تشهد القضية الفلسطينية خلال العقد الأخير العديد من التحولات المفصلية في تاريخها النضالي للحصول على الحق في تأسيس دولة فلسطينية مستقلة. فمنذ عقود طويلة، كانت القضية الفلسطينية محورًا للصراع الإقليمي والدولي، حيث تشابكت مصالح القوى الكبرى مع الطموحات الوطنية والإقليمية، مما جعلها ساحة تتجدد فيها المواجهات وتُعاد فيها صياغة التحالفات. إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تحولات غير مسبوقة في مسار القضية، خاصة في ضوء صعود تيارات سياسية إسرائيلية جديدة، وتبلور مقاربات دولية تتسم بالتهميش المتعمد للقضية، كما تجلى في "صفقة القرن" التي قدمها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال ولايته الأولى في إطار خطته "السلام على طريق الازدهار" التي طرحها للمرة الأولى عام 2020، ليعود مرة أخرى لطرحها خلال فترة ولايته الثانية، في أعقاب أحداث 7 أكتوبر 2023، التي يبدو أن الإسرائيليين والأمريكيين تعاملوا معها باعتبارها فرصة لإعادة طرح هذه الأفكار التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، ولكن هذه المرة في قالب أكثر تطرفًا ارتبط بدعوات "تهجير الفلسطينيين" لدول الجوار.
وفي هذا الإطار، يأتي كتاب "القضية الفلسطينية من صفقة القرن إلى طوفان الأقصى" للمفكر والخبير بالشئون (الفلسطينية – الإسرائيلية) الدكتور عبد العليم محمد، مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، والصادر في أكتوبر 2024، والذي يعد ثمرة ثلاث سنوات من البحث والتحليل الدقيق للأحداث الجارية منذ عام 2020 وحتى مطلع عام 2024. فهو لا يقتصر على الرصد وتوثيق الوقائع، بل يمتد إلى تحليلها وكشف أبعادها العميقة، عبر تتبع السياسات الإسرائيلية والغربية، وربطها بالخلفيات الأيديولوجية والعقائدية التي تحركها، في سياقاتها التاريخية والاستراتيجية. كما يركز على مقارنة الخطاب الإسرائيلي والأمريكي المُعلن بالواقع على الأرض، للكشف عن التناقضات والأهداف الحقيقية لهذه السياسات، وتقديم تفسير نقدي للمسارات المتداخلة التي صنعت المشهد الفلسطيني المعقد اليوم.
ينطلق الكتاب من التزام مؤلفه بقضية الشعب الفلسطيني، مقدمًا رؤية نقدية تتناول القضية من منظور قومي ووطني متكامل. فهو لا يعالج القضية الفلسطينية بمعزل عن المصالح الوطنية المصرية أو عن تطورات الإقليم العربي، بل يسلط الضوء على الترابط الوثيق بين هذه الأبعاد. فالمؤلف ليس مجرد مراقب محايد، بل هو منخرط فكريًا ووجدانيًا في القضية الفلسطينية، ما يجعل تحليلاته مستندة إلى رؤية قومية ووطنية متكاملة، تتجاوز الفصل التقليدي بين الأبعاد الفلسطينية والعربية والدولية.
وفي هذا السياق، استهدف المؤلف عبر الفصل الأول، تقديم قراءة تحليلية للرؤية الأمريكية للسلام، التي تجسدت في "صفقة القرن"، وذلك باعتبارها ليست مجرد خطة دبلوماسية، بل مشروع سياسي يعيد تعريف الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وفق المنظور الإسرائيلي وحده. وتعمق المؤلف في تحليل خلفيات الصفقة وأبعادها، وكيف أنها ليست مبادرة تفاوضية بالمعنى التقليدي، بل مشروع يُفرض من طرف واحد، يتجاهل جوهر القضية الفلسطينية، المتمثل في الحقوق التاريخية، والسيادة، والهوية الوطنية.
كما استعرض المؤلف انعكاسات اتفاقات إبراهام على واقع القضية الفلسطينية باعتبارها شكلت نقطة تحول في بنية العلاقات العربية-الإسرائيلية، من خلال تجاوز مفهوم "الأرض مقابل السلام"، إلى تبني نهج جديد يرتكز على "السلام مقابل المصالح الاقتصادية والجيوسياسية"، مما أدى إلى إعادة ترتيب الأولويات في المنطقة العربية، فيما يتعلق بموقع القضية الفلسطينية على الأجندة السياسية للدول الموقعة.
لم يقف المؤلف عند حدود رصد وتحليل تحديات السياق الإقليمي والدولي التي تواجه القضية الفلسطينية، وإنما امتد تناوله ليشمل السياق الوطني الفلسطيني، حيث تعرض إلى تعثر المشروع الوطني الفلسطيني، في الفصل الثاني، متتبعًا جذور الأزمة التي تمتد إلى عقود من الانقسامات الداخلية والخلافات حول النهج السياسي بين مختلف الفصائل الفلسطينية. وفي هذا السياق، يشير المؤلف إلى أن الجمود الحالي ليس مجرد نتيجة للأوضاع الدولية، بل هو أيضًا نتاج داخلي يرتبط بأزمة القيادة السياسية الفلسطينية، والافتقار إلى رؤية واضحة لكيفية التعامل مع التحولات الكبرى في المنطقة. كما ناقش البدائل المتاحة لتجاوز الأزمة، بما في ذلك فكرة "التحرر الذاتي"، التي تقوم على تعزيز المقاومة الشعبية، وتبني استراتيجيات جديدة تعتمد على تفعيل المجتمع المدني الفلسطيني، والانخراط الفاعل في الأطر الدولية لمساءلة الاحتلال الإسرائيلي.
وتزامنًا مع هذه التطورات، كان مهمًا رصد التحولات الحادثة في الداخل الإسرائيلي وانعكاساتها على مسار الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي واتجاهات التسوية، حيث تطرق المؤلف في الفصل الثالث، إلى رصد انعكاسات صعود اليمين الإسرائيلي الجديد وتأثيراته على القضية الفلسطينية، خاصة في ضوء نزوع هذه التيارات السياسية الإسرائيلية اليمينية المتطرفة خلال السنوات الأخيرة إلى تعزيز فكرة "إسرائيل الكبرى"، وسعيها إلى إنهاء أي مسار قد يقود إلى حل الدولتين. وفي هذا السياق، تعرض المؤلف إلى توضيح كيفية توظيف الائتلاف الحكومي الإسرائيلي، الذي يضم أكثر التيارات تشددًا في إسرائيل، الأيديولوجيا الدينية والقومية في إعادة صياغة السياسات الإسرائيلية، التي تهدف إلى شطب القضية الفلسطينية من الأجندة السياسية، من خلال مشاريع مثل ضم الضفة الغربية، وتوسيع المستوطنات، وفرض "حل الحسم"، الذي يتعامل مع الفلسطينيين كفئات يجب إما تهجيرها، أو إخضاعها لحكم غير متكافئ داخل الدولة اليهودية، هذا فضلًا عن استغلال الظروف الدولية لتطبيق هذه السياسات على أرض الواقع، دون مواجهة ضغوط دولية حقيقية.
وفي ضوء تطورات الأحداث الميدانية الأخيرة المرتبطة بعملية "طوفان الأقصى" التي شنتها حركة حماس في 7 أكتوبر 2023، وما تبعها من عدوان إسرائيلي على قطاع غزة، حاول المؤلف معالجة هذه التطورات، في الفصل الرابع من الكتاب، في إطار منظور شامل لا يقف عند حدود التعامل مع الحدث في سياقه الراهن، وإنما امتد ليتناول الخلفيات والمحفزات التي قادت إليه من تصاعد المواجهات في القدس والمسجد الأقصى، وصولًا إلى العدوان الإسرائيلي المتكرر على قطاع غزة. وفي هذا الإطار، ناقش المؤلف كيف شكلت هذه المواجهات اختبارًا حقيقيًا للواقع الجديد في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، بحيث لم تعد إسرائيل تواجه مقاومة عسكرية فقط، بل مقاومة شعبية تتسع يومًا بعد يوم. كما اتجه لتحليل الاستراتيجيات الإسرائيلية الجديدة في التعامل مع قطاع غزة، التي تتجاوز العقوبات الاقتصادية والعسكرية إلى سياسات تهدف إلى جعل القطاع غير قابل للحياة، كوسيلة ضغط طويلة المدى لتفكيك المقاومة الفلسطينية.
اختتم المؤلف تحليله الذي نظمه على مدار أربعة فصول، تناولت الأبعاد المختلفة لتطورات القضية الفلسطينية، وما آلت إليه الأمور في ضوء مستجدات الوضع الراهن، بفصل خامس طرح خلاله عددًا من الأسئلة الجوهرية حول مستقبل القضية الفلسطينية، متسائلًا عما إذا كنا بصدد مرحلة جديدة من الصراع تختلف جذريًا عن النماذج التقليدية السابقة، بالإضافة إلى التساؤل عن الدور الذي يمكن أن تلعبه القوى الفلسطينية في مواجهة الاستراتيجيات الإسرائيلية والأمريكية الجديدة؟، وكيف يمكن إعادة القضية الفلسطينية إلى موقعها المركزي في الأجندة العربية والدولية. وفي هذا الصدد، اقترح المؤلف مجموعة من الاستراتيجيات البديلة، التي تقوم على تعزيز الوحدة الفلسطينية، وإعادة إحياء الدبلوماسية الفلسطينية على المستوى الدولي، إضافة إلى تبني سياسات مقاومة جديدة، تستفيد من التغيرات الجيوسياسية في المنطقة.
ختامًا، يمكن القول إن هذا الكتاب يعكس جهدًا بحثيًا جادًا لفهم التحولات الراهنة في القضية الفلسطينية، حيث يقدم رؤية تحليلية تستند إلى فهم عميق للمشهد السياسي، متجاوزًا التفسيرات السطحية إلى تفكيك البنى الأيديولوجية والاستراتيجية التي تحكم الصراع. كما أنه يكشف أن القضية الفلسطينية، رغم محاولات التهميش، لا تزال في صلب التحولات الكبرى في الشرق الأوسط، وأن الاستراتيجيات الإسرائيلية الجديدة، رغم أنها قد تحقق مكاسب آنية، إلا أنها لا تزال تواجه مقاومة متزايدة على المستويين الشعبي والسياسي. وفي هذا الإطار، يفتح الكتاب أفقًا للنقاش حول مستقبل القضية الفلسطينية، مقدمًا أفكارًا من شأنها أن تسهم في إعادة صياغة مسارات النضال الفلسطيني في ظل التحديات الراهنة.