تشير الضربات الجوية الأمريكية التي انطلقت في 1 فبراير الجاري (2025) من حاملة الطائرات الأمريكية هاري ترومان المتمركزة في البحر الأحمر، والتي استهدفت بالأساس نحو 10 مواقع لمقاتلي تنظيم داعش في منطقة "كال ميسكاد" ضمن سلسلة جبال "جوليس" بولاية بونت لاند الواقعة في شمال شرق الصومال، إلى احتمال حدوث تحول جوهري في سياسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه أفريقيا مع بداية ولايته الثانية التي تستمر لمدة أربع سنوات قادمة حتى عام 2029.
وبالرغم من أن تلك الغارات الجوية ليست جديدة، كونها تقع ضمن إجراءات مكافحة الإرهاب التي تتبناها واشنطن تجاه التهديدات الأمنية في شرق أفريقيا، وعلى إثرها نفذت القوات الأمريكية العديد من تلك الضربات التي تستهدف حركة الشباب المجاهدين وتنظيم داعش في ظل حكومات أمريكية متعاقبة، إلا أن قرار الرئيس ترامب بشن أول عملية عسكرية منذ توليه المنصب في 20 يناير 2025 لاستهداف داعش في الصومال، والتي تعد أول ضربة عسكرية أمريكية منذ مطلع العام الجديد 2025،إنما يعكس العديد من الدلالات التي من شأنها قد يتخلى ترامب عن بعض سياساته السابقة خلال فترة الولاية الأولى (2017- 2020) بما في ذلك سحب القوات الأمريكية من المناطق الساخنة في قارة أفريقيا على غرار قراره في عام 2020 بسحب أكثر من 1500 جندي أمريكي من الصومال قبل أن يتراجع الرئيس السابق جو بايدن عن هذا القرار في عام 2021.
وقد يعزز هذا الطرح حجم التغيرات الاستراتيجية التي طرأت على المشهدين العالمي والأفريقي خلال السنوات الأربع الماضية التي دفعت ترامب لتبني بعض الأهداف التي يسعى من خلالها لحماية المصالح الأمريكية في مناطق النفوذ الاستراتيجية بما في ذلك أفريقيا. ويأتي على رأسها؛ التصدي للنفوذين الصيني والروسي في الساحة الأفريقية، لا سيما في ظل تركيز موسكو على العامل الأمني بهدف تعزيز نفوذها وحضورها في مناطق استراتيجية بالقارة لا سيما في الساحل وغرب أفريقيا. إضافة إلى توطيد الحضور الصيني في شرق أفريقيا، بما يهدد المصالح الأمريكية سواء في إقليم البحر الأحمر الذي يشهد تطورات عملياتية خطيرة من شأنها تهديد الأمن والسلم الدوليين وكذلك بعض مناطق الجوار الاستراتيجي مثل المحيط الهندي والخليج العربي.
كما تطرح هذه الخطوة الأمريكية بعض التساؤلات حول طبيعة وشكل العلاقة بين واشنطن ومقديشو خلال الفترة المقبلة، لا سيما أن الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود قد رحب بالضربات الأمريكية ضد عناصر داعش في إطار المساعي للقضاء على التهديدات الإرهابية في أنحاء الصومال. في حين تتزايد المخاوف لدى النخبة الحاكمة الصومالية من أطروحات بعض مساعدي ترامب خلال حملته الانتخابية بشأن الاعتراف باستقلال إقليم "أرض الصومال" خلال الفترة المقبلة، وهو ما ترفضه بشدة الحكومة الفيدرالية الصومالية باعتباره انتهاكاً صارخاً للسيادة الصومالية على كامل ترابها الوطني. وبالتالي، يبقى تساؤل آخر مطروحاً في هذا الصدد حول احتمال دفع التحركات الأمريكية الأخيرة نحو بداية علاقة استراتيجية بين الصومال والولايات المتحدة خلال ولاية ترامب، بما يعني ترحيل ملف الاعتراف بإقليم "أرض الصومال" من جانب واشنطن أو التغاضي عنه في سبيل تطوير العلاقات مع مقديشو.
تطور استراتيجي لافت
يمكن النظر للهجوم الأمريكي ضد عناصر تنظيم داعش في ولاية بونت لاند الصومالية باعتباره خطوة نوعية بالنسبة لإدارة الرئيس ترامب، فهي جاءت بخلاف كل التوقعات التي بررتها الرؤية الترامبية خلال الحملة الانتخابية الأخيرة والتي بات يُنظر إليها على أنها امتداد لسياسات الولاية الأولى لترامب قبل ثمانية أعوام. والتي ترتكز بالأساس على العزلة الأمريكية والانسحاب الأمريكي من معظم الملفات والقضايا الشائكة في المناطق الاستراتيجية بما في ذلك ملف مكافحة الإرهاب في أفريقيا، وهو ما يتماشى مع مبدأ ترامب "أمريكا أولاً"، خاصة أن ترامب قد أوقف في عام 2020 جميع العمليات العسكرية التي تنفذها القيادة الأمريكية في أفريقيا "أفريكوم"، ما دفع العديد من التحليلات إلى القول إنه سينهي الحرب الأمريكية على الإرهاب عند توليه منصبة في الولاية الثانية الراهنة في أفريقيا.
إلا أن الخطاب الأمريكي عقب الهجمات الجوية في بونت لاند، ربما يشير إلى ثمة تحولات جوهرية في سياسة ترامب، حيث برر اللجوء لتلك الضربات بالدفاع عن المصالح الأمريكية ومصالح حلفائها ضد أعدائهما، وهو ما قد يعني استمرار ترامب في مواصلة الحرب على الإرهاب عبر توظيف "أفريكوم" في شن العمليات العسكرية ضد مهددات المصالح الأمريكية في جميع أنحاء القارة. ويعزز هذا الطرح أن هذه الضربات الجوية لم تكن الوحيدة التي شنتها واشنطن منذ تولي ترامب السلطة، فقد سبقتها غارات جوية وقعت في شمال غرب سوريا في 31 يناير الماضي مستهدفة عناصر من تنظيم حراس الدين التابع لتنظيم القاعدة.
ومع ذلك، تظل هذه الخطوة مجرد مؤشر أوّلي قد تعززه خطوات جديدة تتخذها إدارة ترامب في إدارة سياساتها الأمنية في الساحة الأفريقية، خاصة مع اندلاع بعض الصراعات والتوترات في عدد من المناطق مثل الصراع بين الكونغو الديمقراطية ورواندا على خلفية الاتهامات المتبادلة برعاية بعض الحركات المسلحة المتمردة في شرق الكونغو الديمقراطية. إلى جانب حالة الفراغ الاستراتيجي التي خلفها الانسحاب الغربي والأمريكي في منطقة الساحل عقب الإخفاقات الفرنسية التي أعقبها انسحاب القوات الفرنسية والأمريكية من معظم قواعدها في بعض دول المنطقة مثل النيجر وتشاد ومالي.
حسابات متباينة
تبدو التفاعلات الجيوسياسية على الساحة الأفريقية في الوقت الراهن مغايرة بشكل ملحوظ لما كانت عليه خلال فترة ترامب الأولى، فقد أدى التراجع الأمريكي الذي بدت ملامحه واضحة في حقبة ترامب (2017- 2020) والذي استمر خلال ولاية الرئيس جو بايدن إلى فراغ استراتيجي استغلته بعض الأطراف الدولية الفاعلة الأخرى وعلى رأسها الصين وروسيا اللتين يتصاعد نفوذهما بشكلٍ جليٍّ خلال السنوات الأخيرة، وهو ما يعزز المخاوف لدى واشنطن بشأن تهديد مصالحها الحيوية في القارة.
ومع الصعود الثاني لترامب للسلطة في البيت الأبيض، يبدو أنه أضحى أكثر إدراكاً للأهمية الجيوستراتيجية التي تحظى بها قارة أفريقيا، وبخاصة في معادلة الثروات المعدنية والموارد، لا سيما أن ملامح سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة ترامب يبدو أنها تنطلق من كونها "تاجراً" يتمتع بدرجة عالية من البرجماتية لكي تمكّنَه من منافسة خصومه الاستراتيجيين للاستيلاء على أكبر قدر من الثروات والموارد الأفريقية في ظل تصاعد التنافس الدولي على الصناعات المتقدمة التي تعتمد بشكل أساسي على موارد ومعادن أفريقيا مثل الليثيوم واليورانيوم وغيرهما.
وقد يدفع ذلك الرئيس ترامب إلى تبني استراتيجية جديدة تجاه أفريقيا تنطلق من تعزيز الحضور الأمني للولايات المتحدة في مناطق الصراعات والنزاعات المزمنة -وإن كانت هذه سياسة تقليدية أمريكية في ظل الحكومات المتعاقبة- وذلك لتحقيق العديد من المزايا الاستراتيجية لواشنطن على حساب منافسيها الاستراتيجيين في القارة، وذلك بخلاف توجهاته في الولاية الأولى.
ويُمكن اعتبار الخطوة الأمريكية الأخيرة في الصومال بمثابة فرصة للرئيس ترامب من خلال تقديم نفسه للداخل الأمريكي وكذلك الخارج بأنه مغاير تماماً لسلفه بايدن فيما يتعلق بسرعة اتخاذ القرارات وتنفيذها، لا سيما أن ترامب قد اتهم بايدن بالبطء في اتخاذ إجراءات ضد التنظيمات الإرهابية، وذلك في رسالة واضحة للداخل الأمريكي بأنه قادر على الحفاظ على أمن الولايات المتحدة ومصالحها الاستراتيجية. كما أنها تعد بمثابة مغازلة للقادة الأفارقة التي تعاني بلادهم من تصاعد نشاط الإرهاب، بأن واشنطن قادرة على تعزيز قدراتهم العسكرية والمساهمة في القضاء على التهديدات الإرهابية. وذلك في محاولة لإحراج روسيا التي تواجه بعض التحديات عبر وكيلها الأمني في أفريقيا "فيلق أفريقيا" الذي أضحى متورطاً في العديد من مناطق الصراعات الأفريقية دون نتائج إيجابية واضحة، بما قد يهز صورة موسكو لدى الرأي العام الأفريقي، ويعزز مخاوف النخب الحاكمة الأفريقية من مخاطر الانفلات الأمني في بلادهم.
كما يكشف ترامب من خلال قراره بالهجوم على تنظيم داعش عن بعض ملامح سياسته التي يبدو أنها سترتكز على ملاحقة تنظيمي داعش والقاعدة خلال الفترة المقبلة. فقد استهدفت الضربات الجوية الأخيرة التأثير على قدرة داعش فيما يتعلق بالتخطيط وتنفيذ هجمات إرهابية تهدد مصالح واشنطن في المنطقة، لا سيما أن الصومال قد أضحى ملاذاً لمكتب الكرار Al-Karrar وهو أحد المكاتب الإقليمية التسعة التي أسسها داعش للمساعدة في دعم قدرات التنظيم. بحيث أصبح فرع داعش في الصومال بمثابة بؤرة رئيسية في الشبكة المالية لتنظيم داعش العالمي، حيث يقوم بتوجيه الأموال إلى الشركات التابعة له في أفغانستان ومناطق أخرى في أفريقيا بما في ذلك الساحل وغرب أفريقيا ووسطها.
كما تتخوف واشنطن من تمدد تنظيم داعش إلى بعض مناطق الجوار الاستراتيجي مثل البحر الأحمر، لا سيما أن هناك تقارير تشير إلى علاقات تربط التنظيمات الإرهابية في الصومال بنظيراتها في اليمن لا سيما جماعة الحوثي اليمنية التي تعتبرها واشنطن تنظيماً إرهابياً، الأمر الذي قد يهدد الملاحة البحرية الدولية في البحر الأحمر، وانعكاسات ذلك على المصالح الأمريكية لا سيما حركة النفط الدولية عبر مضيق باب المندب الذي ربما يصبح هدفاً مستباحاً من قبل تنظيم داعش مستقبلاً.
وفي السياق ذاته، تبدو رسالة واشنطن واضحة بالنسبة لبعض الفاعلين من غير الدول في المنطقة لا سيما جماعة الحوثي اليمنية المدعومة إيرانياً، بأنها ليست ببعيدة عن الاستهداف الأمريكي، خاصة أنها تشكل تهديداً أمنياً واسعاً عقب قيامها بشنِّ هجمات منذ أكتوبر 2023 ضد إسرائيل على خلفية عدوان الأخيرة على قطاع غزة. وتبدو المساعي الأمريكية واضحة في محاولة تجفيف منابع التمويل للحركات والتنظيمات الإرهابية في أفريقيا عبر بوابة الصومال. ويأتي ذلك في ضوء التقارير الدولية التي تشير إلى أن تنظيم داعش أضحى أكثر نفوذاً في الصومال تحت قيادة زعيمه عبد القادر مؤمن -القيادي السابق بحركة الشباب المجاهدين- الذي يُعتقد أنه يشرف على فروع تنظيم داعش في أفريقيا، بما يعكس شخصيته المحورية بالنسبة لبقاء التنظيم.
في حين تحذر تقارير استخباراتية من أن حجم داعش في الصومال قد تضاعف أكثر من مرتين خلال عام 2024، وربما يصل عدد مقاتليه في الوقت الراهن إلى نحو 1600 مقاتل، منهم مقاتلين أجانب من جنسيات مختلفة بما في ذلك إثيوبيا والسودان وتنزانيا واليمن وسوريا والمغرب. بينما تشير تقارير أخرى إلى أن عدد مقاتلي داعش يتراوح بين 300 مقاتل و700 مقاتل نصفهم من المقاتلين الأجانب.
وعلى الجانب الآخر، قد تضفي التحركات الأمريكية الأخيرة في الصومال بعض الطمأنينة لدى النظام الحاكم الصومالي بقيادة الرئيس حسن شيخ محمود، في ظل استمرار الترقب لموقف إدارة ترامب من ملف إقليم "أرض الصومال"، لا سيما أن العديد من التقارير قد أشارت إلى أن ترامب في أواخر عهدته الرئاسية الأولى كان على وشك أن يصدر قراراً بالاعتراف بـ"أرض الصومال" كدولة مستقلة. وقد أُعيد هذا الطرح مجدداً من قبل مساعدي إدارته الجديدة، في ضوء المزاعم باحتمال بحث واشنطن عن رقعة استراتيجية جديدة -إقليم "أرض الصومال"- لنقل القاعدة العسكرية الأمريكية الموجودة في جيبوتي لتفادي أي احتكاكات مع القاعدة العسكرية الصينيةالمتمركزة بالقرب منها هناك.
وبالتالي، قد تتبنى الإدارة الأمريكية نهجاً استراتيجياً جديداً مع الحكومة الصومالية على خلاف الانسحاب الأمريكي العسكري في عام 2020، وهو ما قد يدفع إدارة ترامب لعدم المضي قدماً نحو الضغط على مقديشو للقبول بمسألة الاعتراف الأمريكي المحتمل بانفصال إقليم "أرض الصومال". في ضوء المخاوف من توترات متصاعدة في منطقة القرن الأفريقي ربما تؤدي إلى مزيد من زعزعة الأمن والاستقرار الإقليمي، لتتحول إلى ساحة صراعات إقليمية ودولية تهدد بالطبع المصالح الدولية لا سيما الأمريكية هناك.
وفي الداخل الصومالي، قد يمثل استمرار الدعم الأمريكي العسكري للجيش الصومالي في مواجهة التهديدات الأمنية وتصاعد نشاط الإرهاب من قبل تنظيمي داعش والشباب المجاهدين، دافعاً إيجابياً لدى القوات الصومالية بمواصلة العمليات العسكرية الشاملة الهادفة إلى القضاء على التنظيمات الإرهابية في الداخل الصومالي، واحتواء مخاطرها وتهديداتها المحتملة على المستويين الداخلي والإقليمي. كما أن ذلك قد يعزز عمل بعثة الاتحاد الأفريقي الجديدة في الصومال "أوصوم"، بما يشكل تحالفاً قوياً -غير رسمي- لمواجهة الإرهاب في الصومال في سبيل القضاء على التهديدات الإرهابية هناك.
إجمالاً، من المبكر الحكم على توجهات سياسة ترامب الخارجية تجاه قارة أفريقيا، وإن كان لا يمكن التغاضي عن الضربات الجوية الأخيرة في ولاية بونت لاند شمالي شرقي الصومال باعتبارها مؤشراً قوياً لاحتمال حدوث تحول نوعي في السياسة الأمريكية تحت إدارة ترامب تجاه القارة، وخاصة على المستوى الأمني فيما يتعلق بمواجهة الإرهاب.
ورغم أن التحركات الأمريكية قد تسهم في بناء علاقات استراتيجية مع النظام الصومالي الحاكم، إلا أن مسألة الاعتراف الأمريكي بإقليم "أرض الصومال" ستظل نقطة فارقة ربما يتوقف عليها مستقبل العلاقات الأمريكية الصومالية خلال الفترة المقبلة، في ظل عدم نفي إدارة ترامب المزاعم العديدة التي طرحها بعض مساعدي الرئيس الأمريكي في هذا الصدد.
لكن من الواضح أن سياسة ترامب خلال ولايته الثانية ستكون أكثر برجماتية في أفريقيا عما كانت عليه في الولاية الأولى، خاصة في مسألة الاستيلاء على الثروات والموارد الأفريقية، والتي أشار إليها "المشروع 2025" الذي يعبر عن رؤية ترامب للعالم، الأمر الذي قد ينذر بمواجهة أمريكية مع خصومها الاستراتيجيين وتحديداً الصين وروسيا، ومحاولة واشنطن عرقلة تحركاتهما في الساحة الأفريقية. ومن غير المستبعد في سبيل تحقيق ذلك أن يضغط ترامب لدرجة تصل إلى تهديد القادة الأفارقة خلال الفترة المقبلة، بما قد يعصف بالعلاقات الأمريكية الأفريقية خلال المرحلة المقبلة.