أعادت هجمات الحوثيين على السفن التجارية في البحر الأحمر، عقب الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2023، تسليط الضوء على تأثير الفاعلين العنيفين من دون الدول على أمن هذا الممر الملاحي الحيوي، لا سيما في ضوء الأهمية الجيو-استراتيجية التي يتمتع بها، والتي ضاعفت من تأثير هذه الهجمات لتمتد تداعياتها إلى الأمن الإقليمي والدولي.
من ثم، هدفت هذه الدراسة إلى بحث وتحليل تأثير الفاعلين العنيفين من دون الدول في أمن البحر الأحمر عبر أربعة محاور رئيسية؛ يناقش المحور الأول خريطة الفاعلين العنيفين من دون الدول في منطقة البحر الأحمر، حيث تضم المنطقة خريطة ديناميكية من الفاعلين العنيفين من دون الدول، وتشمل حركة «الحوثي»، بجانب عدد من أفرع التنظيمات الإرهابية التابعة لتنظيمي «القاعدة» و«داعش» في كلٍ من الصومال واليمن، فضلًا عن عصابات «القرصنة» الصومالية.
مع تباين دوافع هؤلاء بين الدوافع الأيديولوجية والسياسية والمالية، واختلاف قدراتهم البشرية واللوجيستية والمالية،فإنهم جميعًا يمثلون تهديدًا لأمن البحر الأحمر، لا سيما مع سعيهم إلى تكوين شبكة من التحالفات تساعد على تعزيز نشاطهم وزيادة فعالية تأثيرهم، بما يفاقم التهديدات الأمنية في المنطقة المضطربة بالفعل. كما تكشف تلك الشبكة أيضًا عن طبيعة تفاعلاتهم القائمة على تغليب الأبعاد البراجماتية على حساب اقنناعاتهم الأيديولوجية بما يخدم مصالحهم ويحقق أهدافهم.
يستعرض المحور الثاني سياق نشاط الفاعلين العنيفين من دون الدول في منطقة البحر الأحمر، حيث يأتي نشاطهم في سياق شديد الاضطراب والتعقيد، تبرز أهم ملامحه في عدد من المحددات؛ يتعلق أولها بالحرب الإسرائيلية على غزة، التي شهدت تفاعلًا واسعًا من قبل هؤلاء على خلفية سعيهم إلى استغلال مشهد الحرب لتحقيق أهدافهم المختلفة.
وينصرف ثانيها إلى التحديات التي تعانيها الدولة الوطنية، خاصة في الجزء الجنوبي والشرقي من البحر الأحمر، إذ انعكست الأوضاع في كل من الصومال واليمن بصورة مباشرة على أمن البحر الأحمر نتيجة عجز كل منهما عن الضلوع بالأدوار الأساسية، وعلى رأسها مواجهة التهديدات الأمنية، وبالتالي إيجاد مساحات لتصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية والعصابات الإجرامية وتحولها إلى طرف فاعل ومؤثر في التفاعلات الداخلية والخارجية.
ويتصل ثالثها بالصراعات السياسية والنزاعات الحدودية؛ حيث تشهد منطقة القرن الأفريقي مستويات متعددة من الصراعات السياسية والنزاعات الحدودية التي تؤجج من حالة الاضطراب، وتتيح مساحات واسعة لنشاط الفاعلين العنيفين من دون الدول على خلفية تأثر الترتيبات الأمنية المشتركة بين الدول.
ويتمثل رابعها وأخيرًا في غياب نهج إقليمي للأمن البحري في منطقة البحر الأحمر. فعلى الرغم من محاولات دول المنطقة لطرح مبادرات متعددة بهدف وضع أطر تعاونية مؤسسية لحفظ الأمن البحري في هذا المجرى الملاحي الشديد الأهمية، إلا أن تلك المبادرات والجهود لم تنجح في مأسسة آلية إقليمية فاعلة قادرة على مواجهة تهديدات الأمن البحري. كما انعكست التنافسات الدولية والإقليمية على معادلة الأمن في البحر الأحمر، وحالت دون وجود نظام إقليمي ذى رؤية موحدة تجاه التهديدات والتحديات التي تواجه المنطقة على خلفية اختلاف الأولويات والمصالح.
فيما يحلل المحور الثالث تأثير الفاعلين العنيفين من دون الدول في أمن البحر الأحمر، والذي حمل تداعيات واسعة على الساحتين الإقليمية والدولية في ضوء أهمية البحر الأحمر، وعلى رأس تلك التداعيات؛ تعطيل خطوط التجارة الدولية نتيجة تعليق العديد من شركات الشحن الكبرى عملياتها موقتًا في البحر الأحمر على خلفية هجمات «الحوثي». فضلًا عن زيادة عسكرة البحر الأحمر، إلى جانب الهياكل الأمنية المنتشرة في منطقة البحر الأحمر، التي تهدف إلى التصدي للقرصنة ومكافحة الإرهاب وتأمين الطريق التجاري البحري الخاص بالبحر الأحمر، أسهمت هجمات الحوثيين في تعقد البيئة الأمنية كنتيجة لكثافة الوجود العسكري البحري في المنطقة.
كما أسهم نشاط الحوثيين في تهديد النظام البيئي للبحر الأحمر، عبر استهداف السفن التجارية وناقلات النفط، وحدوث تسريبات نفطية، تؤثر سلبًا في الأحياء البحرية، وبالتالي تضر بتوازن النظام البيئي وتقلص التنوع البحري في المنطقة. فضلًا عن دورهم في تهديد البنية الرقمية التي تمر عبر البحر الأحمر وتعتبر جزءًا أساسيًا من البنية التحتية للاقتصاد العالمي، بما ينعكس على الأمن الإقليمي والدولي. هذا إلى جانب الدور الذي لعبته التهديدات الأمنية في البحر الأحمر في تفاقم المعاناة الإنسانية في عدد من الدول، حيث أدت الاضطرابات التجارية إلى ارتفاع الأسعار وتأخير شحن السلع، ما ترتب عليه تعطيل تدفق السلع الأساسية والمساعدات الإنسانية إلى منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر.
يقدم المحور الرابع والختامي آليات مقترحة لتعزيز أمن البحر الأحمر، إذ تتطلب معالجة التهديدات المرتبطة بنشاط الفاعلين العنيفين من دون الدول في البحر الأحمر تطوير مقاربة ذات طبيعة شاملة تهدف إلى تعزيز الاستقرار الإقليمي، وتجمع بين الأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية بجانب الأبعاد البيئية، يأتي في مقدمتها ضرورة بلورة مقاربات فعالة تهدف إلى تحقيق تسويات سياسية للصراعات القائمة في المنطقة، مع العمل على تطوير سياسات من شأنها تقويض نفوذ الفاعلين العنيفين من دون الدول من أجل الحد من التهديدات الأمنية، بالتوازي مع تعزيز الجهود التنموية، لا سيما أن الحوافز الاقتصادية تمثل مدخلًا رئيسيًا لانضمام الأفراد للتنظيمات الإرهابية والعصابات الإجرامية.