فى التاسع والعشرين من يناير 2025، وخلال فعاليات "مؤتمر إعلان انتصار الثورة" فى سوريا، أعلنت فصائل إدارة العمليات العسكرية عن تنصيب أحمد الشرع - رئيس القيادة العامة العسكرية - رئيساً للدولة السورية ويتولى مهمة تمثيلها فى المحافل الدولية. القرار تلاه عدة قرارات مهمة شكلت ملامح مرحلة انتقالية جديدة مختلفة إلى حد ما عن المرحلة الانتقالية خلال الشهرين الماضيين؛ وهى المرحلة التى تلت الإعلان عن سقوط نظام بشار الأسد فى 8 ديسمبر 2024. القرارات الصادرة تضمنت إلغاء العمل بدستور عام 2012، وحل مجلس الشعب ولجانه المختلفة، وحل الجيش وإعادة بناؤه على أسس وطنية، وحل كافة الأجهزة الأمنية والمليشيات التى شكلها النظام السابق، بالإضافة إلى حل جميع الفصائل العسكرية والمدنية ودمجها فى مؤسسات الدولة، مع حل حزب البعث وكافة الأحزاب ولجانها ومؤسساتها.
وفى السياق نفسه، منحت فصائل إدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع تفويضاً لتشكيل "هيئة تشريعية مؤقتة" إلى حين صياغة دستور جديد. وقد أعلن الشرع فى خطاب التنصيب أن عنوان المرحلة الجديدة هو "البناء والتطوير"، وأن هدفها هو "بنية اقتصادية تنموية"، وأنه سيسعى إلى تشكيل "حكومة انتقالية شاملة" تعبر عن تنوع المجتمع السورى، وأن مسار سوريا إقليمياً ودولياً يقوم على انتهاج سياسة خارجية "متعددة الأطر" تؤسس على التعاون والشركات الاستراتيجية.
ورغم وجاهة الأهداف والقرارات المعلن عنها، إلا أن خطوة تنصيب الشرع رئيساً انتقالياً أثارت نوعاً من الجدل بشأن مدى قانونيتها، خاصة وأنها لم تأت عبر عملية حوار وطنى شامل، وتم اتخاذ القرار بمعزل عن التشاور مع القوى السياسية الأخرى التي شاركت في الإطاحة بنظام الأسد، ما يفتح المجال أمام غياب متطلبات "التوافق الوطنى" التى تحتاجها عملية الانتقال السياسى.
أولويات المرحلة الانتقالية
أعلن الشرع من موقعه كقائد للإدارة السورية الجديدة خلال الفترة (8 ديسمبر 2024- 27 يناير 2025) أن هدفه هو "الحفاظ على مؤسسات الدولة وأنه ليس بصدد حلها". هذه المنطلقات تغيرت مع تنصيبه من قبل فصائل إدارة العمليات العسكرية كرئيس انتقالى فى 29 يناير المذكور، حيث اتخذ القرارات السابق الإشارة إليها، والتى تعكس نوعاً من النكوص عن التزامات سبق وأن أعلن عنها فور إزاحة نظام الأسد، الأمر الذى يدفع للتساؤل حول الأسباب، وما إذا كان هذا يعبر عن بدء مسار من الانفراد بالسلطة، لاسيما وأن حل المجلس النيابى ولجانه وإعطائه حق تشكيل هيئة تشريعية مؤقتة من شأنه التعبير عن نوع من تركيز السلطات فى شخص واحد، أم أن ثمة "ضرورات" عكسها واقع تجربة الإدارة المؤقتة خلال الشهرين الماضيين أدت إلى اتخاذ مثل هذه الخطوات؟. برر الشرع القرارات المتعلقة بحل مجلس الشعب والجيش والمؤسسات الأمنية وأجهزتها والأحزاب السياسية ولجانها بأنها ضرورة تفرضها متطلبات مرحلة الانتقال الجديدة؛ وتحديداً ذكر أن هذه المتطلبات هى: ملء فراغ السلطة، والحفاظ على حالة السلم الأهلى، وإعادة بناء مؤسسات أمنية وطنية بديلاً لمنظومات ومليشيات الجيش السوري، والمضى قدماً فى مسار تنموى يبدأ من خطط إعادة الإعمار.
تبدو هذه المتطلبات فى سياقها العام مقبولة؛ حيث تأتى أهمية متطلب "ملء فراغ السلطة" كما يُشار إليه لاسيما منصب رأس الدولة كسبب قد يكون له ما يبرره باعتباره ضرورياً لاستقبال رؤساء الدول والبعثات الدبلوماسية ورؤساء الحكومات، وهى خطوة عملية فرضتها حالة الانفتاح التى أبدتها عدة دول على الإدارة السورية الجديدة، لاسيما تركيا وقطر والسعودية والبحرين والإمارات، فضلاً عن عدد من الدول الأوروبية، حتى بعض الدول الإقليمية القلقة مثل الأردن والعراق أبدت قدراً من الانفتاح "المحسوب" مع الوضع الجديد فى سوريا عبر وزارة الخارجية، يضاف إلى ذلك المفاوضات الجارية مع روسيا حول مستقبل القواعد العسكرية فى سوريا بعد إلغاء دمشق عقود التعاون العسكرى بشأن بعضها، ومن ثم ربما فرض هذا الحراك الدبلوماسى على الإدارة السورية الجديدة ضرورة وجود قيادة رسمية لديها تفويض بتمثيل الدولة السورية أمام المبعوثين والوفود الدبلوماسية من ناحية، وفى الخارج من ناحية ثانية، وهو ما حدث فعلياً فور الإعلان عن الشرع رئيساً انتقالياً لسوريا، حيث زار أمير دولة قطر دمشق والتقى بالشرع، كما من المحتمل أن يقوم الرئيس التركى بزيارة مماثلة، ومن الممكن أن نشهد زيارات خارجية سيقوم بها الشرع لبعض الدول خلال المرحلة المقبلة.
الأمر نفسه بالنسبة لمتطلبات "الحفاظ على حالة السلم الأهلى"، و"إعادة بناء مؤسسات أمنية وطنية" لاسيما وأن تحقيق التماسك الداخلى بين مجموع الشعب السورى المتنوع الأعراق والانتماءات المذهبية، فضلاً عن التحديات التى فرضتها تجاوزات أمنية من قبل فلول النظام السورى السابق فى بعض المدن كاللاذقية وحمص خلال يناير المنصرم، فرضت ضرورة حل الأجهزة الأمنية الموجودة واستبدالها بأخرى خالية من عناصر أمنية خدمت أمن النظام القديم على حساب أمن المجتمع وفئاته، وقطعاً للطريق على محاولات قيل أنها رُصدت من قبل بعض الرتب الأمنية والعسكرية التابعة للنظام القديم لتأليب الأوضاع فى عدد من المدن ضد الإدارة الجديدة.
أيضاً حل الأحزاب؛ حزب البعث والأحزاب التقدمية ولجانها ومؤسساتها، وكذلك حل المؤسسة التشريعية، حيث أعلن الشرع عن بدء مسار جديد يتمثل فى الإعداد لمؤتمر "الحوار الوطنى" عبر تشكيل اللجنة التحضيرية التى ستتولى الدعوة للمؤتمر، وتكون مهمته مناقشة البرنامج السياسى للمرحلة الانتقالية والإعداد لكتابة الدستور الجديد، الذى سيحدد شكل الدولة ونظامها السياسى، وإجراء الانتخابات.
ويأتى فى السياق نفسه المتطلب الاقتصادى والمرتبط برفع العقوبات وإعادة الإعمار؛ لاسيما وأن أوروبا والولايات المتحدة اتخذت بعض الخطوات الإيجابية فى شأن الرفع الجزئى للعقوبات مع توسيع دائرة الدول المستثناة؛ أى التى تستطيع التعامل المالى والتجارى مع سوريا الجديدة دون أن تشملها العقوبات. وتعد خطوة رفع العقوبات ولو جزئياً خطوة مهمة لتأثيرها على المسار الاقتصادى من ناحية، وعلى مسار السماح للمجتمع الدولى بالانفتاح على سوريا والاستثمار فى مجالات البنية التحتية وفقاً لمسار إعادة الإعمار من ناحية ثانية.
دلالات مهمة
المتطلبات السابق عرضها فى إطار كونها أسباباً ربما دفعت فصائل إدارة العمليات العسكرية إلى تفويض أحمد الشرع لتولى مهام رئيس الدولة وتمثيلها فى الخارج، عكست عدة دلالات منها:
1- الحصول على الشرعية: تطورات الشهرين الماضيين منذ سقوط نظام الأسد وما تلاها من انفتاح دبلوماسى خارجى على الإدارة الجديدة فى سوريا – كما سبقت الإشارة- تتطلب وجود ممثل رسمى للدولة فى موقع القيادة يتولى مهمة "اتخاذ القرار". وهذا يتطلب حصوله على نوع من "الشرعية" والأخيرة تتحقق إما عبر ناتج عملية انتخابية، أو من خلال تفويض شعبى شامل. وكلا الأمرين غائب فى الحالة السورية الجديدة، ومن ثم كان اللجوء لما يمكن تسميته بخيار "التفويض الذاتى" وهو التفويض الذى حصل عليه الشرع من خلال فصائل القيادة العليا العسكرية -التى تمثل ظهيراً داعماً له- ولم يحصل عليه من جانب الشعب السورى عبر استفتاء شعبى مثلاً، لاسيما وأن الشرع صرح بأن الإعداد للدستور والوصول إلى مرحلة الانتخابات سيستغرق 4 أعوام، بمعنى أنه منح نفسه قيادة مرحلة انتقالية مدتها 4 سنوات كاملة. أيضاً ثمة رأى يقول أنه لا يجوز قانوناً أن يُمنح الشرع منصب الرئاسة فى ظل عدم وجود "مجلس حكم انتقالى" – وفقاً لمرجعية جنيف الأممية الخاصة بالحالة السورية – ومن ثم فإن أنصار هذا الرأى يرون أن الشرع أصبح رئيساً بحكم الأمر الواقع وليس بحكم القانون أو حتى بحكم المرجعية الأممية فى هذا الشأن. لكن مردود على هذا التصور بأن الحالة الداخلية الوليدة قد لا تكون مهيئة حالياً لإجراء استفتاء يحصل عبره الشرع على "تفويض رسمى" لإدارة الدولة، وأن خيار التفويض من القيادات العسكرية التى شاركت الشرع كفاحه ضد نظام الأسد يعد خطوة كافية –حالياً- لمنحه صلاحيات إدارة الدولة، وأن القبول الشعبى الكبير لتحركات هيئة تحرير الشام والفصائل التابعة لها – تم الاعلان عن حلها جميعاً- تجاه إسقاط نظام الأسد مثل فى حد ذاته "تفويضاً شعبياً" ضمنياً لإدارة مسار المرحلة الانتقالية بمراحلها المختلفة. هذا بخلاف ما أعلنه الشرع نفسه بأنه تشاور مع الخبراء القانونيين بشأن تلك الخطوة بهدف "ضمان سير العملية السياسية ضمن الأعراف القانونية".
2- استقطاب الدعم والاعتراف الإقليمى والدولى: ثمة آراء تقول بأن وجود قيادة قادرة على اتخاذ القرار من شأنه الإسراع بعملية الحصول على الدعم السياسى والمالى من جانب المنظمات الدولية المعنية من ناحية، ومن قبل القوى الدولية المؤثرة فى صناعة القرار الدولى، ومن جانب القوى الإقليمية المؤثرة فى تفاعلات منطقة المشرق العربى والإقليم ككل من ناحية ثانية، وهو ما يُمكِّن سوريا الجديدة من الخروج من حالة العزلة التى فرضتها عليها العقوبات الدولية والأمريكية أثناء وجود النظام السابق. فضلاً عن ذلك، فإن الشرع يسعى للحصول على اعتراف دولى بالحكومة الانتقالية الجديدة، وهو ما نوقش خلال لقائه مع المبعوث الأممى إلى سوريا جير بيدرسون، حيث بحثا آليات دعم الاستقرار وسبل نيل الاعتراف الدولى.
3- "البراجماتية والمرونة": يتسم الشرع، حسب تقارير واتجاهات عديدة، بنوع من "البراجماتية" فى تعامله مع التطورات، وهى صفة لم يكتسبها حديثاً؛ بل منذ أن كان قائداً لهيئة تحرير الشام فى إدلب، حينما بدأ إجراء تغييرات جذرية على شخصيته ومظهره وخطابه السياسى فضلاً إجراؤه أحاديث ومقابلات إعلامية مع قنوات أجنبية، هذا بالإضافة للتغيرات الجذرية التى أدخلها على نمط إدارة الهيئة لمسار الحياة اليومية فى إدلب. وحديثاً، انعكست تلك البراجماتية فى تصريحاته الخاصة بعلاقة سوريا الجديدة بجوارها الإقليمى العربى، وأنها لن تكون مصدراً لتهديد دول المنطقة ولا أى دولة فى العالم، ومؤخراً تصريحاته بشأن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب التى وصفه فيها بأنه "رئيس قادر على صنع السلام فى المنطقة". هذه البراجماتية "قد" تخلق "أرضية مشتركة" بين الشرع وبين القوى الدولية والإقليمية لاسيما التى لايزال لها وجود عسكرى فى سوريا يمكن البناء عليها فى المرحلة المقبلة.
4- مسعى تحقيق الاستقرار: هناك طرح يقول بأن التداعيات الأمنية المتفاقمة فى اللاذقية وحمص خلال يناير الفائت من قبل فلول النظام السابق والتى تورط فيها منتمون لأجهزة الأمن والجيش كانت حافزاً على إعادة تنظيم الإدارة السورية الجديدة قبل انفلات الأمور أكثر. ومن ثم فإن تفويض الفصائل للشرع كرئيس انتقالى، وما تلا ذلك من قرارات بحل الجيش والأجهزة الأمنية هدفه تحقيق قدر من الاستقرار والأمن كضرورة أولية تكفل الإبقاء على حالة التوافق الوطنى حول الشرع وفصائل القيادة العليا كما هى قائمة، وذلك باتخاذ مزيد من القرارات الجذرية وإجراء تغييرات جوهرية تدور معظمها حول ضرورة معاقبة النظام القديم وحل مؤسساته، لكونها إحدى آليات محاولاته للعودة إلى المشهد من جديد.
وفى الأخير، يمكن القول إن خطوة تنصيب الشرع رئيساً انتقالياً لسوريا بحكم الأمر الواقع وبمعزل عن القانون، ربما فرضتها طبيعة التحديات الداخلية والخارجية التى تواجهها سوريا فى المرحلة الحالية، لاسيما تلك المتعلقة بالأمن والاستقرار واستحقاقات الاعتراف الدولى والخروج من العزلة التى فُرضت عليها إبان النظام السابق، لكنها فى الوقت نفسه تحمل العديد من المخاوف تجاه مستقبل التوافق الوطنى السورى من ناحية، وتجاه شكل ومسار المرحلة الانتقالية الجديدة من ناحية ثانية، والتى قد تؤدى إلى قيادة حكم مركزية تطغى على أى مسار تعددى، لاسيما مع غياب خارطة طريق تحدد سقف المرحلة الانتقالية بصورة رسمية .