د. حسن أبو طالب

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

جموع هائلة من أصحاب الأرض يعودون إليها، أكثر من نصف مليون فلسطيني نازح من أهل قطاع غزة توجهوا شمالاً، إلى مدينة غزة وما حولها، في غضون يومين فقط، بعد أن ذاقوا عذابات أليمة على أيدٍ ملطخة بالدماء من قبل جيش الاحتلال يندى لها جبين الإنسانية. المذهل في الأمر أنهم جميعاً يدركون أنهم يعودون إلى مناطقهم وهى إما مدمرة تماماً أو شبه مدمرة، تخلو من أبسط مقدرات الحياة العادية، حيث لا مكان للإقامة ولا مياه أو كهرباء أو غذاء، أو خدمات صحية ولو بسيطة ولا بنية للصرف الصحى، فكل شيء تم تدميره تطبيقاً لمنهج إبادة جماعية رسمتها حكومة يمينية متطرفة في تل أبيب، ونفذها بكفاءة مشينة جيش فقد بوصلة القيم الإنسانية إلى أبعد حد يمكن تصوره.

خطة الجنرالات.. إلى مزبلة التاريخ

عودة النازحين إلى أماكنهم الأصلية كجزء من تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل بين أسرى فلسطينيين يقابلهم أسرى إسرائيليون، وبتلك الصورة المهيبة التي شهدها العالم، حيث الآلاف من النازحين يمشون لمسافة أكثر من 20 كم، عبر محور الشاطئ، منهم الرجال والنساء والشيوخ والأولاد، يحملون ما بقى لهم من متاع مهترئ، عبر طريق ساحلى يعرف بمحور الشاطئ، وآخرون يجرون معهم عربات بدائية تحمل ما أمكن حمله من وسائل الحياة البسيطة، وآخرون يمرون بسيارات عبر ممر نتساريم، تسير بطيئة نظراً لكثرة المتدفقين ولتدهور الطريق بفعل قنابل أمريكية الصنع دمرت وقتلت وشردت دون رادع أخلاقى، هذا المشهد المهيب يدحض كل المخططات الجهنمية التي وضعها ساسة وعسكريون من جيش الاحتلال، عرفت بخطة الجنرالات، واستهدفت تدمير مدينة غزة وشمال القطاع كلياً، واستباحة تلك الأرض، وتقسيم القطاع لقسمين أو ثلاثة أقسام، على أن يتم تواجد عسكرى إسرائيلى دائم في شمال القطاع، ويُسمح فيها ببناء مستوطنات للمغتصبين الإسرائيليين بزعم حماية نظيراتها وراء خط الحدود بين القطاع الفلسطيني وأرض فلسطين المغتصبة منذ العام 1948، كما دعت الخطة لبقاء جيش الاحتلال على طول خط الحدود شرقاً من شمال القطاع حتى جنوبه، تحت مسمى منطقة عازلة لمسافة تتراوح بين كيلو متر إلى كيلومترين، يُبعد عنها أى تواجد فلسطيني.

مع عودة الفلسطينيين إلى مناطق شمال القطاع، بالرغم مما حدث فيها من تدمير وتخريب هائل ومتعمد، انتهت خطة "الجنرالات الجهنمية" إلى مزبلة التاريخ، وباتت أثراً بعد عين، كما ذاب معها حلم عودة اغتصاب الأرض وبناء مستوطنات طالما حلم بها المغتصبون الإسرائيليون. الأمر المؤكد في هذا المشهد المبهر أن نداء الأرض لأصحابها لا يمكن تجاهله أو التغاضي عنه. أما الاحتلال فهو إلى زوال بعد أن تكلل بالعار والخزى. إنه الصمود الفطرى الذى جُبل عليه الفلسطينيون، وهم الأكثر إدراكاً بقيمة الأرض وقيمة العودة إليها رغم الصعوبات ورغم التضحيات التي دُفعت وتلك التي سيتم دفع المزيد منها في الأيام المقبلة، من أجل إعادة البناء وترسيخ الوجود على الأرض، وإفشال كل مخططات التهجير واقتلاع الفلسطينيين من أرضهم ووطنهم.

يقول شاب لا يزيد عمره عن 15 عاماً، وهو مبتسم رغم الإرهاق البادى على ملامح وجه، وفوق رأسه بعض ملابس وأغطية بسيطة: "بدى أعيش على ركام بيتى، لن يمنعنى شيء أن أبنيه". رجل مسن آخر يقول "أرضنا لن نتنازل عنها، لن نذهب إلى أي مكان آخر، لقد ولدنا هنا وسنموت هنا". مقولات وشهادات ترسل رسالة لا لبس فيها، لا للتهجير القسرى أو الطوعى، ولا للخروج من أرض فلسطين مهما كانت التضحيات.

واقع الحال أن مشهد العودة يفيض بمعانٍ كثيرة. ففي خضم جدل الانتصار والهزيمة ومن حقق ماذا ومن فشل في تحقيق ماذا، يتأكد أن استخدام القوة المفرطة والعدوان الغاشم والقنابل ذات 2000 رطل الأمريكية الصنع، والقتل العشوائى والمستباح لا يمكنه أن يقتلع الإيمان بالحقوق من صدور أصحابها، وحق العودة وسام على صدر كل فلسطيني، كما لا يمكنه – أى العدوان الغاشم - أن يُفنى هوية أصيلة كالهوية الفلسطينية. وكما يدل التاريخ الانسانى، لاسيما تاريخ الشعوب التي تعرضت للاضطهاد والظلم والغزو والاحتلال من قبل قوى غاشمة، ومهما طال الزمن، ومهما كثرت التضحيات، فسوف يزول العدوان وينتهى الاحتلال، وتعود الحقوق المغدورة إلى أصحابها، والحالة الفلسطينية، وفى ظل ما تقدمه من تضحيات جسام، فلن تخرج أبداً عن خبرة التاريخ الإنساني وسنة الخالق في كونه. فالاحتلال دائماً إلى زوال.

ذهول في إسرائيل وسقوط الأوهام

لقد أصاب مشهد العودة بتفاصيله وآلامه المجتمع الإسرائيلى بقدر من الذهول، وفرض عليهم الخروج من دائرة أوهام الانتصار وسحق حركات المقاومة الفلسطينية والتمدد بلا حساب، وكل تلك الوعود التي أطلقها رموز اليمين الإسرائيلى المتطرف طوال 15 شهراً. يقول عاموس هرئيل، في "هأرتس" 28 يناير 2025، تحت عنوان ذي مغزى "صورة عودة الفلسطينيين تعزف لحن نهاية الحرب": ماذا عن "اللقاء المصيري؟"، أن "صور جمهور الفلسطينيين الذين يجتازون ممر نتساريم سيراً على الأقدام في الطريق إلى ما تبقى من بيوتهم في شمال قطاع غزة، تعكس بدرجة كبيرة نهاية الحرب بين إسرائيل وحماس. صور أمس تحطم وهم "النصر المطلق" الذي نثره رئيس الحكومة نتنياهو ومؤيدوه خلال أشهر كثيرة. خلال فترة الحرب، رفض نتنياهو مناقشة ترتيبات اليوم التالي في القطاع، ولم يسمح بثغرة لتدخل السلطة الفلسطينية في غزة، واستمر في سيناريو خيالي لهزيمة حماس بشكل شامل. الآن، يمكن الافتراض أنه اضطر للتنازل والموافقة على أقل بكثير من ذلك"، مضيفاً في فقرة أخرى: "لكن في الصورة الكبيرة حماس قدمت تنازلاً تكتيكياً لاستكمال عملية استراتيجية – عودة السكان إلى شمال القطاع. بعد عودتهم إلى بلداتهم المدمرة سيكون من الصعب على إسرائيل استئناف الحرب وإخلاء المدنيين مرة أخرى من المناطق التي ستقوم باقتحامها، حتى لو انهار الاتفاق بعد انتهاء الستة أسابيع للمرحلة الأولى".

وفق هذا المنطق الإسرائيلي، فإن وعود نتنياهو إلى أعضاء حكومته المتطرفة بالعودة إلى الحرب مرة أخرى لم تعد قائمة من الناحية العملية، إذ العودة مرة أخرى إلى القتال المكثف والتدمير الغاشم كما كان قبل الاتفاق على صفقة وقف إطلاق النار التي بدأ تنفيذها يوم 19 يناير 2025، وفى ظل وجود أكثر من مليون فلسطيني متمسك بأرضه، يصبح أمراً جنونياً ومستحيلاً. وتلك بدورها ضربة قاصمة لكل الأفكار والأوهام المتطرفة لدى الحكومة والمجتمع معاً، لاسيما وأن ثمة شعوراً غالباً لدى الإسرائيليين بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهو النصير الأكبر لإسرائيل، يصر على تنفيذ الصفقة وعدم العودة إلى القتال مرة أخرى، لاسيما في ظل رغبته المعلنة بالحصول على جائزة نوبل للسلام!. ووفقاً لعاموس هرئيل فإن "الصمود" والتمسك بالأرض في الحقيقة يتغلب حتى الآن على التهديد بالطرد و"النكبة الإسرائيلية".

ويؤكد هرئيل أن "حماس تكبدت في هذه الحرب ضربة عسكرية كبيرة، يبدو أنها الأقوى من بين الضربات التي أوقعها الجيش الإسرائيلي على أحد أعداء إسرائيل. مع ذلك، لا توجد هزيمة هنا (كما يكرر المذيعون في القناة 14 منذ بداية الحرب). هذا هو مصدر الوعود التي يطلقها وزير المالية سموتريتش، الذي ما زال يجلس على الكرسي رغم معارضة صفقة التبادل، بشأن العودة بسرعة إلى الحرب التي ستحل المشكلة بمرة واحدة". ولكن الحقيقة وفقاً لهرئيل "بعيدة عن ذلك. فاستئناف الحرب تقريباً لا يتعلق بنتنياهو، وبالتأكيد شركائه في اليمين المتطرف. القرار النهائي يوجد كما يبدو في يد ترامب، الذي يتوقع أن يستضيف في القريب رئيس الحكومة نتنياهو في واشنطن للقاء، الذي لا يمكن وصفه في هذه المرة إلا بأنه لقاء مصيري".

وهنا تتضح التقاطعات بين تمسك الفلسطينيين بأرضهم والمدى المحدود الذى يمكن للمتطرفين من أمثال سموتريتش أن يفرضوا مرة أخرى العودة للحرب والعدوان، لان الأمر ببساطة أن قرار إسرائيل ليس بيدها، ولكنه بيد الجالس في البيت الأبيض.

اعتراف بجرائم حرب وارتباك في التحليل

رؤية أخرى يقدمها رون بن يشاي، كاتب في "يديعوت أحرنوت" في 28 يناير 2025، الصحيفة الأكثر تعبيراً عن توجهات اليمين المتطرف، حيث يرى الأمر من زاوية رمزيات الإصرار على العودة، وما قد تكشفه من حقائق حاولت الدعاية الإسرائيلية لاسيما نفى ارتكاب جرائم حرب، أن تبالغ فيها ولكن بلا فائدة، إذ يقول: "ستكون المشكلة في مجال المعنويات. المشاهد التي يقابلها الغزيون العائدون إلى الشمال قاسية. هم يشاهدون الدمار والخراب. وقلائل منهم يمكنهم العودة وإعادة حياتهم في المباني غير المدمرة، أو أنها شبه مدمرة. وسائل الإعلام العالمية ستغطي ذلك، وستتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب. ومن المرجح إصابة غزيين بسبب بقايا أو عبوات مفخخة لحماس، وسيتم اتهام إسرائيل بذلك أيضاً. هكذا، يجب أن ترافق عودة الغزيين إلى الشمال خطوات تعبوية سريعة من الحكومة بحيث توازن الانطباع القاسي ولو قليلاً".

اعتراف صريح من أحد كتاب التطرف بأن جيش الاحتلال ارتكب عامداً جرائم حرب، تتحمل إسرائيل بكل مؤسساتها مسئوليتها كاملة. اعتراف إسرائيلى صريح لا يمكن تجاهله، ورغم النصيحة بأن تتحرك الحكومة الإسرائيلية لموازنة الانطباع القاسى ولو قليلاً، فالحق الصارخ لم يعد يمكن إخفاؤه.   

وبالرغم من ذلك، فالكاتب يناقض نفسه في المقال ذاته، ومحاولاً طمأنة نفسه ومن يؤمنون بأفكار متطرفة واستعلائية، بأن العودة للقتال ما زالت خياراً محتملاً، حيث يقول: "ما زال الجيش الإسرائيلي موجوداً في شرق ووسط ممر نتساريم، وفي محور فيلادلفيا وفي الشريط الأمني في أراضي القطاع القريبة من الحدود مع إسرائيل. المعنى، أن طواقم قتالية بمستوى ألوية وفرق، التابعة للجيش الإسرائيلي، يمكنها الوصول إلى أي مكان في القطاع خلال بضع ساعات، ما يعتبر أداة ضغط مهمة. الجيش الإسرائيلي أيضاً يمكنه، عند الحاجة، أن يأمر سكان جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا بالعودة إلى الجنوب إذا اقتضى الأمر، فإن كل ما كان مفتوحاً أمام الجيش الإسرائيلي قبل عودة النازحين الغزيين إلى شمال القطاع، سيكون مفتوحاً الآن أيضاً".

وكأن الكاتب يقول أن جيشه الموصوم بالعار وأنه ارتكب جرائم حرب، يمكنه أن يعود لارتكاب جرائم أخرى، ما يجسد حالة انفصام سياسى وقيمى باتت شائعة لدى الإسرائيليين، وتكشف حجم الارتباك العقلى التي سببتها مشاهد العودة والإصرار الفلسطيني على التمسك بالأرض والصمود فيها أياً كانت المخاطر. 

العودة المهيبة والإصرار على البقاء والصمود والاستعداد لبذل المزيد من التضحيات والتمسك بالهوية، دلالات ومعانٍ تستوجب الاحترام والتقدير لشعب أثبت لنفسه وللعالم أجمع أنه شعب أصيل يرفض أى تنازل أياً كانت المغريات المقدمة له، ولن يترك أرضه لمن يطمع في اغتصابها.