يظل هناك سؤال محوري يتردد طوال الوقت وهو مدى قدرة الإدارة السورية على تجاوز التحديات المرتبطة بالمرحلة الانتقالية في البلاد، لاسيما أنه بعد تولي أحمد الشرع رئاسة البلاد، تم اتخاذ سلسلة من القرارات بهدف إعادة هيكلة الدولة وإرساء الاستقرار، مثل إلغاء دستور 2012، وحل مجلس الشعب، والأجهزة الأمنية التابعة للنظام السابق، بالإضافة إلى حل الجيش وإعادة بنائه، وحل حزب البعث الذي حكم البلاد لعقود متواصلة. وقد حدد أحمد الشرع في كلمة له بمؤتمر "إعلان انتصار الثورة السورية" بتاريخ 30 يناير 2025، أولويات حكومته في الفترة الانتقالية، والتي تتمثل في ملء فراغ السلطة والحفاظ على السلم الأهلي، وبناء مؤسسات الدولة السورية، والعمل على تهيئة بنية اقتصادية تنموية، واستعادة سوريا لمكانتها الإقليمية والدولية.
ولم تتطرق القرارات المعلنة الى مدة المرحلة الانتقالية. فالمسألة ليست بسيطة كما تشير إليه التجارب المقارنة سواء في دول الثورات أو الصراعات في المنطقة العربية، مثل تونس وليبيا واليمن والعراق. ولهذا، عقدت قمم عربية ودولية عديدة، كالتي استضافتها الأردن والسعودية وفرنسا، في فترات زمنية مختلفة، للنقاش الموسع حول مستقبل سوريا بعد سقوط الأسد وسط تحديات سياسية وأمنية واقتصادية معقدة لدرجة تصل إلى حد ما يطلق عليه في بعض الكتابات "دراما الانتقال" أو "المصيدة الانتقالية"، حيث تشير بعض الخبرات إلى أن المرحلة الانتقالية تحتاج إلى فترة زمنية قد تمتد من ثلاث إلى أربع سنوات، إذ كشف الشرع أن "مدة الوصول إلى انتخابات رئاسية تحتاج ما بين 4 و5 سنوات وقد تمتد إلى سنوات طويلة، لدرجة المتاهة أو "المراحل الانتقالية الممتدة".
الأبعاد العشرة
في هذا السياق، يشير التيار الرئيسي في الكتابات إلى أن تحديات مرحلة الانتقال في سوريا تتمثل فيما يلي:
1- تعزيز التوافقية في مسار العملية السياسية: إن المحدد الأبرز في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد وترسيخ دعائم النظام الجديد هو دعم عملية انتقال سياسي سلس تضمن تمثيل جميع مكونات الشعب السوري، من دون إقصاء لأي طرف، وإجراء موجة متسارعة من الإصلاحات السياسية وتحسين سجل حالة حقوق الإنسان، وهو ما يفرض تشكيل حكومة موسعة تضم تكنوقراط وأطيافاً سياسية متنوعة، بالإضافة إلى ضرورة عقد مؤتمر حوار وطني لوضع أسس الدستور الجديد في البلاد، وعدم تركيز السلطات بيد جهة واحدة دون رقابة، والاستماع لأطروحات هيئة التفاوض والائتلاف الوطني السوري بما يبدد الصورة الذهنية عن الإدارة السورية الحالية التي توصف بأنها تمثل امتداداً لتنظيمات إرهابية وجماعات متطرفة كداعش أو القاعدة، إذ أن هناك شكوكاً أو تخوفات بشأن توجهات تلك الإدارة، سواء من دول عربية أو غربية وخاصة الأوروبية منها. وتظل هناك مرحلة طويلة من الخطوات التي يتعين اتخاذها حتى تثبت الإدارة السورية بأنها شريك موثوق في عملية الانتقال السياسي.
2- تشكيل المؤسسة العسكرية: يثير تنوع الفصائل المسلحة السورية التي تشمل إسلاميين وآخرين ومقاتلين أجانب ومنح رتب عسكرية كبيرة لعدد منهم، التساؤلات حول كيفية دمجهم في نظام عسكري موحد. كما أن حل الفصائل العسكرية ونزع سلاحها يمثلان ضرورة حتمية لضمان استقرار سوريا في المرحلة الانتقالية، الأمر الذي يفرض تحدياً ضاغطاً يتعلق بتطبيقه على أرض الواقع لا سيما في ظل الخلافات المستمرة بين مختلف الفصائل، ووجود قوى إقليمية ودولية لها مصالح متشابكة في سوريا. وعلى الرغم من أن عدداً من الفصائل السورية وافقت على تسليم سلاحها والاندماج في وزارة الدفاع السورية، إلا أن بعض الفصائل، خصوصاً في شمال شرق سوريا، لا تزال متحفظة وتطالب بضمانات أممية قبل المشاركة في العملية السياسية. فضلاً عن ضرورة التعلم والحذر من أخطاء الماضي، مثل حل الجيش العراقي في 2003، ويفترض أن تتضمن إعادة هيكلة الجيش السوري استيعاب الجنود الذين انضموا إليه قسراً خلال حقبة الأسد.
3- ضبط الحالة الأمنية: إن واحداً من أبرز التحديات التي تواجه الإدارة السورية الجديدة يتعلق بقدرتها على ضبط الأمن عبر حصر الأسلحة بيد الدولة، لتثبيت نفوذها في الداخل من ناحية وضمان الاعتراف الإقليمي والدولي بشرعيتها من ناحية أخرى، لاسيما في ظل محاولات للتنظيمات الإرهابية للعودة إلى المشهد عبر عمليات نوعية تبعث برسالة مفادها أنها في حالة "كمون" وليس في حالة "نوم". فضلاً عن محاولات أرباب النظام السابق لزعزعة الاستقرار وإشعال فتن طائفية في بعض المناطق الجغرافية ذات الحساسية الدينية للتأكيد على هشاشة الوضع الأمني من جهة وترجمة تضرر مصالحهم بعد حل الأجهزة والهيئات التي يعملون بها في ظل نظام بشار الأسد من جهة أخرى. هذا فضلاً عن تغيير الصورة النمطية لسوريا كدولة مصدرة للكبتاغون، وبشكل خاص لدول الجوار العربي من جهة ثالثة.
4- الوصول إلى العدالة الانتقالية: تأتي مكافحة الإفلات من العقاب من العدالة باعتبارها واحدة من التحديات التي تواجه الإدارة الانتقالية في سوريا في ظل مناطق رمادية واضحة بين توجهات العدالة "الانتقالية" وممارسات العدالة "الانتقامية"، حيث يعمل بعض المنتمين للنظام الجديد على تصفية الحسابات "السياسية" مع ممثلي النظام السابق من خلال الاعتقال أو القتل على أساس الهوية. ويشير المصدر السوري لحقوق الإنسان إلى استخدام أشخاص أسلحة فردية مزودة بكواتم صوت لاستهداف العلويين، بعد سقوط الأسد، وبشكل خاص في الوسط والغرب، على نحو ما جرى في بعض القرى مثل قرية أرزة في ريف حماة الشمالي. كما تشير تقارير أخرى إلى تزايد أعمال القتل خارج إطار القانون، إذ شهدت ساحات عامة في مدن سورية عدة توثيق إعدام شخصيات كانت على ارتباط بنظام الأسد وأفرعه الأمنية.
5- التعامل مع ملف الأقليات: أحد أكبر التحديات التي تواجه سوريا في المرحلة المقبلة هو إدارة التعددية الدينية والثقافية في المجتمع السوري، والتي تفرض ضرورة تعزيز الوحدة الوطنية، وإعطاء أهمية لـ "مسألة تعريف الهوية الوطنية في سوريا"، بحيث يكون هذا التعريف قائماً على "مبدأ المواطنة وحقوق متساوية لجميع المواطنين"، لضمان تجنب الأزمات والصراعات الطائفية والعرقية، ومعالجة الشكوك بشأن ميول إسلامية للنواة الصلبة للنخبة السورية. لذا، تخشى الأقليات تسليم سلاحها مثل العلويين والدروز، فقد أكد الزعيم الروحي للطائفة الدرزية حكمت الهجري، يوم 1 يناير 2025، أن الحديث عن تسليم السلاح لا يزال مبكراً للغاية، معلناً رفض هذا الطرح قبل تشكيل دولة مدنية وصياغة دستور يضمن حقوق جميع المكونات لتجنب أي انتكاسات.
6- سبل مواجهة المنتمين للنظام السابق: على الرغم من قيام الإدارة الانتقالية السورية الحالية، بفتح مراكز لتسوية أوضاع الجنود السوريين الذين أجبروا على الانضمام خلال حكم الأسد، ودفعهم نحو تسليم أسلحتهم، تصاعدت سياسة التضييق التي تتبناها الإدارة الانتقالية الجديدة في سوريا ضد العناصر المحسوبة على نظام الأسد، بأشكال مختلفة ولدواعٍ متباينة، منها استهداف المناطق التي تمثل ملاذات آمنة لبقايا النظام والموالين له، خصوصاً في مدن الساحل، وتوقيف القيادات الأمنية المتورطة في جرائم تعذيب بحق السوريين بالإضافة إلى رفع منسوب الكراهية بين المدنيين والفصائل الموالية للسلطة الجديدة ضد روافد نظام الأسد، وما يتعلق بحقبة البعث. وعلى الرغم من تبنى زعيم هيئة تحرير الشام خطاباً براجماتياً تصالحياً، وإطلاق رسالة طمأنة للسوريين إلا أن المواجهات المسلحة مع بقايا النظام، تثير العديد من التساؤلات، بشأن أنماط التعامل مع العناصر المحسوبة على الأسد. فالأطراف الخاسرة في مرحلة ما بعد سقوط الأسد لن تستسلم بسهولة.
7- تجاوز الأوضاع الاقتصادية الضاغطة: هناك إرث اقتصادي هائل من النظام السابق يواجه الإدارة السورية الجديدة، مما يتطلب إعادة هيكلة بعض القطاعات الاقتصادية، لجذب الاستثمارات الأجنبية، وتجفيف منابع شبكات الفساد، وحدود الدور الذي تقوم به اللجنة المكلفة بتحليل المصالح التجارية المتشعبة لكبار رجال الأعمال المرتبطين بالأسد (المعروفين بحيتان المال) مثل سامر فوز ومحمد حمشو وغيرهم، واستمرار الأوامر الصادرة بشأن تجميد الأصول والحسابات المصرفية التي تخصهم، تمهيداً لرفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على النظام السابق من قبل الدول الغربية. وفي هذا السياق، يمكن اعتبار المؤتمر الذي استضافته باريس في 12 فبراير 2025 مقدمة لمؤتمر بروكسل للمانحين، والذي سيتناول الدعم الاقتصادي للحكومة الانتقالية.
8- إعادة إعمار المناطق المنهارة: إن المرحلة المقبلة يجب أن تشهد مشاورات ومقترحات لإعادة الإعمار في سوريا وخاصة في المناطق الجغرافية التي دُمرت فيها البنية التحتية من مستشفيات ومدارس وجامعات ومصالح حكومية وأسواق وغيرها، وتنمية المناطق الحدودية، وهو ما يتطلب موارد مالية ضخمة والاستعانة بشركات مقاولات وإنشاءات ذات خبرات سابقة وعمالة فنية مدربة، علاوة على التصدي للألغام الأرضية التي زرعها النظام السوري السابق، والتي تشير إليها كتابات عدية باعتبارها "ذخائر عمياء"، إذ تنتشر بالمدن وفي القرى وعلى الطرق، الأمر الذي يعكس عدم وجود خرائط تفصيلية بشأنها مما يعيق أو يستعصي إزالتها بسهولة.
9- بلورة سياسة خارجية متوازنة تجاه الجوار: هناك تحدي يرتبط بتوازن السياسة الخارجية الجديدة لإدارة الانتقال الجديدة في سوريا ما بين إحداث توازن في شبكة العلاقات الإقليمية والدولية، عبر تعزيز العلاقات مع القوى الإقليمية الرئيسية (وتحديداً تركيا) التي دعمتها في مرحلة ما قبل سقوط الأسد، مالياً وتسليحياً واستخباراتياً، ومواصلة الانفتاح على الدول العربية، وإعادة الهيكلة مع الخصوم الرئيسيين لها، وخاصة روسيا وإيران، فضلاً عن استيعاب مطالب القوى الغربية، وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، لتعزيز شرعية هذا النظام.
10- تخطي سياسة العقوبات الغربية: يبقى التحدي الأكبر أمام الحكومة الانتقالية هو كسب ثقة المجتمع الدولي، وهو مرهون بسلوكيات محددة يتعين أن تُحدث انفصالاً عن المرحلة السابقة. وتجدر الإشارة إلى أنه من القضايا المحورية التي تشغل بال الإدارة السورية الجديدة مسألة العقوبات الدولية المفروضة على سوريا. وقد بدأت الدول الغربية فرض العقوبات عليها منذ عام 1979 فضلاً عن إدراج واشنطن لها على قوائم الدول الراعية للإرهاب، وزادت وتيرة العقوبات بعد الحراك الثوري عام 2011، ومن أبرزها "قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين"، الذي أقره الكونجرس الأمريكي في 2019، ودخل حيز التنفيذ في يونيو 2020، ويستهدف الكيانات والأفراد الذين يدعمون النظام السوري، بما في ذلك الشركات الأجنبية، ويمنعها من التعامل مع سوريا، كذلك الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات مماثلة خاصة المتعلقة بالنفط وتجميد الأصول وحظر التعاملات المالية. ويبدو أن هناك ميلاً غربياً لرفع متدرج للعقوبات على الإدارة السورية الانتقالية.
مرحلة جديدة
خلاصة القول، إن المرحلة الانتقالية لن تكون مجرد إعلان سياسي، بل ستحتاج إلى تحركات فعلية على أرض الواقع، إذ تشير كتابات مختلفة إلى أن سوريا مقبلة على مفترق طرق، حيث تواجه تحديات تتعلق بالتأزم السياسي والانفلات الأمني، والاقتصاد المتدهور، وخطر التقسيم، وإعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية على أسس وطنية وغير طائفية، وهو ما يستوجب وضع إطار أو خطة عمل لمنع تكرار سيناريوهات الفوضى في دول أخرى. وعندئذ تكون سوريا دخلت، على حد تعبير وزير الخارجية في الحكومة الانتقالية السورية أسعد الشيباني، في كلمته خلال القمة العالمية للحكومات في 12 فبراير الجاري، مرحلة جديدة بعد 14 عاماً من الصراع و50 عاماً من الاستبداد.
غير أن هناك اتجاهاً يرى أن المرحلة المقبلة سوف تحدد وتفرز إلى حد كبير وجه سوريا الجديد ما بين أحمد الشرع بوضعه الجديد أم العودة لأبي محمد الجولاني في ثوبه القديم. ووفقاً لهذا الاتجاه، فإن تحالف الفصائل المسلحة الحاكمة وفي القلب منها "هيئة تحرير الشام" لم تتبن، بعد سيطرتها على دمشق، نهج "فقه التمكين"، بل هي موغلة في "فقه الاستضعاف" حتى إشعار آخر؛ إلى أن تقوى شوكة الجماعة، وهو الخطر الداهم على سوريا والمنطقة ككل.