في الأول من فبراير 2025، أصدر وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو نشرة بعنوان "إعادة السياسة الخارجية الأمريكية إلى الوطن: تعزيز المصالح الأمريكية أولاً"، والتي تحدد التحول في الأولويات الدبلوماسية الأمريكية. وتؤكد النشرة على أهمية تعزيز العلاقات داخل نصف الكرة الغربي ــ وخاصة مع أمريكا الوسطى والجنوبية ــ عوضاً عن العلاقات مع أفريقيا وغيرها من المناطق.
وتعكس هذه المقاربة رؤية روبيو الأوسع نطاقاً لمواءمة السياسة الخارجية الأمريكية بشكل أوثق مع المصالح الوطنية، مع التركيز على المجالات التي تؤثر بشكل مباشر على الأمن الأمريكي والنمو الاقتصادي والاستقرار الإقليمي. وتفصح الوثيقة عن وجود اعتقاد جازم بأن تعزيز العلاقات الأقوى مع البلدان المجاورة من شأنه أن يؤدي إلى ازدهار نصف الكرة الغربي، الأمر الذي يعود بالنفع على الولايات المتحدة وشركائها الإقليميين. ومن خلال إعطاء الأولوية لهذه العلاقات، تهدف إدارة ترامب الثانية إلى معالجة التحديات المشتركة مثل الهجرة والتجارة والأمن، مع الحد من الاعتماد على التحالفات البعيدة التي قد لا تتوافق بشكل وثيق مع الأهداف المباشرة للولايات المتحدة.
كما يشير هذا التوجه السياسي إلى انحراف كبير عن الاستراتيجيات العالمية السابقة، مع التأكيد على البرجماتية والكفاءة في الدبلوماسية الأمريكية. ولعل ذلك يؤكد التزام الرئيس ترامب بتعزيز "المصالح الوطنية الأساسية" من خلال إعادة تخصيص الموارد والاهتمام بالمناطق التي تعتبر الأكثر أهمية لازدهار الولايات المتحدة وسلامتها في المستقبل. ولعل ذلك كله يطرح التساؤل حول انعكاس ذلك كله على أفريقيا؟ وهو ما سنحاول مناقشته في هذا المقال.
مخاطر وقف التمويل على جنوب أفريقيا
أثار قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بقطع كل التمويل عن جنوب أفريقيا بسبب قانون نزع ملكية الأراضي الجديد جدلاً وقلقاً واسع النطاق. اتهم ترامب حكومة جنوب إفريقيا بارتكاب "انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان" من خلال سن القانون، الذي يسمح بمصادرة الأراضي في ظل ظروف محددة، وهي سياسة تهدف إلى معالجة الظلم التاريخي من عصر الفصل العنصري.
ومع ذلك، تم دحض ادعاءاته على نطاق واسع من قبل زعماء جنوب إفريقيا ومنظمات المجتمع المدني، باستثناء (أفري فورم)، وهي منظمة يمينية تدافع عن حقوق الأفريكانز وتعارض القانون الجديد. أوضحت حكومة جنوب إفريقيا أن القانون يضمن تعويضاً عادلاً ويضاهي قوانين نزع الملكية في الولايات المتحدة. وعلى الرغم من تطمينات الرئيس سيريل رامافوزا بأن المساعدات الأمريكية بخلاف خطة الرئيس الأمريكي الطارئة للإغاثة من الإيدز (التي تمول 17٪ من برنامج جنوب أفريقيا لمكافحة فيروس نقص المناعة البشرية/ الإيدز) محدودة، فإن الخسارة المحتملة للدعم الأمريكي قد يكون لها عواقب وخيمة.
على سبيل المثال، في عام 2024 وحده، قدمت الولايات المتحدة 453 مليون دولار من تمويل خطة الرئيس الأمريكي الطارئة للإغاثة من الإيدز و60 مليون دولار من خلال الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية لمبادرات مثل التخفيف من آثار تغير المناخ ومنع العنف. كما تتماشى قرارات وقف التمويل المفاجئة مع تجميد ترامب الأوسع للمساعدات الخارجية وتفكيكه للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وهي إجراءات من شأنها أن تزعزع استقرار الدول الأفريقية التي تعتمد على مثل هذه المساعدة.
ويزعم المنتقدون أن موقف ترامب، الذي لم يقم بزيارة أفريقيا خلال ولايته الأولى - يعكس عدم فهم لتعقيدات أفريقيا ويتأثر بشخصيات يمينية متطرفة مثل إيلون ماسك، الذي ردد خطاباً معادياً لجنوب إفريقيا. وتؤكد هذه الخطوة على تدهور العلاقات بين الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا وتثير مخاوف من زيادة النزوع تجاه نظم الحكم الأوتوقراطية وانخفاض الالتزام العالمي بحقوق الإنسان في ظل إدارة ترامب.
ما الذي تخسره أفريقيا من سياسة ترامب؟
من الواضح أن ترامب في ولايته الثانية يضع أفريقيا في مكانة هامشية بشكل أكثر وضوحاً عما كان عليه الوضع في إدارته الأولى. في عام 2022، تلقت كل دولة أفريقية مساعدات أمريكية تتراوح ما بين 125 مليون دولار و500 مليون دولار، مع برامج رئيسية تعالج تحديات الصحة، والأمن الغذائي، والحوكمة، والأمن. على سبيل المثال، في عام 2024 وحده، خصصت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية 8 مليارات دولار لبرامج المساعدات الأفريقية، مع وجود مستفيدين رئيسيين مثل نيجيريا (622 مليون دولار)، وموزامبيق (564 مليون دولار)، وكينيا (512 مليون دولار).
ولا يخفى أن سحب الدعم الأمريكي من شأنه أن يعيق بشدة النمو الاقتصادي والجهود الإنسانية في جميع أنحاء القارة. لقد شكلت البرامج التي تهدف إلى تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان والأمن 10٪ من حزمة المساعدات الأمريكية الأفريقية لعام 2024. ولعله بدون هذا التمويل، قد تشهد البلدان التي تكافح بالفعل قضايا الفقر وضعف الحوكمة ارتفاعاً في انتهاكات حقوق الإنسان وانخفاض الثقة العامة في حكوماتها. وهذا بدوره يخلق أرضاً خصبة للجماعات المتطرفة العنيفة لاستغلال مظالم المواطنين، وخاصة في مناطق مثل غرب أفريقيا والصومال وموزامبيق.
كما أدى شعار ترامب الأوسع نطاقاً "أمريكا أولاً" في السياسة الخارجية إلى تفكيك برامج الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وتجميد معظم المساعدات الخارجية. وقد أفضى ذلك إلى تعطيل المبادرات الحاسمة التي تعالج انعدام الأمن الغذائي، والوصول إلى الرعاية الصحية، والقدرة على الصمود في مواجهة تغير المناخ في جميع أنحاء القارة. على سبيل المثال، قدمت الولايات المتحدة 6.6 مليار دولار من المساعدات الإنسانية لأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في عام 2024 وحده. ويُعرِّض التجميد هذه الجهود للخطر وينذر بترك الملايين بدون خدمات أساسية مثل علاج فيروس نقص المناعة البشرية / الإيدز بموجب خطة الرئيس الأمريكي الطارئة للإغاثة من الإيدز أو مساعدات الغذاء الطارئة أثناء الأزمات. أضف إلى ذلك فإنه مع تراجع مشاركة الولايات المتحدة، قد تكتسب الجماعات المتطرفة قوة دفع بينما قد توسع دول كبرى مثل الصين أو روسيا وجودها في القارة من خلال الاستثمارات أو التعاون العسكري. ولا شك ان هذا التحول السياسي لترامب يعكس تراجعاً عن الزعامة العالمية التي تقوض عقوداً من الشراكات بين الولايات المتحدة وأفريقيا بهدف تعزيز الاستقرار والتنمية.
ما الذي تخسره الولايات المتحدة بعد الخروج من أفريقيا؟
إن الولايات المتحدة تخاطر بخسائر كبيرة نتيجة انسحابها أو تقليص مشاركتها في أفريقيا، مع عواقب تمتد إلى المجالات الاقتصادية، والأمنية، والجيوسياسية، والإنسانية. فمن المعروف أن أفريقيا تشهد وجود بعض أسرع الاقتصادات والأسواق الناشئة نمواً على مستوى العالم، مما يوفر فرصاً تجارية واستثمارية كبيرة. ومن خلال التراجع، تخسر الولايات المتحدة القدرة على الوصول إلى هذه الأسواق، مما يسمح للمنافسين الآخرين مثل الصين بالهيمنة اقتصادياً من خلال مبادرة الحزام والطريق.
على سبيل المثال، بلغ حجم التجارة بين الصين وأفريقيا 282 مليار دولار في عام 2021 مقارنة بالتجارة بين الولايات المتحدة وأفريقيا التي بلغت 64 مليار دولار فقط. ولعل ذلك الجانب يحد من قدرة الشركات الأمريكية على الاستفادة من قاعدة المستهلكين والموارد الطبيعية المتنامية في أفريقيا، مما يؤدي إلى تفويت الفرص في قطاعات مثل التكنولوجيا والزراعة والطاقة.
من جهة ثانية، يخلق انخفاض الوجود الأمريكي فراغاً يمكن للجماعات المتطرفة والمتمردين استغلاله. إذ تعاني بعض المناطق القلقة مثل الساحل والقرن الأفريقي بالفعل من عدم الاستقرار بسبب جماعات مثل داعش وبوكو حرام والشباب. على سبيل المثال، أدى انسحاب القوات الأمريكية من النيجر إلى إضعاف عمليات مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، وهي منطقة بالغة الأهمية لاحتواء الإرهاب الذي يهدد الأمن العالمي. بالإضافة إلى ذلك، تعمل الجماعات الإرهابية مثل الشباب على تعزيز العلاقات مع الحوثيين في اليمن، مما قد يؤدي إلى توسيع نطاق وصولها إلى مناطق تهدد المصالح الأمريكية بشكل مباشر.
وعلى أية حال، فإن الانسحاب الأمريكي من أفريقيا من شأنه أن يوقف مبادرات التنمية الحيوية، ويزيد من عدم الاستقرار والفقر، ويعطل التحالفات الجيوسياسية. ومن شأن هذا كله أن يضعف قدرة الولايات المتحدة على تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، في حين يقوض نفوذها في أفريقيا ومكانتها في مختلف أنحاء العالم.
ما العمل؟
وعليه، يمكن القول إجمالاً أننا أمام لحظة تاريخية تشير إلى "نهاية العصر الأمريكي" في عهد إدارة ترامب والذي يعني التراجع الملحوظ في الزعامة العالمية الأمريكية والقيم الديمقراطية بسبب السياسات القومية، والانعزالية الجديدة، والتراجع عن مبادرات الحقوق المدنية. ويزعم المنتقدون أن هذه التحولات تقوض الدور التاريخي للولايات المتحدة كمنارة للحرية والديمقراطية، مما يشير إلى تراجع نفوذها العالمي مع بروز قوى دولية أخرى في عالم أكثر تعددية.
ولتخفيف عواقب خفض التمويل الأمريكي في ظل إدارة ترامب، يتعين على الدول الأفريقية أن تتبنى استراتيجية متعددة الجوانب تركز على الحد من الاعتماد على المساعدات الخارجية مع تعزيز الشراكات الإقليمية والدولية. أولاً، ينبغي للحكومات الأفريقية أن تعطي الأولوية لقضية "حشد الموارد المحلية" من خلال تعزيز الأنظمة الضريبية، والحد من التدفقات المالية غير المشروعة، وتعزيز الشفافية في الإنفاق العام لتمويل القطاعات الحيوية مثل الرعاية الصحية والتعليم. ثانياً، ينبغي لها أن تعمل على دعم "التجارة البينية الأفريقية" من خلال أطر عامة مثل منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية لتعزيز المرونة الاقتصادية، وخلق فرص العمل، والحد من الاعتماد على الأسواق الأجنبية. ثالثاً، يتعين على أفريقيا تنويع شراكاتها الدولية من خلال التعامل مع القوى الصاعدة مثل الصين والهند والاتحاد الأوروبي لتأمين مصادر بديلة للتمويل والاستثمار لمشاريع التنمية. رابعاً، ينبغي للحكومات أن تشجع "الشراكات بين القطاعين العام والخاص" لجذب الاستثمارات في قطاعات البنية التحتية والتكنولوجيا والطاقة المتجددة، والاستفادة من رأس المال الخاص لسد الفجوات التي خلفها انخفاض المساعدات الأجنبية. وأخيراً، يتعين على الدول الأفريقية أن تعمل على تعزيز التعاون الأمني الإقليمي لمواجهة التهديدات غير التقليدية مثل الإرهاب والتهريب دون الاعتماد المفرط على المساعدات العسكرية الخارجية.
ومن خلال تبني هذه السياسات، تستطيع أفريقيا أن تتغلب بشكل أفضل على التحديات التي يفرضها انخفاض المساعدات الأمريكية في حين تعمل على تعزيز أهدافها الإنمائية طويلة الأجل. وكما يقول كوامي نكروما: "إن القوى التي توحدنا هي قوى جوهرية وأعظم من التأثيرات المفروضة علينا والتي تفرقنا". وهذا يؤكد على القوة المتأصلة للقارة في الوحدة وقدرتها على التغلب على التحديات من خلال التركيز على الأهداف المشتركة والتضامن.