في الوقت الذي تتصدر فيه أجندة السياسة الخارجية للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، المشهد السياسي الإقليمي من خلال الدور البارز والحيوي الذي تضطلع به إدارته في الساحة السورية، تُشعل المعارضة التركية -من جانبها- المشهد السياسي في الداخل التركي من خلال إطلاق أوزغور أوزال، رئيس حزب "الشعب الجمهوري" -أكبر أحزاب المعارضة في تركيا- يوم 28 يناير 2025، حملة لبدء عملية تحديد مرشح الحزب للانتخابات الرئاسية القادمة، التي تدفع المعارضة لعقدها في شهر نوفمبر من العام الجاري 2025، وذلك قبل موعدها الرسمي في مايو عام 2028.
هذا الطرح الذي يحشد لصالحه حزب "الشعب الجمهوري" قد أسفر عن إجهاض جهود "التطبيع السياسي" الذي شهدته الساحة السياسية التركية بين أردوغان وحزبه الحاكم، من ناحية، والمعارضة بقيادة حزب "الشعب الجمهوري" من ناحية أخرى. إذ أعرب أردوغان -ساخرًا- في 2 فبراير من العام الجاري 2025، عن رفضه دعوات المعارضة بشأن عقد انتخابات مبكرة، قائلاً: "لن ننجرف إلى هذه اللعبة"، وفي تأكيد آخر على موقفه، نشر الرئيس التركي تغريدة عبر حسابه على منصة "إكس" قال فيها: "يتعين علينا كحزب العدالة والتنمية أن نستعد بشكل جدي للغاية للانتخابات الرئاسية في عام 2028 والانتخابات المحلية في عام 2029"[1].
ولعل أبرز ما يزيد من توترات المشهد السياسي التركي في الداخل، هو موقف الأحزاب المؤيدة والداعمة لهذا الطرح، فعلى سبيل المثال وليس الحصر؛ أيد فاتح أربكان، رئيس حزب "الرفاه الجديد" المقترح، قائلاً: "لم تعد لدى الأمة القدرة على الصمود حتى عام 2028، يجب إجراء الانتخابات المبكرة في أقرب وقت ممكن"، وبادر الحزب بإعلان فاتح أربكان، مرشحه للرئاسة. كما أكد مسعود درويش أوغلو، رئيس حزب "الجيد"، استعداد حزبه لخوض الانتخابات المبكرة في أي وقت، وصرحت نائبة عن حزب "العمل" اليساري، بأن الحكومة لم تعد تسير وفق المسار الطبيعي، وأن الحديث عن الانتخابات المبكرة أصبح جزءًا لا يتجزأ من المشهد السياسي الحالي.
تنامي الشعبية
يرى البعض أن مطالب المعارضة بإجراء انتخابات مبكرة، المدعومة بعدد من الأحزاب والتيارات الأخرى، جاءت مُستندة على حالة الغضب الشعبي التي يعيشها الأتراك بسبب الأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد وما تُسفر عنه من ارتفاع معدلات التضخم، وتراجع مستويات المعيشة، وكذلك استنادًا على الثقة التي استمدتها المعارضة من مكاسبها في المدن الكبرى خلال الانتخابات المحلية التي أجريت في مارس عام 2024، ما عزز إيمانها بقدرتها على استقطاب الناخب التركي مرة أخرى، لاسيما مع تقارب التوقيت، في حال تبكير موعد الانتخابات للعام الجاري 2025.
لكن في واقع الأمر، لا يمكن قراءة هذه المطالب بمعزل عن حالة النفوذ السياسي التي يعيشها الرئيس التركي على الساحة السورية، وحجم المكاسب الاستراتيجية التي يسعى للحصول عليها ليس فقط لخدمة أجندته الخارجية، إنما أيضًا لتوظيفها على مستوى الداخل التركي، الأمر الذي ساهم في تأجيج مخاوف المعارضة من عودة تنامي القاعدة الشعبية الداعمة والمؤيدة لأردوغان على المدى الطويل، وبالتالي تآكل فرصها في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة.
فمن ناحية، تعيد تلك المكاسب تصدير صورة أردوغان كزعيم لقوة إقليمية فاعلة ذات نفوذ جيوسياسي قوي في مواجهة القوى الإقليمية والدولية المنافسة، على رأسها إيران وروسيا، حيث تعتزم تركيا تطوير وتوسيع مسارات التعاون والشراكات الاستراتيجية العميقة في المجالات كافة مع الجانب السوري، خاصة الجانب الأمني والعسكري من خلال إقامة قواعد عسكرية تركية جديدة على الأراضي السورية، وإبرام الاتفاقيات العسكرية والأمنية المشتركة التي تتضمن إعادة تدريب وهيكلة القوات السورية. فضلاً عن تعزيز فرص التعاون الاقتصادي والتجاري بين الجانبين في مجالات إعادة الإعمار والطاقة وغيرها.
ومن ناحية أخرى، تُسهم تلك المكاسب في تقديم أردوغان نفسه للناخب التركي كمدافع عن مصالح الأمة، وعن أمنها القومي من خلال الدور الذي يلعبه في العديد من الملفات الشائكة، التي لطالما تم توظيفها من جانب المعارضة في مواجهة أردوغان وحزبه الحاكم. ويأتي على رأس تلك الملفات، ملفين أساسيين هما:
1- ملف الأكراد: بدأت إرهاصات مساعي حل أزمة الملف الكردي -المدعومة من أردوغان- مع مصافحة الزعيم القومي التركي، دولت بهجلي، الرئيسين المشاركين لـحزب "الشعوب الديمقراطي" الكردي في اليوم الأول من السنة التشريعية الجديدة للبرلمان التركي يوم 1 أكتوبر عام 2024. فعقب هذا الحدث تقدم بهجلي بدعوة لعبد الله أوجلان مؤسس "حزب العمال الكردستاني" -المُصنف جماعة إرهابية في تركيا- الذي يمضي عقوبة السجن، للتحدث أمام البرلمان التركي وإعلان تفكيك حزب العمال وترك السلاح، مقابل إطلاق سراحه وإنهاء عزلته السياسية، والنظر في إجراء تعديلات قانونية تضمن حقوق الأكراد السياسية والاجتماعية والثقافية. وبعد عدة لقاءات أجريت بين وفود حزب "الشعوب الديمقراطي" وأوجلان، صرح تونغر باكيرهان، الرئيس المشارك لحزب الشعوب لنواب الحزب في البرلمان يوم 4 فبراير 2025، بأن أوجلان يستعد لإطلاق دعوة تاريخية في الأيام المقبلة من أجل حل دائم للقضية الكردية[2].
لكن، على الرغم من تلك التطورات التي تُبشر باقتراب حل الأزمة الكردية على مستوى الداخل التركي، تظل هناك تحديات وشكوك من مدى نفوذ أوجلان وحجم تأثيره في هيكل ونشاط "حزب العمال الكردستاني" العسكري، وبالتالي مدى إمكانية تحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع بشأن مسألة حل الحزب وترك السلاح، والالتزام بضوابط الوضع الجديد الذي وضعت دعوة بهلجي أسسه.
هذا الأمر يدفع بأردوغان للبحث عن آليه أكثر فاعلية للتأثير على مستقبل نشاط الحزب، وذلك من خلال استغلال التطورات السياسية والعسكرية في سوريا، والضغط على الحكومة الانتقالية الجديدة -التي تتلقى دعمًا تركيًا منذ اليوم الأول- لتفكيك ونزع سلاح قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة من حزب "العمال الكردستاني"، وإعادة دمج قواتها في الجيش السوري، بما يمنع تشكيل كيان كردي مستقل على الحدود الجنوبية لتركيا في شمال شرق سوريا، وهو الأمر الذي قد يُهدد الأمن القومي التركي، ويُنذر بتنامي الهجمات الإرهابية التي يشنها الحزب في الداخل، لاسيما في ظل استمرار العمليات العسكرية المُكثفة التي تشنها تركيا في كل من سوريا والعراق ضد القوات الكردية المسلحة.
ويمكن القول إن نجاح أردوغان في حل القضية الكردية سواء على مستوى الجهود الداخلية أو الخارجية، سيضمن له تحقيق العديد من المكاسب:
أولها، تعزيز حالة الأمن والاستقرار السياسي والأمني في الداخل التركي، ووضع حد للهجمات التي تتعرض لها البلاد من قوات حزب العمال المسلحة، والتي تدفع -بطبيعة الحال- القوات التركية للرد بهجمات عسكرية مضادة في مناطق نفوذ وسيطرة تلك القوات في المدن الحدودية بين سوريا وتركيا، ما ينعكس بدوره على فاعلية أجهزة الأمن الكردية المُخولة بحماية المخيمات التي تؤوي عائلات تنظيم "داعش" المُحتجزة -مثل الهول، وروج، وعين عيسى، وغيرها- والتي تضم في مجملها حوالي 52 ألف عنصر داعشي من الأجانب غير السوريين، وما يقرب من 79 ألف عنصر داعشي سوري. وبالتالي إمكانية استغلال حالة الفراغ الأمني الناجمة عن انسحاب القوات الكردية وانشغالها بمواجهة الضربات التركية من جانب تنظيم "داعش" لتكثيف عمليات تحرير عناصره المُحتجزة.
ثانيها، محاولة استغلال القاعدة الشعبية للأكراد في الداخل التركي التي تُقدر بـ 15 مليون ناخب، وتوظيفها لصالح أردوغان وحزبه الحاكم في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة. ناهيك عن أنه إذا ما استطاعت الحكومة التركية احتواء المكون الكردي، وإعادة دمجه في الحياة السياسية وفقًا للضوابط والشروط التي تم الاتفاق عليها مع عبد الله أوجلان، قد يصبح الأكراد ورقة رابحة في يد أردوغان وحزبه لتمرير أي قرارات، أو تعديلات دستورية جديدة في البرلمان، لاسيما أن حزب "الشعوب الديمقراطي" يعتبر ثالث أكبر حزب سياسي في البرلمان التركي، ويقود تحالف "العمل والحرية" الكردي الذي يمتلك 66 مقعدًا في البرلمان.
ثالثها، تقليص كُلفة العمليات العسكرية التي يشنها الجيش التركي ضد قوات حزب "العمال الكردستاني"، والتي لطالما تم استغلالها من جانب المعارضة في نقد أجندة أردوغان الخارجية، باعتبارها تُكبد تركيا العديد من الخسائر البشرية والمالية. فضلاً عن إمكانية تحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة من خلال توفير بيئة خصبة وآمنة لتنفيذ خطط ومشاريع استثمارية بالتعاون مع قطاعات النفط والغاز السوري، لاسيما أن النسبة الأكبر من منابع النفط تتركز في مناطق الشمال السوري التي تقع تحت سيطرة قوات "قسد"، وذلك بما يُسهم في دعم الاقتصاد التركي وتحسين أداءه.
2- ملف اللاجئين: عُدت سياسة "الباب المفتوح" التي تبناها أردوغان، والتي بموجبها عانت البلاد على مدار سنوات عديدة من أزمة اللاجئين وطالبي الهجرة، واحدة من بين أبرز وأهم الملفات التي توظفها المعارضة التركية في مواجهة أردوغان وحزبه الحاكم -خاصة في المعارك الانتخابية الرئاسية والبرلمانية- لجذب الأصوات المناهضة لسياسات الهجرة واللجوء والتجنيس، وذلك لما لها من تأثير كبير على الناخب التركي الذي يعاني جراء تلك السياسات من تحديات عديدة، أبرزها يتمثل في انخراط العديد من اللاجئين -خاصة السوريين باعتبارهم يمثلون النسبة الأكبر- في سوق العمل، ما ساهم في تأزم الأوضاع المالية والمعيشية للعديد من الأتراك -لاسيما الشباب- نتيجة نقص فرص العمل وانتشار البطالة، لصالح العمالة السورية ذات الأجور المنخفضة.
وانطلاقًا من هذا الأساس، تُمثل بوادر انفراجة أزمة ملف اللاجئين وتنامي إمكانية تأمين عودتهم إلى سوريا في ظل تطورات الوضع الراهن، فرصة كبيرة أمام أردوغان وحزبه الحاكم لاحتواء حالة الغضب الشعبي ومشاعر العداء المُتزايدة تجاه اللاجئين في تركيا، خاصة بعد أحداث 30 يونيو عام 2024، واندلاع احتجاجات مناهضة للاجئين في أعقاب حادثة التحرش بطفلة في مدينة قيصري، على يد لاجئ سوري. إذ باتت مسألة تأمين العودة الطوعية للاجئين السورين إلى بلادهم، من أهم محاور الخطاب التركي -الحالي- تجاه سوريا، ومن بين أبرز الملفات التي يتم البث فيها بين أردوغان ورئيس المرحلة الانتقالية في سوريا، أحمد الشرع. فوفقًا لتقديرات شهر يناير من العام 2025، أعلن وزير الداخلية التركي، علي يرلي قايا، أن أكثر من 50,000 لاجئ سوري تركيا قد غادروا للعودة إلى ديارهم منذ الإطاحة ببشار الأسد[3].
لكن الجدير بالذكر في هذا الشأن، أن حل أزمة ملف اللاجئين وشعور المواطن التركي بارتدادته الإيجابية ربما يحتاج إلى مدى زمني من متوسط إلى طويل، لاسيما أن الوضع الحالي في سوريا غير مستقر إلى درجة كبيرة، ما يعني أن عددًا كبيرًا من اللاجئين قد لا يتمكن، أو لا يرغب في العودة حتى يضمن استقرار الأوضاع، وإمكانية تأمين فرص العمل والحياة الآمنة. ففي استطلاع أجرته وكالة التخطيط في اسطنبول، سُئل المشاركون: "كم عدد اللاجئين السوريين الذين تعتقد أنهم سيعودون إلى بلادهم بعد تغيير النظام في سوريا؟" من بين المشاركين، اعتقد 47.8٪ أن جزءًا صغيرًا فقط من السوريين سيعودون إلى بلادهم، واعتقد 17.7٪ أن غالبية السوريين سيعودون، فيما اعتقد 20.7٪ أن نصف اللاجئين تقريبًا سيعودون[4]، ما يُشير إلى أن الأغلبية ترى أنه من غير المرجح أن يعود معظم السوريين إلى بلادهم على المدى القصير.
ضف إلى ذلك أنه من المُتوقع أن تمر تركيا بصدمة اقتصادية نتيجة مغادرة أعداد كبيرة من السوريين، الذين كانوا يعملون بأجور منخضفة -نسبيًا مقارنة بالأتراك- في العديد من المجالات الصناعية، خاصة النسيج والبناء. إلا أنه على المدى الطويل ستكون ارتدادات هذه الصدمة إيجابية اجتماعيًا واقتصاديًا، لاسيما بالنسبة لمعدلات البطالة، حيث ستُفسح مغادرة العمالة السورية المجال أمام الأتراك في سوق العمل، وستضمن لهم الحصول على أجور أعلى من تلك المطروحة في ظل وجود العمالة السورية منخفضة الأجر.
مطالب محفوفة بالعقبات
رغم الضغوطات التي تمارسها المعارضة لتبكير موعد الانتخابات الرئاسية وعقدها في نوفمبر من العام 2025، إلا أن هذا السيناريو يواجه العديد من العقبات على كافة المستويات القانونية، والسياسية، والأمنية، ما يجعل فرص تحقيقه ضعيفة. ويمكن تناول أبرز تلك العقبات على النحو التالي:
1- الوضع القانوني والدستوري: وفقًا لنص الدستور التركي، هناك طريقان لإجراء انتخابات رئاسية مُبكرة؛ الأول، عن طريق حصول المقترح على الأغلبية البرلمانية المطلوبة بموافقة 3 أخماس أعضاء البرلمان، أي ما يعادل 360 نائبًا من أصل 600، وهي الأغلبية التي لا يملكها أي حزب أو حتى تحالف في البرلمان. إذ يمتلك تحالف "الجمهور" 326 مقعدًا، بينما يمتلك تحالف "الأمة" 214 مقعدًا، أما تحالف "العمل والحرية" الكردي فيمتلك 66 مقعدًا. والثاني، يتمثل في دعوة رئيس الجمهورية لإجراء انتخابات مبكرة، لكن في هذه الحالة لا يحق له الترشح للمنصب، وهو الأمر المُستبعد لاسيما بعد تصريح المتحدث باسم حزب "العدالة والتنمية" عمر جليك بشأن تمهيد الطريق أمام أردوغان للترشح لولاية رئاسية رابعة، قائلاً: "إنه على جدول أعمالنا"[5].
إلا أن الجدير بالذكر في هذا الشأن، أن ترشح أردوغان لولاية رئاسية رابعة يشترط عقد الانتخابات قبل موعدها الرسمي المُقرر في مايو عام 2028، وفي هذه الحالة يجب أن تنعقد الانتخابات بآلية من اثنتين، إما الأغلبية البرلمانية التي سبق وأشرنا إليها، أو بموجب التعديل الدستوري -الذي يُطالب به أردوغان وتحالف الشعب- ويتضمن اقتصار الانتخابات الرئاسية على جولة واحدة بدلاً من جولتين، وإلغاء شرط الحصول على 50% +1 للفوز. إذ صرح دولت بهتشلي، زعيم حزب "الحركة القومية" والحليف الرئيسي لأردوغان، في 7 نوفمبر 2024، بأن "الدستور الجديد يهدف إلى إزالة العقبات أمام ترشح أردوغان لولاية جديدة"[6]، وهو الإجراء الذي ترفضه المعارضة، إلا إذا كان سينص على العودة للنظام البرلماني، باعتباره أكثر عدالة في ضمان توزيع السلطات، وعدم تمركزها في سلطة الرئيس.
واستنادًا إلى سابقة من هذا النوع، تم فيها إجراء تعديل دستوري عام 2017، بموجبه انتقلت البلاد إلى النظام الرئاسي وأجريت انتخابات مبكرة في عام 2018 بدلاً من موعدها الرسمي في عام 2019، فاز خلالها أردوغان بولاية ثانية، وأصبح من حقه الترشح لولاية ثالثة في عام 2023؛ لا يمكن استبعاد تكرار هذا السيناريو خلال ولاية أردوغان الحالية. خاصة في حال استطاع أردوغان احتواء المكون الكردي داخل البرلمان، بما يضمن له الحصول على الأغلبية البرلمانية المطلوبة سواء لتمرير مقترح إجراء الانتخابات قبل موعدها لضمان إمكانية ترشحه، أو لتمرير التعديلات الدستورية التي يستطيع بموجبها الترشح لولاية رئاسية رابعة.
2- موقف أردوغان الرافض: على الرغم من حاجة أردوغان لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة قبل مايو عام 2028 تضمن له الترشح لولاية رابعة، إلا أن مقترح المعارضة بإجراء الانتخابات خلال العام الجاري 2025 يعد طرحًا مرفوضًا بصورة تامة من جانب أردوغان وحزبه الحاكم. إذ جاءت تصريحات نائب رئيس حزب "العدالة والتنمية" مصطفى أليطاش، مُشيرة إلى وجود توجه داخل الحزب لتقديم موعد الانتخابات إلى أكتوبر أو نوفمبر من العام 2027، مُعتبرًا هذا الإجراء ليس تبكيرًا للانتخابات بالمعنى المُتعارف عليه. ويستند رفض أردوغان لمقترح المعارضة على عاملين رئيسيين:
أولاً، الخسارة الكبيرة التي شهدها حزب "العدالة والتنمية" خلال الانتخابات المحلية التي عُقدت في مارس عام 2024، والتي تمكنت خلالها أحزاب المعارضة من الفوز بغالبية البلديات الكبرى، إلى جانب عدد من الولايات التي كانت محسوبة تقليديًا على حزب "العدالة والتنمية". فضلاً عن فوز حزب "الرفاه" -الذي رفض الانخراط في تحالف الشعب بقيادة حزب "العدالة والتنمية"- منفردًا بـ 6.2% من مجموع الأصوات، وتفوقه على مرشحي حزب العدالة في بلدتين في جنوب ووسط تركيا، وهو ما عُد مؤشرًا على تراجع شعبية الحزب الحاكم خلال هذه المرحلة، وإمكانية حشد الشارع التركي لصالح المعارضة وباقي الأحزاب المنافسة.
ثانيًا، إن إجراء الانتخابات خلال العام الجاري 2025 في ظل ما تشهده البلاد من تحديات اقتصادية ومعيشية لن يضمن لأردوغان أو حزبه الحاكم جني أي مكاسب، خاصة أن الخطط والمشاريع المالية والاستثمارية، وفرص تحقيق تطور إيجابي في ملفي الأكراد واللاجئين وما له من ارتدادات على شعبية أردوغان، وعلى الاستقطابات الحزبية في الانتخابات القادمة؛ كل ذلك يتطلب مدى زمني طويلاً نسبيًا حتى تنعكس نتائجه في مؤشرات واضحة على تنامي الأداء الاقتصادي، وتحسن الأوضاع المعيشة، وانخفاض معدلات البطالة.
3- انقسامات المعارضة: أثارت دعوة أوزغور أوزال، يوم 28 يناير من العام الجاري 2025، لإجراء انتخابات تمهيدية داخل حزب "الشعب الجمهوري" للاختيار بين أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول، ومنصور ياواش، رئيس بلدية أنقرة، كمرشح الحزب للانتخابات الرئاسية المقبلة على أساس إمكانية انعقادها خلال العام الجاري؛ جدلاً واسعًا داخل الحزب ومخاوف من حدوث انقسامات في صفوف المعارضة تصب في صالح أردوغان وحزبه الحاكم.
فمن جانبه، اعترض منصور ياواش على أن يتم التصويت بين أعضاء الحزب لاختيار مرشح الرئاسة، بينما يتم انتخاب رئيس الدولة من قِبل 60 مليون ناخب، مُشيرًا إلى ترك مهمة اختيار مرشح الحزب للجهات المُختصة بذلك وليس لأصوات الأعضاء. وإلى جانب ذلك، اعتبر ياواش أن دخول الحزب في صراعات واستقطابات داخلية بشأن مرشحه للرئاسة في ظل وجود قضايا مهمة على أجندة البلاد، هو أمر غير مقبول، لاسيما أن الحديث عن تحديد مرشح الآن أمر سابق لأوانه، ومن شأنه استنزاف الاسم الذي سيتم إعلانه كمرشح.
وجاء موقف منصور ياواش مدعومًا من رئيس الحزب السابق، كمال كليتشدار أوغلو، الذي حذر من أن التركيز على مرشح الرئاسة الآن يُضعف المعارضة ويُشتتها عن هدفها الرئيسي المُتمثل في الضغط على الحكومة لإجراء انتخابات مبكرة. مؤكدًا على أن انشغال الحزب عن أولويات الناخب التركي بصراعاته الداخلية -في ظل الأزمات التي تمر بها البلاد وعلى رأسها الأزمة الاقتصادية- سيؤدي إلى تشويه صورة الحزب، وبالتالي منح خصومه فرصة لشن حملات تشويه يستفيد منها أردوغان وتحالفه الحاكم في الانتخابات القادمة.
4- الضغوط القضائية على المعارضة: كثفت الأجهزة الأمنية والقضائية -مؤخرًا- الضغوط التي تمارسها على العديد من القادة والشخصيات الإعلامية المعارضة البارزة في تركيا، فضلاً عن إقالة عدد من رؤساء البلديات التابعين لحزب "الشعب الجمهوري" في اسطنبول، وتحويلهم للتحقيق بتهم الفساد والإرهاب. ولا يمكن قراءة تلك الإجراءات بمعزل عن دلالات توقيتها ودوافعها، لاسيما أنها جاءت عقب مكاسب المعارضة في الانتخابات المحلية، وفي ظل مطالب المعارضة بشأن عقد انتخابات رئاسية مبكرة. حيث تتهم المعارضة الحكومة بـ "بتسيس القضاء" واستغلاله في مواجهة المعارضة والتأثير على تماسكها الداخلي، وتشويه سمعة قاداتها ومُرشحيها المُحتملين أمام الناخب التركي.
ولعل أبرز القضايا التي تُشعل صفوف المعارضة في الوقت الراهن، هي فتح التحقيق مع رئيس بلدية أنقرة، أكرم إمام أوغلو، المُرشح المُحتمل لحزب "الشعب الجمهوري" للانتخابات الرئاسية القادمة، وذلك بسبب انتقاده للتحقيقات التي تتم مع رؤساء البلديات الذين تم إقالتهم من مناصبهم، من ناحية. ومن ناحية أخرى، بسبب اتهام الحكومة باستخدام القضاء كأداة سياسية للضغط على المعارضة، وإقصاءه بصورة شخصية عن الانتخابات الرئاسية القادمة، لاسيما لما يتمتع به أوغلو من شعبية كبيرة، وكونه أقوى مرشح رئاسي منافس لأردوغان، وذلك في حال ترشح الأخير وفقًا للشروط والآليات القانونية والدستورية التي سبق الإشارة إليها.
فالجدير بالذكر، أن أكرم أوغلو ينتظر صدور حكم الاستئناف في القضية المعروفة بـ"قضية الأحمق". إذ تعود جذور القضية إلى عام 2019، عندما وصف أوغلو أعضاء المجلس الأعلى للانتخابات بـ "الحمقى" لإصدارهم قرارًا بإلغاء نتائج انتخابات البلدية في اسطنبول التي فاز بها في ذلك العام، ما أدى لصدور حكم ضده في 14 ديسمبر عام 2022، يقضي بسجنه لمدة عامين و7 أشهر و15 يومًا، بالإضافة إلى منعه من ممارسة العمل السياسي لمدة 4 سنوات. فمع بداية عام 2023، انتقلت القضية إلى محكمة الاستئناف للنظر في الحكم الصادر بحق أوغلو، ولا تزال حتى الآن قيد النظر.
ومع تواتر الأنباء عن اقتراب صدور الحكم النهائي، صرّح نائب رئيس الكتلة البرلمانية للحزب غوكان غونايدنن قائلاً: "إذا أيدت المحكمة الحكم سنقوم بحملة في جميع أنحاء الأناضول، وسنعمل على خلق حالة تفرض إجراء انتخابات دون انتظار الموعد المحدد في 2026 أو 2027". كما حذر أوغلو من خروج مظاهرات واسعة في حال صادقت محكمة الاستئناف على الحكم الصادر بحقه، قائلاً: "في حال قرر الاستئناف التأكيد على الحكم، فلن يبقى أولئك الذين في السلطة يومًا واحدًا، الناس سيخرجون إلى الشوارع ويعلنون العصيان"[7].
كما امتدت تحقيقات النيابة العامة إلى أوميت أوزداغ، زعيم حزب "النصر" القومي، الذي وُجهت له تهمة "إهانة الرئيس" بعد تصريحات أدلى بها يوم 19 يناير من العام 2025، وصف فيها سياسات أردوغان بأنها "ألحقت أضرارًا جسيمة بالأمة التركية". فضلاً عن اتهامه ببث الكراهية والعداوة المجتمعية والتحريض على العنف خلال سلسلة من المنشورات المناهضة للاجئين على وسائل التواصل الاجتماعي. وقد أثار القبض على أوزداغ موجه من الغضب في أوساط المعارضة التي اعتبرت هذا الإجراء جزءًا من سياسات القمع والتضييق التي تنتهجها الحكومة ضد التيارات المعارضة، لاسيما أن التيار القومي معروف بموقفه المعارض لسياسات الحكومة، لاسيما في ملفي الأكراد، اللائجين.
ختامًا، يمكن القول إن ضغوط المعارضة بشأن إجراء انتخابات مبكرة، جاءت مُترجمة لحالة القلق التي تعيشها المعارضة من تنامي شعبية أردوغان في الداخل التركي، خاصة مع الدور المحوري الذي باتت تمارسه تركيا في الساحة السورية كقوة إقليمية رئيسية، ووجود مؤشرات لحل العديد من الملفات الشائكة والخلافية، التي كثيرًا ما وظفتها المعارضة في حربها ضد الحكومة، وهو ما يدفع أردوغان وتحالفه الحاكم للتمسك برفض طرح الانتخابات المبكرة، لاسيما -أنه في المقابل- تتنامى فرص إضعاف المعارضة -على المدى الطويل- سواء من خلال حملات الاعتقال والتضييق السياسي والإعلامي التي تمارسها الدولة، أو من خلال الانقسامات والاستقطابات الداخلية بشأن تحديد مرشحها للرئاسة -خاصة في حال تأكيد الحكم الصادر بحق أكرم إمام أوغلو- وضرورة البحث عن مرشح آخر -إلى جانب منصور ياواش- لخوض الانتخابات القادمة.
[1] تركيا: الانتخابات المبكرة تشعل التراشق بين أردوغان والمعارضة، الشرق الأوسط، 3 فبراير، 2025، متاح على الرابط التالي: https://shorturl.re/7g5m2
[2] الحزب الكردي: أوجلان يوجه قريبًا خطابًا تاريخيًا، جريدة زمان التركية، 4 فبراير، 2025، متاح على الرابط التالي: https://shorturl.re/7g5m3
[3] تركيا: أكثر من 50 ألف سوري عادوا إلى بلادهم خلال شهر، العربية نت، 9 يناير، 2025، متاح على الرابط التالي: https://shorturl.re/7g5m4
[4] Most Istanbulites doubt Syrian refugee return after regime change: Survey, Turkiye today, 24 January, 2025, available at: https://shorturl.re/7g5m6
[5] العدالة والتنمية يعلق على إمكانية ترشح أردوغان لولاية رئاسية رابعة…ماذا قال ؟، تركيا الآن، 2 فبراير، 2025، متاح على الرابط التالي:
https://shorturl.re/7g5m7
[6] هل يترشح أردوغان لولاية جديدة متجاوزا العقبات الدستورية؟، تركيا الآن، 31 يناير، 2025، متاح على الرابط التالي: https://shorturl.re/7g5m8
[7] المعارضة التركية لاستحضار انتخابات مبكرة حال حظر إمام أوغلو سياسياً، الشرق الأوسط، 24 سبتمبر، 2024، متاح على الرابط التالي:
https://shorturl.re/7g5m9