سعيد عكاشة

خبير مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

بعد تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأن قطاع غزة يجب إفراغه من سكانه ونقلهم إلى مكان دائم، خطا الرئيس الأمريكي خطوة أبعد في سياسته المعروفة باسم سياسة "الضغط الأقصى"، والتي كان قد اتبعها لأول مرة ضد إيران في ولايته الأولى (2017-2021)، حيث صرح أثناء لقاءه برئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، في 4 فبراير 2025، قائلاً: "إذا استطعنا إيجاد منطقة مناسبة لإعادة توطين أهل غزة بشكل دائم في منازل جيدة سيكون ذلك أمراً رائعاً"!!

في بداية تصريحاته المثيرة للجدل والتي بدأ في إطلاقها قبل أقل من أسبوعين من لقاءه بنتنياهو، كان الحديث يدور عن نقل مليون ونصف المليون من سكان قطاع غزة إلى الأردن ومصر "بشكل مؤقت"، ليتحول حالياً للحديث عن إعادة توطين "دائم"، ويزعم أن مصر والأردن ودولاً أخرى ستكون "الوطن البديل" لسكان غزة، رغم الرد الحاسم من جانب كل الدول التي ذكرها صراحة، أو تلك التي تناولتها التقارير الإعلامية مثل ألبانيا وماليزيا، برفض واستهجان تلك التصريحات.

بهذه التصريحات يكون ترامب قد مد سياسة "الضغط الأقصى" التي يفترض أنها مخصصة للتعامل فقط مع الخصوم والدول المعادية للولايات المتحدة، لتصل إلى دول كانت الإدارات الأمريكية المتعاقبة تنظر إليها إما كدول حليفة، أو دول معتدلة لا تهدد المصالح الأمريكية. فما أسباب هذا التحول؟، وما هي تداعيات وفرص نجاح هذه السياسة في المدى المنظور؟

أسباب التحول

في ولايته الأولى، لم يتمكن ترامب من تحقيق الكثير من الوعود التي قطعها للناخبين، وهو ما توضحه الحقائق التالية:

1- لم يتمكن ترامب من فرض ما أسماه الإعلام الأمريكي بـ"صفقة القرن" التي طرحها عام 2020 لحل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، اعتماداً على سياسة منح الوعود والامتيازات للطرفين.

2- لم تنجح سياسته تجاه كوريا الشمالية لحثها على وقف تهديداتها النووية لجيرانها وحلفاء واشنطن في الوقت نفسه (كوريا الجنوبية، اليابان)، حيث قامت هذه السياسة على دبلوماسية الاحتواء عبر "مداهنة الخصوم" ومنحهم جوائز "كلامية" فقط.

3- بالرغم من نجاح ترامب في عقد أول اتفاقات السلام الإبراهيمي بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين في سبتمبر 2020، إلا أن هذا "الإنجاز" – وفقاً للرؤيتين الأمريكية والإسرائيلية - ظل منقوصاً، حيث أن الهدف الواضح لتلك الاتفاقات قد تمثل في فصل حل القضية الفلسطينية عن تحقيق التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل، ولكن حتى بعد دشين الاتفاقين المذكورين رسمياً، ظلت الإمارات والبحرين على مواقفهما من تأييد إقامة دولة فلسطينية، ورهن مزيد من التطور في علاقاتهما بإسرائيل بتطبيق حل الدولتين.

4- لم تنجح سياسته اللينة مع روسيا في ثنى الرئيس فيلاديمير بوتين عن تقليل اندفاعه لتهديد حلفاء واشنطن ومحاولة تحجيم حلف الناتو، وهو ما أدى عملياً لأن تبدأ روسيا في الاستعداد لغزو أوكرانيا والذي بدأ مباشرة بعد عام واحد من رحيل ترامب عن البيت الأبيض.

5- ربما أثر نجاح  سياسة "الضغط الأقصى" الإسرائيلية على محور إيران، على قرار ترامب بالدفع في اتجاه إطلاق طبعة جديدة من تلك السياسة، حيث افتقرت سياسة ترامب دوماً إلى استخدام التهديد بالتدخل العسكري في الدول المتمردة على السياسة الأمريكية، نظراً لعدم استعداد الرأي العام الأمريكي لإرسال جنود إلى الخارج بعد العديد من الخسائر والانتكاسات التي تكبدها الجيش الأمريكي في حروبه الخارجية تاريخياً، على العكس من نجاح إسرائيل في تقويض محور إيران بحروب مكثفة ومتعددة الجبهات.

وعلى الرغم من أن ترامب سيواصل، على الأرجح، سياسة الامتناع عن التدخل العسكري في الخارج، فإن سياسة "الضغط الأقصى" التي سيطبقها، ستعتمد على آليات أكثر تشدداً، وهذه المرة ضد الحلفاء والأصدقاء الذين يرى ترامب أنهم لا يدفعون ثمن الدعم السياسي والاقتصادي الذي تقدمه واشنطن لهم، وأن عليهم أن يساعدوا الولايات المتحدة على تحقيق أهدافها مقابل هذا الدعم.

وقد ظهرت معالم الطبعة الجديدة من سياسة "الضغط الأقصى" من خلال تهديداته بضم دول ومناطق عدة إلى الولايات المتحدة (كندا، جرين لاند، قناة بنما)، ومحاولة دفع الدول العربية الصديقة أو الحليفة لواشنطن للقبول بتهجير الفلسطينيين، وإصداره أمراً تنفيذياً باستئناف سياسة "الضغط الأقصى" ضد إيران، على أمل أن تقبل بالعودة عن محاولة امتلاك السلاح النووي، رغم أن هذه السياسة لم تنجح، بل وأدت عملياً إلى تسريع إيران لبرنامجها النووي أثناء وبعد انتهاء ولايته الأولى.

حدود سياسة "الضغط الأقصى" الجديدة

يعتقد ترامب أن التطورات في النظام الدولي تسير في صالح سياسة "الضغط الأقصى". فالمخاوف التقليدية من أن تؤدي مثل هذه السياسة إلى منح روسيا والصين الفرصة لإغراء الدول المُضارة منها، بالتحالف معهما وتشكيل جبهة عالمية لمواجهة السياسة الأمريكية..هذه المخاوف –كما يعتقد ترامب– ليست واقعية، فروسيا لن تحاول تحدي الولايات المتحدة في الشرق الأوسط طمعاً في أن يمنحها ترامب فرصة لتحقيق أغلب أهدافها في أوكرانيا، والصين التي تحاول الولايات المتحدة جرها لحرب تجارية واسعة، وربما أيضاً لنزاع عسكري في آسيا وخاصة في تايوان، من المتوقع ألا تحاول تعزيز وتقوية علاقاتها بالشرق الأوسط على حساب المصالح الأمريكية في هذه الفترة، إما لاضطرارها للتركيز على مواجهة السياسة الأمريكية العدائية ضدها في آسيا دون غيرها، وإما طمعاً في إمكانية فتح مسار تفاوضي يٰخفض من توتر العلاقات بين الجانبين مستقبلاً. وبناءً على ذلك – حسب تصور ترامب أيضاً– فإن الدول العربية التي كانت تستخدم علاقاتها بروسيا والصين لموازنة الضغوط الأمريكية ضدها، لن يكون أمامها فرصة لاتباع مثل هذه السياسة وستتجاوب في النهاية مع المطالب الأمريكية.

وكما هو واضح، فإن تخيلات ترامب عن الشرق الأوسط وما يمكن أن ينتظره من تطورات في المدى المنظور، لا تأخذ في اعتبارها أن حالة الفوضى والانفلات التي تهدد المصالح الأمريكية خاصة والأوروبية عامة، سوف تزداد مع ممارسة ضغوط ضد الدول التي يهددها ترامب بالعقوبات إذا لم تساعده على تحقيق سياسة الترانسفير للفلسطينيين، حيث ما يزال الرأي العام في معظم الدول العربية متعاطفاً مع حق الشعب الفلسطيني في نيل حقوقه، وما يزال الحاجز المرتفع ضد التطبيع الشعبي مع إسرائيل على حاله، إن لم يكن قد ارتفع أكثر بعد الكارثة الإنسانية التي يعيشها الفلسطينيون في غزة والضفة الغربية المحتلة، وهو ما يعني أن محاولة دفع بعض الدول العربية للمشاركة في مخطط التهجير ستقود حتماً إلى توترات داخلية كبيرة فيها، وهو ما سيرتب عملياً امتناع أغلبها عن الاستجابة للسياسة الأمريكية.

 بالإضافة إلى ذلك، فإن من شأن الدفع بمخطط التهجير أن يزيد من حالة الغضب الشعبي ضد السياسة الأمريكية بما سترتفع معه مخاطر الإرهاب ضد المواطنين والمصالح الأمريكية على حد سواء، في وقت يزعم فيه ترامب أن أولوية إدارته هي استعادة الهيبة الأمريكية، دون التحسب لحقيقة أن الهيبة الأمريكية ليست مرتبطة فقط باستجابة الدول لمطالبها، بل بقدرتها على ردع كافة الخصوم بما في ذلك التنظيمات الإرهابية، التي تخدمها السياسات التي تتسبب في إضعاف الدول. وبمعنى آخر، سيتعين على إدارة ترامب أن تفكر كثيراً قبل التمادي في السياسة التي تتبعها مع بعض الدول الصديقة والحليفة لها.

على جانب آخر، فإن نتنياهو، الذي يرى أغلب المحللين الأمريكيين وحتى الإسرائيليين، أنه كان وراء إقناع ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران عام 2018، يحاول هذه المرة إقناع ترامب بتبني عملية تهجير الفلسطينيين خارج الضفة وغزة كحل نهائي للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، دون النظر لحقيقة أن ما دفع حماس وحلفائها إلى شن هجوم السابع من أكتوبر كان –في قسم منه- محاولة لإفساد المسار الذي اختاره ترامب للضغط على الفلسطينيين عبر فصل التطبيع بين إسرائيل وعدد من الدول العربية عن حل القضية الفلسطينية.

أيضاً، ستؤدي اقتراحات ترامب بتهجير الفلسطينيين إلى ردود فعل غير محددة، خاصة وأن خطة إعادة توطين الفلسطينيين في عدة دول ربما لن تكون ناجحة بشكل تام لإسقاط حق الفلسطينيين في تأسيس دولتهم.

سوريا وتركيا في إطار مشروع ترامب

يبدو الخطر الأكبر والذي قد يهدد بمزيد من الفوضى في الشرق الأوسط، أن ترامب ربما يمهد لإقامة دولة فلسطينية خارج الضفة وغزة، وربما يفكر في أن سوريا ستكون المكان المناسب لتهجير الفلسطينيين إليها كمرحلة أوّلية، يتلوها تجميعهم في منطقة واحدة – ربما تكون في الشمال بالقرب من الحدود التركية وفي المناطق التي تحتلها تركيا في سوريا، وإنشاء دولة للفلسطينيين عليها. وربما يعزز هذا الاحتمال العناصر التالية:

1- التأثير المباشر للدراسات الاستشراقية التي ترى في منطقة الشام (التي ضمت الأردن وسوريا ولبنان وفلسطين قبل الحرب العالمية الأولى) أنها منطقة ذات هويات قومية هشة يمكن تحقيق تطلعات سكانها في دول مستقلة حالياً؛ بالأسلوب نفسه الذي تم إتباعه بعد الحرب العالمية الأولى والتي أدت إلى تقسيم الشام لأربع دول لاحقاً، وهو ما يمكن إعادة رسمه مجدداً – وفقاً لهذا التصور - بوضع الدولة الفلسطينية بعيداً عن إسرائيل!!

2- إن تركيا قد لا تمانع في تهجير الفلسطينيين إلى الأراضي التي تحتلها في سوريا طالما يمكنها أن تحصل مقابل ذلك على استثمارات ضخمة تنقذ اقتصادها الذي يعاني من أزمة قوية منذ سنوات. كذلك يمكن لتركيا أن تحصل على تعهد أمريكي بعدم السماح لأكراد سوريا بإعلان دولة لهم؛ وأيضاً منعهم من تهديد الأراضي التركية مستقبلاً.

3- يأمل ترامب ومعه نتنياهو في أن الفلسطينيين المحاصرين في قطاع غزة لن يستطيعوا مقاومة سيناريو الترحيل لفترة طويلة؛ وأن الوضع السيئ الذي سيعيشونه نتيجة قلة المساعدات الغذائية والطبية واحتمال تفجر الحرب مجدداً ربما يدفع أغلبهم للقبول بفكرة التهجير.

4- في حالة قبول أعداد كبيرة من الفلسطينيين للذهاب إلى سوريا للإقامة هناك مؤقتاً أو بشكل دائم كما قد يقترح ترامب، فإن الاستراتيجية المقبلة بعد قطع شوط طويل من عملية التهجير هي البدء بتنفيذ خطة أخرى لإعلان الدولة الفلسطينية في المناطق التي يعيشون فيها داخل سوريا.

قد يبدو هذا المخطط مجرد خيال جامح من جانب ترامب ونتنياهو؛ غير أن محاولة تحقيقه ربما تتم رغم الصعوبات المنتظرة والثمن الهائل للفوضى وعدم الاستقرار اللذين ستخلقهما تلك المحاولة لسنوات طويلة قادمة.