رابحة سيف علام

خبيرة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية

 

نجح رئيس الوزراء اللبناني القاضي نواف سلام في تشكيل الحكومة الأولى في عهد الرئيس جوزيف عون وفق مبادئ وقواعد جديدة في توزيع الوزارات وفي وقت قصير نسبياً لم يتعد الشهر. بينما كان قد تنبأ له الكثيرون بالفشل أو الانسحاب أو الغرق في التفاصيل لفترة أطول دون الخروج بالحكومة إلى النور. توصف حكومة سلام بأنها حكومة كفاءات لا حزبيين جاءت بمشورة الكتل النيابية ولكنها لا تتبع لهم مباشرةً. لا تخلط بين العمل الحكومي والعمل النيابي، فوزراؤها ليسوا نواباً وليس مسموحاً لهم بالترشح في الانتخابات البرلمانية القادمة. اعتبر المراقبون أن نواف سلام قد نجح فيما فشل فيه الآخرون، إذ نجح في تحقيق التوازن الصعب بين عدم حصول أي فريق على ثلث معطل داخل الحكومة كما اعتاد حزب الله وحلفاؤه في الحكومات السابقة طوال أكثر من عقد ونصف، وعدم استعداء حزب الله ومشاورته في التشكيل ثم فرض قواعده عليه.

قواعد تشكيل حكومة سلام

 كان سلام قد جاء إلى رئاسة الوزراء بتسمية نحو 85 صوتاً من النواب، حيث كان نواب المعارضة يعتزمون طرح اسم مقابل لنجيب ميقاتي- رئيس الحكومة السابق- الذي كان يفضله حلفاء حزب الله. ولكن بدلاً من ذلك، نجح نواب التغيير في إقناع المعارضة بتسمية نواف سلام، الذي يملك رصيداً دولياً مهماً يمكنه من منافسة ميقاتي بشكل جدي. بينما جاء تصويت التيار الوطني الحر- الذي لم يكن قد انتخب الرئيس جوزيف عون- ليرجح كفة نواف سلام آملاً بذلك أن لا يغيب عن الحكومة المقبلة ولكنه رغم ذلك استبعد منها. وهكذا، تضامن المعارضون مع نواب التغيير ومعهم أحد حلفاء حزب الله – التيار الوطني الحر-  وفرضوا خيار نواف سلام[1]. ولكن الرجل الذي هزم خيار حزب الله – بمجرد تسميته-  لم يُقص هذا الأخير في تشكيل الحكومة وإنما تشاور مع الثنائي الشيعي - حزب الله وحركة أمل- كي تكون حكومته مستندة إلى تمثيل شيعي قوي في البرلمان. ولكن عندما تعثر بالمطالب الكثيرة للتيار الوطني الحر استبدله بالقوات اللبنانية كي يعزز حكومته بتمثيل مسيحي قوي، فالقوات اللبنانية هي الكتلة المسيحية الأكبر في البرلمان.

في المقابل، فإن التمثيل الشيعي عبر أمل وحزب الله لم يكن قابلاً للاستبدال، فآثر سلام التشارك معهما لتعذر إيجاد أي شريك شيعي آخر قوي. ويجسد سلوك سلام في هذا الخصوص، أحد أركان خطاب القسم الرئاسي الذي أطلقه الرئيس جوزيف عون بعد دقائق من انتخابه، وهي قاعدة "إذا انكسر أحدنا انكسرنا جميعاً". وهكذا لم يشأ تحالف عون-سلام المستجد في حكم البلاد أن تنعكس النتائج العسكرية للحرب الإسرائيلية على لبنان بشكل قاسٍ سياسياً على حزب الله في الداخل. فالنفوذ المتراجع لحزب الله لم يرثه خصومه التقليديون كالقوات اللبنانية مثلاً بل تقدم فاعل جديد ليحصد هذه المساحات متمثلاً بالأساس في قوى التغيير الذي يعتبر نواف سلام أحد أهم وجوهها، فضلاً عن جوزيف عون نفسه الذي عكس خطاب القسم بعد انتخابه أجندة سياسية متكاملة تتطابق مع مطالب الحراك الثوري منذ نوفمبر 2019. وهكذا، أنتجت التشكيلة الحكومية الجديدة تعادلاً في عدد الحقائب الوزارية بين الثنائي الشيعي من جهة والقوات اللبنانية من جهة ثانية وبقية الأحزاب السياسية من جهة ثالثة، بينما دخل فاعلون جدد إلى الحكومة ليشغلوا نصف حقائب التشكيلة الحكومية.

كان سلام قد طرح مجموعة من القواعد والتزم بمعظمها، حيث استمع لترشيحات الكتل النيابية بشأن الوزراء المحتملين ولكنه تمسك بأن يكون الوزراء من الكفاءات ذوي السمعة الجيدة والسيرة الذاتية الزاخرة بالخبرات. كما طرح مبدأ المداورة وعدم حصر وزارات معينة بيد قوى سياسية بعينها، ورفض مبدأ تمتع أي فريق بثلث معطل يمكنّه من تعطيل قرارات الحكومة وقتما يشاء أو حيازة أي فريق لتمثيل أي طائفة بالكامل. وخاض سلام مفاوضات طويلة مع الثنائي الشيعي الذي تمسك بوزارة المالية لتكون من حصة الشيعة، وهو أمر يتصادم مع مبدأ المداورة الذي طرحه سلام ابتداءً، خاصةً أن وزراء المالية السابقين المحسوبين على فريق أمل وحزب الله لم يحققوا نجاحاً استثنائياً كي يتم إعادة توزيرهم من الفريق نفسه، بل غرق لبنان في أزمة مالية طاحنة لم يخرج منها حتى الآن.

وهكذا، استغرق سلام وقتاً طويلاً في محاولة إقناع الثنائي الشيعة بالتخلي عن حقيبة المالية، ولكنهم تمسكوا من جانبهم بها على أرضية أنها ستكون ضامناً لمشاركة الشيعة بشكل فعّال في القرار الحكومي. فمن المعروف أن القرارات الحكومية لا تصدر إلا بثلاثة توقيعات: توقيع رئيس الجمهورية وهو مسيحي ماروني وتوقيع رئيس الوزراء – وهو مسلم سُني – وتوقيع وزير المالية وهو الذي يقر المخصصات المالية لتنفيذ القرار الحكومي، ولذا تمسك الشيعة بوزارة المالية كي تصبح الحكومة "ميثاقية" بين الطوائف الثلاثة. وقد نالوا ما أرادوا بتكليف الوزير ياسين جابر المقرب من حركة أمل وزيراً للمالية.

ولكن في المقابل، لم يحز حزب الله مع حلفائه على الثلث المعطل كما جرى العرف في الحكومات التي تشكلت منذ اتفاق الدوحة في مايو 2008. فالحكومة تشكلت من 24 وزيراً منهم 5 نساء – كان لرئيس الجمهورية منهم ثلاثة وزراء هم الدفاع والاتصالات والإعلام، ولرئيس الحكومة منهم تسعة أسماء منها نائب رئيس الحكومة والسياحة والثقافة والداخلية والتربية والاقتصاد والشئون الاجتماعية وأخيراً التنمية الإدارية. وهؤلاء يمثلون نصف التشكيل الوزاري، ومختلطي الطوائف. بينما تمت تسمية النصف الآخر من الحكومة من جانب الكتل النيابية وهم مختلطي الطوائف أيضاً، حيث رشحت القوات اللبنانية – غريم حزب الله الأول- أربعة وزراء هم الخارجية والصناعة والمهجرين والطاقة والمياة وبذلك حازت على التمثيل المسيحي الأوسع داخل الحكومة بما يعكس ثقل كتلتها البرلمانية. وقد رشح حزب الكتائب وزير العدل وحزب الطاشناق الأرمني رشح وزيرة الشباب والرياضة، بينما رشح الحزب التقدمي الاشتراكي وزيرين هما الزراعة، والأشغال والنقل.

التذكير بالضغط الأمريكي

كان قد تبقى للثنائي الشيعي ترشيح 4 وزراء هم المالية والصحة والعمل والبيئة، ولكنه أراد أيضاً ترشيح اسم الوزير الشيعي الخامس -التنمية الإدارية- من حصته أيضاً ليتحقق له هدفين: الأول، أن تكون كتلته الوزارية أكبر من كتلة غريمه – القوات اللبنانية (4 وزراء)- وأن يكون قد حاز على تمثيل الشيعة بالكامل في الحكومة. ولكن رئيس الحكومة أصر على أن يكون الوزير الشيعي الخامس من كتلته على أن يتشاور في تسميته مع الثنائي الشيعي، وبذلك يضمن رئيس الحكومة أن لا ينسحب الوزراء الشيعة بأمر من حزب الله إذا ما أراد الأخير إسقاط الحكومة. ومن المعروف أنه إذا انسحب كل الوزراء الممثلين لأي طائفة من الحكومة فإن ذلك يعطل عملها على قاعدة افتقادها للميثاقية أو للتمثيل الطائفي المتوازن، وهذه حيلة درج حزب الله على استخدامها فيما مضى لتعطيل عمل الحكومات كي يفرض إرادته عليها.

كانت تشكيلة الحكومة اللبنانية جاهزة للإعلان عنها منذ الخميس 6 فبراير 2025[2]، وبالفعل وصل رئيس الوزراء إلى القصر الجمهوري مع رئيس مجلس النواب، استعداداً للإعلان عن التشكيل. ولكن رفض نبيه بري مبدأ أن يكون الوزير الشيعي الخامس من حصة رئيس الحكومة، بما يعني فعلياً إصرار الثنائي الشيعي على احتكار تمثيل الشيعة بما يسمح لهم بعرقلة عمل الحكومة وقتما يشاءون. وهنا احتدم الخلاف وغادر رئيس مجلس النواب القصر الرئاسي دون إصدار مراسيم تشكيل الحكومة ومن بعده غادر رئيس الحكومة دون الإدلاء بأي تصريح للإعلام.

ولكن في اليوم التالي – الجمعة 7 فبراير- كان موعد زيارة نائبة الموفد الأمريكي للشرق الأوسط مورجان اورتاجوس- خليفة آموس هوكشتاين- التي أطلقت بعد لقاء الرئيس اللبناني جوزيف عون تصريحات نارية ترفض مشاركة حزب الله في الحكومة القادمة وتعتبر أنه قد هُزم في الحرب ولابد من إقصائه في السياسة. بينما عبرت في لقائها مع نواف سلام عن دعم الإدارة الأمريكية للحكومة اللبنانية المرتقبة في ملفات الإصلاح المالي والإداري والقضائي وتمنت أن تبصر الحكومة النور قريباً[3]. فيما أكد سلام على ضرورة الضغط على إسرائيل من أجل استكمال انسحابها من الجنوب اللبناني ضمن مهلة الهدنة التي تم تمديدها حتى 18 فبراير الجاري. وقد التقت أورتاجوس يوم السبت 8 فبراير برئيس مجلس النواب نبيه بري في لقاء مغلق ولم يدليا بأي تصريح بعده للإعلام، بينما تم الإعلان عن النجاح في تشكيل الحكومة اللبنانية بعد انتهاء اللقاء مباشرةً.

وهنا، يبدو أن نبيه بري قد اختبر عن قرب مدى تشدد الإدارة الأمريكية الجديدة – عبر مبعوثتها إلى لبنان – في تكريس استبعاد حزب الله من التركيبة الحكومية والتمعن في إقصائه من أي تأثير سياسي مستقبلي. ولذا تساهل بري قليلاً مع نواف سلام وقبل بأن يتبع الوزير الشيعي الخامس لكتلة رئيس الوزراء بعد أن كان يصر على أن يسميه الثنائي الشيعي، وهكذا تخلي عن ورقة إسقاط الحكومة التي كان يريد الاحتفاظ بها. وفي ذلك التنازل إبداء إضافي للثقة بحكومة سلام بعد أن اكتشف أن الأخير يصر على عدم إقصاء حزب الله رغم الضغط الأمريكي المتزايد. إذ خشى بري إذا تشدد أكثر وفوّت فرصة تشكيل الحكومة هذه المرة ربما سيتزايد الضغط الأمريكي بشكل أكبر فيخفض تمثيل الثنائي الشيعي أو يجعل شروط مشاركتهما في الحكومة أصعب[4].

عقبات في طريق الحكومة

رغم تخطي عقبة الثقة بين سلام وبري مرة بعد أخرى والذي أثمر أخيراً عن ميلاد الحكومة الجديدة، تبقى الخطوات القادمة كاشفة لمدى التعاون الذي سيبديه الطرفان خلال عمل الحكومة. فمن المتوقع أن يصر سلام على استبعاد صيغة –حق لبنان بجيشه وشعبه ومقاومته– في تحرير الأراضي اللبنانية من البيان الحكومي، والاكتفاء بتأكيد دور الجيش اللبناني في الدفاع عن البلاد والتعويل على الشرعية الدولية لتحرير جنوب لبنان فضلاً عن النص على القرار 1701. وفي هذه الحالة، قد يحجب حزب الله تأييده عند عرض البيان الحكومي على البرلمان، ولكن ذلك لن يؤثر كثيراً في حصول الحكومة على الثقة المطلوبة. في المقابل، سيبرز أيضاً تحدي عمل الحكومة كجسم متجانس دون التشتت إلى الخلافات السياسية بين مكوناتها، وخاصةً بين وزراء الثنائي الشيعي ووزراء القوات اللبنانية. وهذا الاختبار سيكون الأبرز عندما يتم طرح الإصلاحات الإدارية والمالية والقضائية المطلوبة، فملف الموازنة اللبنانية سيكون محل تنازع كبير بين من سيحاولون تبني مقاربة جديدة للموازنة ومن سيتشبثون بالمقاربة القديمة.

كما أن تعزيز استقلال القضاء سيعني تنشيط التحقيق في انفجار مرفأ بيروت مما يعني أن يمثل وزراء ومسئولون سابقون مقربون من حزب الله وحركة أمل أمام القضاء، وربما قد يسعون إلى حمايتهم عبر الضغط بتعقيد العمل الحكومي في الوزارات الأربعة التي يسيطرون عليها. بينما سيعني الإصلاح الإداري والمالي في بعض مواقع الدولة الكشف عن ملفات فساد متورط فيها بعض أقطاب الأحزاب السياسية المشاركة في الحكومة حالياً وهو ما قد يدفعها أيضاً إلى تعطيل العمل الحكومي لحماية أتباعها من الملاحقة القضائية على خلفية قضايا فساد مالي وإداري. كما أن عضوية بعض الوزراء الجدد في مجالس إدارات شركات وبنوك خاصة قد ينشأ عنه تعارض في المصالح عند البحث في شأن تقاسم خسائر أموال المودعين بين البنوك والدولة والمصرف المركزي. ولذا، فقد أوصى نواف سلام بضرورة تجميد الوزراء المعنيين لعضويتهم في مجالس إدارات الكيانات المالية الخاصة لنفي أي شبهة فساد محتمل.

من هنا، فإن النجاح أخيراً في تشكيل الحكومة الجديدة ليس آخر الاختبارات التي سيواججها نواف سلام بل هي مجرد البداية لسلسلة من التحديات المرتقبة. فتنفيذ الحكومة لكل تعهدات رئيس الجمهورية في خطاب القسم سيكون مستحيلاً ضمن الفترة الزمنية القصيرة نسبياً المتاحة لها – وهي سنة وبضعة أشهر- ولكن ربما سيكون عليها وضع البذور الأساسية لهذه الإصلاحات حتى موعد الانتخابات البرلمانية القادمة.


[1]  كارولين عاكوم، "نواف سلام لتشكيل الحكومة اللبنانية بعد جهود قلبت المقاييس"، الشرق الأوسط، 13-1-2025، t.ly/k8sce

[2]  المدن، الحكومة بالأسماء والحقائب ولادة متعثرة لكن قريبة، 3-2-2025، t.ly/jKN8C

[3]  موقع اي ام ليبانون، لقاء اورتاغوس سلام..ماذا قالت عن الحكومة، 8-2-2025، https://www.imlebanon.org/2025/02/08/salam-ortagos/

    [4] رضوان عقيل، استهداف ارتاغوس حزب الله يحرج عون ويربك سلام"، النهار، 7-2-2025، t.ly/Ng_JG