رغم الجهود التي تبذلها بعض الأطراف الإقليمية والدولية لتقليص حدة التوترات المتصاعدة في شمال شرق سوريا بين الفصائل الموالية لتركيا وقوات سوريا الديمقراطية "قسد"، إلا أنها لم تسفر عن تحقيق اختراق جذري، وهو ما دفع قائد "قسد" مظلوم عبدي في 26 يناير 2025 للتحذير من أنها ستخوض مقاومة أقوى من تلك التي خاضتها ضد تنظيم "داعش"، إذا أقدمت تركيا على مهاجمة مدينة عين العرب "كوباني" أهم المدن الحدودية مع تركيا.
وتحاول تركيا عبر تلك الهجمات على المدن الكردية، وخاصة مدينة عين العرب "كوباني"، تحييد نفوذ "قسد" في معاقلها الرئيسية في شمال شرق سوريا، والحد من قدراتها المتنامية، كما لا يمكن فصل تلك التحركات عن الجهود التي تبذلها أنقرة من أجل منع استمرار هيمنة "قسد" على الجغرافيا السورية. وعلى ضوء ذلك، تطرح الهجمات التركية الحالية على عين العرب ومدن وقرى شمال سوريا، تساؤلات حول تداعيات هذه الهجمات، والمسارات المحتملة لها.
تداعيات محتملة
ثمة العديد من التداعيات التي تفرضها الهجمات التركية على شمال شرق سوريا، وخاصة مدينة عين العرب "كوباني" التي تمثل حجر الزاوية لنفوذ قوات "قسد" ويتمثل أبرزها فيما يلي:
1- عودة تنظيم "داعش" مجدداً: ربما يؤدي التصعيد التركي على المدن الكردية، وخاصة عين العرب "كوباني"، إلى انشغال القوات الأمنية والعسكرية التابعة للإدارة الذاتية الكردية في محاولة احتواء أية تداعيات قد تفرضها الهجمات التركية على الأرض، بشكل يمكن أن يساعد على ظهور تنظيم "داعش" على الساحة السورية من جديد، وهو ما بدت مؤشراته جلية في محاولة تنفيذ عمليات إرهابية مرة أخرى داخل العاصمة السورية دمشق، كان آخرها في 11 يناير 2025، عندما حاول التنظيم استهداف مرقد السيدة زينب.
2- تراجع تأمين مخيمات التطرف: تتصاعد المخاوف من تراجع قدرة أجهزة الأمن الكردية "قسد" و"الأسايش" على تأمين مخيمات إيواء عناصر التنظيمات الإرهابية، وخاصة مخيم "الهول"، الذي يقع في محافظة الحسكة السورية ويضم أعداداً كبيرة من نساء وأطفال "داعش". وزادت معضلة التأمين في الآونة الأخيرة، بعد سحب "قسد" قسماً من عناصر تأمين مخيمات الاحتجاز للمشاركة في التصدى للهجمات التركية على مدينة "كوباني". ويشار إلى أن مواصلة تركيا في التوقيت الحالي استهداف مدينة "كوباني" بجانب استمرار عملية "فجر الحرية" التي أطلقتها الفصائل الموالية لتركيا منذ 30 نوفمبر 2024، ساهما في تعرض مخيمات العنف لضغوط غير مسبوقة، ما دفع عناصر "داعش" لتوظيف حالة السيولة الأمنية، والاستفادة منها للفرار من المخيمات أو إعادة التموضع من جديد.
3- بدء عملية نزوح واسعة للمدنيين: يرجح أن تشهد مدينة عين العرب "كوباني" الحدودية مع تركيا عملية نزوح واسعة للمدنيين على خلفية تصاعد هجمات الأخيرة على المعاقل الأمنية ونقاط الارتكاز العسكرية التابعة لقوات "قسد" في المدينة، وربما يكون مسارها في اتجاهات متفرقة، وغير معلومة، خصوصاً في ظل اشتداد المعارك بين الفصائل الموالية لتركيا و"قسد" في القامشلى ومنبج وسد تشرين ورأس عيسى. وتتنامي مخاوف المدنيين الأكراد في التوقيت الحالي، بعد رفض تركي مقترح "قسد" لإنشاء "منطقة منزوعة السلاح" في مدينة "كوباني" الحدودية مع تركيا، ووصلت المخاوف إلى الذروة مع بدء تركيا منذ 18 يناير 2025 حشد أعداد كبيرة من قواتها والفصائل الموالية لها المدعومة بأسلحة ثقيلة حول المدينة.
4- إعادة بناء خريطة التحالفات المحلية: تتزامن الهجمات التركية على المدن السورية ذات الأغلبية الكردية على الحدود مع سوريا، مع تراجع التنسيق بين "قسد" وواشنطن، والذى يبدو مرشحاً لمزيد من التدهور بعد وصول ترامب إلى السلطة، والذى يعتبر بقاء قوات بلاده شمال شرق سوريا لا يحمل أولوية استراتيجية لإدارته. وعلى ضوء ما سبق، فمن المرجح أن تتجه تركيا والإدارة السورية الجديدة لتعزيز تحالفهما ضد "قسد"، وشن عملية عسكرية مشتركة على معاقلها شمال شرق سوريا. وعلى الجانب الآخر، قد يتجه الأكراد عملياً إلى تعزيز التحالف مع حزب العمال الكردستاني، وتأمين قنوات التواصل مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني في الشمال العراقي، خصوصاً بعد فشل وساطة مسعود بارزاني في منتصف يناير 2025 لوضع حد للمواجهات بين تركيا و"قسد".
5- تصاعد التوتر بين "قسد" والإدارة السورية الجديدة: تكشف العديد من المؤشرات عن أن الموقف السلبي للإدارة السورية الجديدة بقياد أحمد الشرع تجاه التدخلات العسكرية التركية ضد معاقل "قسد" شمال شرق سوريا، قد يدفع العلاقة بين "قسد" والإدارة السورية الجديدة نحو التوتر، وغياب الثقة. ويوفر هذا التوتر بيئة خصبة لتركيا لتعزيز الضغوط على "قسد"، وبالتالي تقطيع أوصال المشروع الكردي في الإقليم. ويشار إلى أن الخلافات بدأت بين "قسد" والإدارة السورية الجديدة، بعد تهديد حكومة الشرع الإدارة الذاتية الكردية بالدخول في معركة كسر عظم حال عدم التزامها بمقاربة النظام السوري الجديد، ووصلت إلى مستوى غير مسبوق في 26 يناير 2025 بعد رفض "قسد" مقترحاً للإدارة السورية، تضمن الاعتراف بالحقوق الثقافية الكردية وإدراجها في الدستور المقبل، إضافة إلى فتح المجال أمام الأكراد للانضمام لمؤسستي الأمن والجيش بجانب نظام إدارة لا مركزي يمنح المجالس المحلية صلاحيات واسعة لإدارة شئون المحافظات. وتصر "قسد" على الانضمام للجيش السوري كوحدة متكاملة، والاحتفاظ بمناطق انتشارها العسكري الحالية جنباً إلى جنب مع الحصول على حصة من عائدات حقول وآبار النفط.
مسارات متباينة
يكشف النشاط العملياتي بين تركيا و"قسد"، وكذلك التطور الحاصل في التفاعلات المحلية والإقليمية بشأن قواعد الاشتباك في الشمال السوري، عن أن ثمة ثلاثة مسارات محتملة بشأن مستقبل الهجمات التركية على المدن الكردية وقوات "قسد": المسار الأول، يتمثل في تكثيف المواجهات، حيث يرجح أن تتجه تركيا للاستمرار في تكثيف عملياتها العسكرية على المدن الكردية السورية خلال المرحلة المقبلة، وخاصة مدينة عين العرب "كوباني"، أهم وأكبر المدن الكردية الحدودية مع تركيا. ويبدو أن هذا السيناريو هو الأكثر ترجيحاً في ظل عدة محددات منها، توجه تركيا إلى إعادة تموضع قوتها في الداخل السوري، بما يضمن لها تحييد تحركات "قسد" بالإضافة إلى رغبة أنقرة في توظيف تراجع الدعم الغربي للإدارة الذاتية الكردية، وخاصة من جانب واشنطن، وهو ما تجلي في مطالبة قائد القيادة المركزية الأمريكية "سنتكوم" الجنرال مايكل إريك كوريلا، خلال زيارته لسوريا في 16 يناير2025، بالعمل على نقل مقاتلي "داعش" لبلدانهم الأصلية للبت النهائي في أمرهم.
بالتوازي مع ذلك، رفضت أنقرة مبادرة حزب العمال الكردستاني في 17 يناير 2025، والتي تضمنت موافقة الكردستاني على مغادرة قواته من مناطق الإدارة الذاتية الكردية مقابل احتفاظ "قسد" بحكم مناطق شمال شرق سوريا في إطار صيغة حكم فيدرالي. كما عمدت تركيا مؤخراً لتوسيع التفاهمات مع العراق لمواجهة التهديدات المتعلقة بأنشطة حزب العمّال الكردستاني، وكان بارزاً، هنا، زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان للعراق في 26 يناير 2025، والتي استهدفت، في جانب منها، الضغط على العراق للانتقال من حالة توظيف "الكردستاني" كـ"منظمة محظورة" إلى "منظمة إرهابية".
والمسار الثاني، ينصرف إلى ضبط الصراع، فعلى الرغم من حرص تركيا على توظيف السياقات المحلية السورية، والتطورات الإقليمية التي أدت إلى تراجع النفوذ الإيراني والروسي بعد إسقاط الأسد، واعتبار ذلك فرصة للقضاء على المشروع الكردي، إلا أن أنقرة، وفقاً لبعض التقديرات، قد تتجه نحو ضبط الصراع مع الأكراد خلال المرحل المقبلة، ويدعم هذا السيناريو ثلاثة اعتبارات مهمة: أولها، مخاوف أنقرة من تفاقم المخاطر والتهديدات الإرهابية عبر الحدود، ففي رؤية تركيا، فإن زيادة الضربات العسكرية على مواقع "قسد" بجانب استهداف المدن الكردية الحدودية بين سوريا وتركيا، قد تدفع الأكراد نحو تنفيذ عمليات إرهابية في الداخل التركي، على غرار الهجوم الأخير على مجمع الصناعات الدفاعية التركية "توساتش" في أكتوبر 2024. وثانيها، ضعف البنية العسكرية للإدارة السورية الجديدة، والتي رغم أنها تتفق مع رغبة أنقرة بشأن كبح نفوذ "قسد"، فإنها، من جانب آخر، لا تريد الانخراط في مواجهات موسعة، باعتبار ذلك يمكن أن يسفر عن ارتدادات عكسية على الحالة الأمنية السورية التي تعاني بطبيعتها سيولة شديدة منذ سقوط الأسد. وثالثها، أن ثمة ضغوطاً ميدانية منها أن التمدد التركي بعمق كبير قد لا تتوافر معه ضمانات السلامة، فربما يكون من الصعوبة تأمين القوات التركية حال دخولها عين العرب "كوباني" والمدن الكردية الكبري. وتعى تركيا أن عملية "فجر الحرية" التي أطلقتها الفصائل الموالية لها ضد "قسد" لم تتمكن من إحداث تغييرات ميدانية لافتة في جغرافية شمال شرق سوريا التي تهيمن عليها "قسد".
والمسار الثالث، يتعلق بشن هجمات نوعية ومتقطعة، ووفقاً لهذا السيناريو، سيكون مستبعداً أن يتطور التوغل العسكري التركي في المدن الحدودية الكردية، ليصل إلى مرحلة وقوع مواجهات ميدانية موسعة تشمل كافة مناطق شمال شرق سوريا، إذ يرجح أن تحاول تركيا تحقيق أهدافها في الشمال السوري من خلال الاعتماد على هجمات عسكرية متقطعة، ولكنها شديدة التأثير بالإضافة إلى أنها ستسعى لتوظيف هذه الهجمات لتدمير البنية التحتية العسكرية الكردية في تلك المناطق، على غرار ما جرى في مناطق منبج ورأس عيسى، وبالتالي محاولة تعميم النموذج ذاته في المناطق الكردية شديدة التحصين، وأهمها عين العرب "كوباني.
ختاماً، يمكن القول إن المواجهات الحالية بين "قسد" وتركيا والفصائل الموالية لها قد تدفع الوضع في الشمال السوري نحو مزيد من التأزم، ومن المرجح أن تشكل الهجمات التركية في التوقيت الحالي على مدينة "كوباني" متغيراً مؤثراً على كافة الأصعدة الخاصة بالملف الكردي، وطبيعة التفاعلات السياسية والميدانية خلال المرحلة القادمة.