في ظل نسق دولي يتسم بالفوضوية وعدم وجود سلطة عليا تنظم العلاقات بين الدول، نادى العديد من كتاب ومفكري العلاقات الدولية بضرورة وجود دولة مهيمنة على النسق الدولي، تلك الهيمنة غير المادية التي يرتكز عليها استقرار النسق. واختلف المفكرون الواقعيون والليبراليون حول ماهية تلك الهيمنة، وإن اتفقوا على ضرورة وجود ذلك المهيمن، فرأى الواقعيون أن الدولة المهيمنة تعتمد على القوة العسكرية لفرض هيمنتها على باقي دول النسق بما يعمل على استقراره، وفرض النظام الدولي الذي تتبعه باقي الدول، سواء راضية أو مكرهة، وهو نظام يحقق المصالح الحيوية للدولة المهيمنة بطبيعة الحال، فيما رأى الليبراليون أن الدولة المهيمنة تعتمد على قوة اقتصادها، لفرض النظام الدولي من خلال التعاون مع باقي دول النسق.

سواء في الرؤية الواقعية أو الليبرالية، لا تتفق دول النسق على سلوكيات الدولة المهيمنة، ما يجعل الدول منقسمة إلى دول راضية وغير راضية، وتلك الدول غير الراضية تنقسم بدورها إلى دول غير راضية، لكنها لا تمتلك الإمكانيات اللازمة لتغيير الوضع القائم، ودول غير راضية لكنها تمتلك القدرة على تعديل البنية الهيكلية للنسق الدولي لمصلحتها، تلك الدول تسمى "الدول التعديلية".

تبرز الصين كإحدى أبرز الدول التعديلية غير الراضية عن سلوكيات الدولة المهيمنة –الولايات المتحدة– وطريقة إدارتها للنسق الدولي. هنا، يبرز ذلك الكر والفر بين الدولتين، ما بين دولة مهيمنة تعمل بكامل طاقتها على ترسيخ هيمنتها والحفاظ على الوضع الحالي، بما في ذلك استخدامها لاستراتيجيات متعددة لإنهاك وإلهاء الخصوم من الدول التعديلية واستنزاف قدراتهم بعيدًا عن أي مواجهة مباشرة، ودولة تعديلية -الصين- تتبنى استراتيجيات مضادة متنوعة للحفاظ على قدراتها وتنميتها وعدم الانجراف إلى الفخاخ المنصوبة لها بواسطة الولايات المتحدة، تقوم الدراسة بتحليل جيواستراتيجي متعدد المستويات لتلك الاستراتيجيات الصينية المضادة في إطار استشرافي.

تلقي الدراسة الضوء على ست من أبرز الاستراتيجيات التي تتبناها وتنتهجها الصين في هذا الإطار، أولها (استراتيجية تعديل النسق الدولي الحالي من الداخل – Inside Out Strategy)، حيث تقع الصين بين رغبتها في تعديل توجهات النسق الدولي ليكون أكثر عدلًا، وليخدم أهدافها الاستراتيجية بدلًا من وضعه الحالي الذي يحقق الأهداف الأمريكية فقط لا غير. هذا من ناحية، ورغبتها في الحفاظ على النسق الدولي الحالي الذي أسهمت بنيته الهيكلية في صعود الصين وتحقيقها لمكانتها الدولية الحالية من ناحية أخرى. وتتناول الاستراتيجية سبع ساحات للرؤية التعديلية للصين في سبع من الوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة، وهي: إدارة الأمم المتحدة للشئون الاقتصادية والاجتماعية، ومجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وعمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام، واعتماد الأمم المتحدة للمنظمات غير الحكومية، والاتحاد الدولي للاتصالات، واليونسكو، ومكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة.

أما الاستراتيجية الثانية، فتتناول محاولات الصين تأسيس نسق دولي جديد ومواز للنسق الحالي. ونناقش في هذا السياق أبرز المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية التي قادت الصين زمام المبادرة في تأسيسها والنهوض بها، هذا إلى جانب المبادرات الصينية المختلفة في السياق ذاته، فيتم إلقاء الضوء على كل من: تجمع «بريكس»، وبنك التنمية الجديد، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، ومنظمة شنغهاي للتعاون، وكذلك مبادرة الأمن العالمي، ومبادرة التنمية العالمية، ومبادرة الحضارة العالمية.

فيما تركز الدراسة في الاستراتيجية الثالثة على المحاولات الصينية للالتفاف على استراتيجية الاحتواء الأمريكية فيما يعرف بإسم "استراتيجية الاتجاه غربًا – Anticontainment Westward Strategy"، حيت يتم استعراض وتحليل كل من: شبكة القطارات السريعة "الصين – أوروبا"، والممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، و"قناة كرا" في تايلاند، وتأمين مصادر بديلة لإمدادات الطاقة، والشراكة الاستراتيجية مع روسيا، والشراكة الاستراتيجية مع إيران. وتأتي الاستراتيجية الرابعة لتتناول العزم الصيني لتقليل الفجوة التكنولوجية بين الصين والولايات المتحدة، بل وتجاوزها، فيما يعرف باسم "استراتيجية التفوق في المنافسة الاستراتيجية Out Competing the US Strategy"، وهي استراتيجية صينية يتم فيها التركيز على محورين رئيسيين، هما: خطة "صنع في الصين 2025"، وخطة "التجديد العظيم للأمة الصينية 2049".

أما الاستراتيجية الخامسة، فتتناول الموقف الصيني تجاه تايوان، فيما يعرف باسم "استراتيجية تايوان Taiwan Strategy"، حيث يتم استعراض الأسس التي تعتمد عليها الصين للتعامل مع مسألة تايون، وهي: خطط الصين لاستعادة تايوان، وتعامل الصين مع استراتيجية الغموض الاستراتيجي الأمريكية تجاه تايوان، وأخيرًا الاستراتيجية السادسة، التي تعرف باسم "استراتيجية تعزيز صورة الصين كدولة قائدة للنسق الدولي The Role Model Strategy"، وترتكز هذه الاستراتيجيه على عدد من المرتكزات الأساسية، وهي: لعب دور نشط في القضايا العالمية (خاصة فيما يتصل بالقضاء على الفقر والتوزيع العادل للموارد، وتغير المناخ، والأمن والسلم الدوليين)، والدبلوماسية الثقافية، والدبلوماسية الإعلامية. في ختام تناول كل من الاستراتيجيات الست، تقدم الدراسة تحليلًا متعمقًا لمدى النجاح الاستراتيجي في تحقيق الأهداف المرجوة منها، وما إذا كانت الصين ناجحة في تحقيق أهدافها الاستراتيجية، أم أن الغلبة لا تزال في مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية وهيمنتها على النسق الدولي.