عادة ما يصف خبراء العلاقات الدولية مؤتمر ميونيخ للأمن، بأنه "الأشهر" من نوعه على صعيد مؤتمرات السياسة والأمن في العالم، و"الأهم" في مناقشة القضايا الدولية الأكثر إلحاحاً، و"ترمومتر" الشراكة عبر المحيط الاطلنطي بين أوروبا والولايات المتحدة. وقد زاد من أهمية مؤتمر هذا العام، والذي شارك فيه 60 من رؤساء الدول والحكومات وأكثر من 100 وزير ومئات من خبراء السياسات الأمنية والخارجية خلال الفترة من 14 إلى 16 فبراير 2025، أنه جاء في وقت أصبح فيه العالم أكثر انقساماً وتفتتاً بشكل لم يسبق له مثيل منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، حتى أن رئيس المؤتمر كريستوف هويسجن وصف خلاصة أعمال مؤتمر هذا العام "باكياً" بأنها "كابوس أوروبي"، مشيراً إلى أن "الولايات المتحدة تحت إدارة ترامب تعيش على كوكب آخر .. ولم تعد تتقاسم القيم المشتركة مع أوروبا".
وفي الحقيقة، جاء "بكاء" هويسجن بعد سلسلة من المفاجآت المدهشة للأوربيين، والتي أدت إلى تكثيف المخاوف والشكوك بشأن مصداقية المظلة الأمنية الأمريكية لأوروبا، بدءاً من الإعلان المفاجئ للرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن مكالمة هاتفية طويلة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى جانب الخطوط العريضة لوزير الدفاع الأمريكي بيت هيجسيث لاتفاقية سلام محتملة مع روسيا حول أوكرانيا عشية المؤتمر، ثم هجوم نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس، خلال المؤتمر، على الحلفاء الأوروبيين واتهامهم بتهديد الديمقراطية، مستثنياً الأحزاب اليمينية والشعبوية.
"صدمة" فانس
في ظل حالة "التأهب القصوى" التي كان عليها أغلبية المشاركين الأوروبيين في المؤتمر للحصول على تفاصيل إضافية بشأن آراء إدارة ترامب الجديدة حول الدور المستقبلي للولايات المتحدة في أوروبا، ومطالبات واشنطن بزيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي، والانسحاب الجزئي للقوات الأمريكية من القارة، ومعرفة ما دار في المفاوضات الأمريكية مع روسيا، ألقى فانس خطاباً أحدث "صدمة" عنيفة في أوروبا. إذ وبخ فانس الديمقراطيات الأوروبية على ابتعادها عن "القيم المشتركة"، منتقداً التفسيرات الأوروبية لحرية التعبير، وعدم رغبة الأوروبيين في كبح جماح "الهجرة الخارجة عن السيطرة". كما انتقد نائب الرئيس الأمريكي بشدة أيضاً رفض الأحزاب الديمقراطية الليبرالية الألمانية التعاون مع التيار اليميني المتشدد، والمتمثل في حزب "البديل من أجل ألمانيا". وعبر فانس عن مخاوفه الأمنية تجاه اوروبا بالقول: "إن التهديد الذي يقلقني أكثر من أي شيء آخر فيما يتصل بأوروبا ليس روسيا، ولا الصين، ولا أي طرف خارجي آخر. ما يقلقني هو التهديد من الداخل".
وفي هذا السياق، أشار فانس إلى الهجوم الإرهابي في ميونيخ الذي تزامن مع المؤتمر، والقمع الاستبدادي لمعارضي الإجهاض في بريطانيا، وإلغاء الانتخابات مؤخراً في رومانيا، و"الهستيريا" حول مزاعم التدخل الروسي في السياسة الأوروبية.
وفي مواجهة خطاب فانس "الصادم"، انتفض كثير من القادة الأوروبيين في التعليق عليه. وكان مجمل هذه التعليقات يدور حول "حق الديمقراطيات الأوروبية" في مواجهة التضليل وخطاب الكراهية، ورفض التدخل الأمريكي في الانتخابات الألمانية المقبلة. وفي هذا السياق، يرى كثير من المراقبين أن الانقسام الواضح في التوجهات الأمريكية والأوروبية خلال مؤتمر ميونيخ الأخير كشف بشكل متزايد عن أن واشنطن، في ظل إدارة ترامب، أصبحت تميل إلى "إدارة ظهرها" لأوروبا ولفكرة التحالف عبر الأطلنطي، والتي كانت تقوم على القيم الديمقراطية المشتركة. وكان الاتجاه السائد في المؤتمر هو أن الولايات المتحدة لم تعد "لاعباً جماعياً"، وهو الأمر الذي برز بشدة في كل الجلسات النقاشية حول مستقبل أوكرانيا.
فمن ناحيته، أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أنه "لا قرارات بشأن أوكرانيا بدون أوكرانيا. ولا قرارات بشأن أوروبا بدون أوروبا". وعلى نحو مماثل، أكد المستشار الألماني اولاف شولتز أن "الحدود لا ينبغي أن تتغير بالقوة، وأن أوروبا لن تدعم السلام المفروض". وفي هذا السياق، أشار العديد من الحاضرين إلى أن أن ميل ترامب إلى الصفقات مع القوى العظمى الأخرى يشير إلى أن الولايات المتحدة تخلت عن دورها كقوة مهيمنة "حميدة" في العالم، بل وأصبحت قوة مهيمنة "شريرة".
مفارقة القبول الأوروبي للمطالب الأمريكية
المفارقة العجيبة في مؤتمر ميونيخ لهذا العام كانت، في تقديري، تتمثل في أن التباعد في المواقف بين إدارة ترامب وأغلبية قادة اوروبا جاء في وقت كان الأوروبيون فيه مستعدين، بشكل أكثر من أي وقت مضى، للاستجابة للمطالب الأمريكية المتكررة بشأن ضرورة زيادة الأنفاق الدفاعي، بعد عقود طويلة من تجاهل الموافقة على طلبات واشنطن الرامية إلى "تقاسم" الأعباء المالية للأغراض الدفاعية والعسكرية.
فمن جهة، اعترف الأمين العام لحلف شمال الأطلنطي (الناتو) مارك روته مؤخراً بأن واشنطن كانت "محقة" في طلبها الخاص بزيادة الإنفاق الدفاعي لدول الحلف، مشيراً إلى أن هدف الإنفاق الجديد لحلف الناتو ينبغي أن يكون "أكثر من 3% إلى حد كبير". ومن جهة أخرى، اقترحت أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية، تفعيل بند "الهروب" من ميثاق الاستقرار والنمو للاستثمارات الدفاعية. وتردد صدى هذه الدعوة على لسان المستشار الألماني اولاف شولتز، الذي اقترح إعفاء الإنفاق الدفاعي، الذي يتجاوز 2% من الناتج المحلي الإجمالي، من القواعد المالية للاتحاد الأوروبي، وكرر دعواته لإصلاح نظام كبح الديون الألمانية لتمويل الانفاق الدفاعي المتزايد.
ورغم هذه التصريحات "المتفهمة" لموقف الإدارة الأمريكية الجديدة من جانب القادة الأوروبيين بشأن زيادة الانفاق العسكري الأوروبي، إلا أن مناقشات المؤتمر كشفت أيضاً عن إشكاليات كبرى بشأن ترجمة هذه "الأقوال" إلى "أفعال" في المدى القريب. فعلى سبيل المثال، تشكك كثير من المشاركين فيما إذا كانت أوروبا لديها الوقت الكافي والقيادة السياسية الضرورية لتحمل نصيب "الأسد" في النفقات الدفاعية لحلف الناتو أو لإنشاء جيش أوروبي مستقل عن واشنطن. كما برزت أيضاً إشكالية أخرى للأمن الأوروبي، خلال اعمال المؤتمر، تتمثل في أن دعم إدارة ترامب العلني للأحزاب اليمينية المناهضة للوحدة الأوروبية سوف يعقد من ظهور أوروبا الأقوى القادرة على حماية أمنها، خاصة وأن معظم هذه الأحزاب تميل إلى تأييد روسيا والصين.
تسريع التعددية القطبية
هذه الخلافات والتوترات في العلاقات عبر الأطلسي بين الأمريكيين والأوروبيين، والتي كشف عنها مؤتمر ميونيخ للأمن 2025، سوف تؤدي على الأرجح إلى تسريع عملية "التعددية القطبية"، خاصة مع بروز دول الجنوب العالمي، التي أصبحت مصالحها تتعارض مع استمرار الهيمنة الأمريكية "الشريرة" على النظام العالمي. وفي هذا السياق، قال وزير الخارجية الصيني وانج يي إن تصريحات نائب الرئيس الأمريكي في ميونيخ، والتعديلات الأخيرة في السياسة الأمريكية، تؤكد خطأ الاتهامات بأن الصين "تحاول تغيير النظام العالمي"، مشيراً إلى أن "هناك دولة أخرى تنسحب بالفعل من المعاهدات والمنظمات الدولية"، في إشارة واضحة إلى الولايات المتحدة. وفي بيانه أمام المؤتمر، قدم وانج الصين باعتبارها "عامل اليقين" و"قوة البناءة الثابتة" في نظام عالمي متغير. كما أكد وزير الخارجية الصيني أيضاً على دعم بكين لسيادة القانون الدولي فضلاً عن التزامها بالتعددية والعولمة الاقتصادية الشاملة، ومعالجة "العجز الأمني" في النظام الدولي.
ومن جهة أخرى، وبينما أعرب المشاركون من أفريقيا ومناطق أخرى من العالم عن قلقهم إزاء الطريقة المفاجئة والمزعجة التي تتخلى بها واشنطن عن دورها القيادي العالمي، فإن تصريحات هؤلاء عكست أيضاً تفاؤلاً بشأن الفرص التي تنطوي على هذا "الزلزال" الذي يهز النظام العالمي، منذ بداية رئاسة ترامب الثانية، مشيرين إلى أن هذا "الزلزال" سوف يدفع العالم نحو تسريع التعددية القطبية بشكل أكبر وأسرع. وفي هذا الإطار، اقترح سيلسو أموريم، كبير مستشاري رئيس البرازيل، عدم "الحزن على النظام العالمي القديم، بل الإسراع في بناء النظام الجديد". وإلى جانب ذلك، سلط العديد من المشاركين في المؤتمر الضوء على الفرص المتاحة لإقامة تحالفات وشراكات جديدة. فعلى سبيل المثال، دعا رئيس غانا جون ماهاما إلى تعزيز التعاون بين دول الجنوب. بينما نظر قادة آخرون إلى الاتحادالأوروبي، معربين عن أملهم في أن تنظر بروكسل في إمكانية إقامة شراكات جديدة مع دول العالم المختلفة، والانتقال من "التعاون المشروط" إلى مشاركة "أكثر واقعية" .
مخاطر تفكك النظام الراهن
رغم التفاؤل الذي ساد في المؤتمر بشأن إمكانية انتقال العالم إلى مرحلة "التعددية القطبية" بشكل أكبر في ظل رئاسة ترامب الثانية، أقر كثير من المشاركين أيضاً بأن هذه التعددية قد تصيب النظام الدولي بخلل شديد في حل المشاكل العالمية، وبالتالي زيادة عدم الاستقرار وفقدان الأمن في العالم. كما سلط البعض أيضاً الضوء على مخاطر ضعف القواعد الدولية والغياب المتزايد للقيادة العالمية "الحميدة"، خاصة بالنسبة للدول الأصغر حجماً (مثل بنما وجرينلاند والمكسيك وغيرها) والشعوب الأكثر ضعفاً في العالم (مثل الفلسطينيين) .
وفي هذا الإطار، كشفت مناقشات المؤتمر عن اتجاه عام وشعور مشترك بأن النظام العالمي، الذي يحتوي على قواعد مشتركة أفضل كثيراً، من النظام الذي لا يحتوي على أية قواعد على الإطلاق. فعلى سبيل المثال، شدد المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك على أن "العالم متعدد الأقطاب إذا لم يكن لديه قواعد أو حواجز، فإن العالم سوف يشهد مزيداً من الفوضى والعنف". كما ضرب عدد من الحاضرين أيضاً مثالاً بالحرب الروسية-الأوكرانية، مشيرين إلى أن غياب القواعد الدولية المشتركة سوف يساهم في تشجيع القوى الكبرى في العالم على توسيع مجال نفوذها وإبرام "الصفقات" على حساب الدول الأصغر. وعلاوة على ذلك، عبر كثير من المشاركون عن قلهقم من أن غياب القواعد التجارية المشتركة سوف يزيد "حالة عدم اليقين الجيواقتصادي"، خاصة وأن النمو الاقتصادي يعتمد على "الثقة" في التعاملات التجارية والاستثمارية، والتي تعتمد بدورها على القواعد الموثوقة.
على أية حال، يمكن القول إن مؤتمر ميونيخ للأمن هذا العام كشف عن العديد من التحديات المرتبطة بظهور نظام دولي جديد يتشكل من خلال "التعددية القطبية"، والتي يبدو أن سياسات إدارة ترامب الجديدة سوف تؤدي إلى تسريعها في المدى المنظور. إذ كشفت أعمال المؤتمر أن غالبية الأوروبيين يرون حاجة متزايدة إلى أن يصبحوا "قطباً مستقلاً" لحماية أمنهم العسكري والاقتصادي في المدى المنظور، فضلاً عن أن العديد من دول الجنوب العالمي أصبحت أيضاً تسعى لكي تصبح "قطباً جديداً"، في ظل التوجهات الأمريكية الجديدة لإدارة ترامب التي ترفع شعار "أمريكا أولاً".
ومع ذلك، ورغم أن عالم تشكله "التعددية القطبية"، سوف يقود، على الأرجح، إلى مزيد من الأستقرار والأمن الدوليين، إلا أن المناقشات التي دارت في ميونيخ هذا العالم لم توضح ما إذا كانت الدول الكبرى، مثل الصين، والتكتلات الفاعلة في العالم، كالاتحاد الأوروبي، راغبة في هذا التوجه، او قادرة عليه. ومما قد يزيد الأمور تعقيداً في المدى المنظور أن مفهوم المصالح الضيقة لترامب، سوف يدفع العالم، على الأرجح، إما إلى عصر "موازين القوى" الذي ساد في القرن التاسع عشر، أو إلى عصر "الإمبراطوريات" في عالم يزداد تعقيداً. وسواء كان ذلك أو ذاك، يبدو أن الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير كان محقاً تماماً، عندما أعرب، في كلمته الافتتاحية لمؤتمر ميونيخ للأمن 2025، عن أسفه تجاه تبني إدارة ترامب "رؤية عالمية مختلفة تماماً عن رؤيتنا"، مؤكداً على أنه "ليس من مصلحة المجتمع الدولي أن تصبح هذه الرؤية هي النموذج المهيمن لنظام عالمي جديد".