعقيدات المشهد الحالي للمفاوضات في ضوء الحسابات السابقة تفرض حالة من عدم اليقين التي تجعل جميع السيناريوهات مطروحة، غير أنه ربما التعويل هنا يكون على دور عوامل الضغط الخارجي الذي تقوم به الإدارة الأمريكية والوسطاء لفرض الأمر الواقع لبعض المعطيات التي تتعزز معها مصالح أطراف التفاوض وفي نفس الوقت ترفع تكلفة الإضرار بالاتفاق وعدم مرونة الموقف، بحيث يتم تجنب الانزلاق إلى السيناريو الأكثر تشاؤمًا المرتبط بانهيار الاتفاق واستئناف المسار العسكري.