د. محمد عباس ناجي

رئيس تحرير الموقع الإلكتروني - خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

لم تكن إيران سعيدة بالطبع عندما أُعلِن عن فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي أجريت في 5 نوفمبر 2024، رغم أنها دائماً ما تدّعي أنها ليست معنية بمن يتولى مقاليد الأمور في البيت الأبيض. لكن سر عدم سعادة إيران هنا لا يكمن فقط في شخص ترامب، الذي تُكِن له طهران عداءاً خاصاً، في ظل إرث الولاية الأولى له، حيث انسحب من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018، وأعاد فرض العقوبات الأمريكية عليها في 7 أغسطس من العام نفسه، وأصدر الأمر بقتل القائد السابق لفيلق القدس المسئول عن إدارة العمليات الخارجية للحرس الثوري قاسم سليماني في 3 يناير 2020، وهى الضربة التي لم تنجح إيران في استيعابها قط، وإنما يكمن أيضاً في توقيت عودته إلى البيت الأبيض.

إذ يتوافق ذلك مع تفاقم الأزمات التي تواجهها إيران على المستويين الداخلي والخارجي. فعلى مستوى الخارج، فقدت إيران قسماً كبيراً من رصيدها على الصعيد الإقليمي، بسبب الضربات القوية التي تعرض لها بعض وكلائها، وربما يتعرض البعض الآخر لضربات أخرى في المرحلة القادمة. كما أصبحت طهران أمام مفترق طرق فيما يتعلق ببرنامجها النووي، فلا هى التزمت بتعهداتها في الاتفاق النووي –حيث خفَّضت تلك الالتزامات رداً على الانسحاب الأمريكي من– ولا هى وصلت إلى المرحلة التي تمتلك فيها القنبلة النووية.

فضلاً عن ذلك، فإن علاقاتها مع الدول الغربية تسير من سيئ إلى أسوأ، وهو مسار لم يكن قائماً خلال الولاية الأولى لترامب، حيث كانت الدول الأوروبية أقرب إلى موقف إيران منه إلى موقف الولايات المتحدة الأمريكية، بسبب الانسحاب الأمريكي من الاتفاق، لدرجة أنها ساهمت في إجهاض مشروع القرار الأمريكي الذي عرض على مجلس الأمن في 15 أغسطس 2020، لتمديد الحظر المفروض على إيران في مجال الأسلحة الثقيلة، والذي تم رفعه بالفعل في 18 أكتوبر من العام نفسه، حيث امتنعت كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا عن التصويت على المشروع إلى جانب 8 دول أخرى، فيما رفضته روسيا والصين، ولم تؤيده سوى دولتين فقط هما الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الدومينيكان، على نحو اعتبر هزيمة سياسية كبيرة لإدارة ترامب.

كما لا تبدو علاقاتها مع الصين وروسيا على النحو الذي كانت تطمح إليه. صحيح أنها أبرمت اتفاق الشراكة الاستراتيجية مع الأخيرة، في 15 يناير 2025، لكن الصحيح أيضاً أن هذا الاتفاق يتضمن بنوداً غامضة، ولا يؤشر إلى اتجاه الدولتين نحو توسيع نطاق التعاون بينهما، خاصة على المستوى العسكري، فضلاً عن أنه لا يؤشر إلى انتهاء فجوة الثقة القائمة بين طهران وموسكو خاصة بعد سقوط حليفهما السابق نظام الرئيس السوري بشار الأسد، في 8 ديسمبر 2024.

أما على المستوى الداخلي، فإن ثمة أزمات باتت تمس النظام نفسه، وآخرها ما كشفت عنه عملية اغتيال قاضيين في المحكمة العليا، في 18 يناير 2025، على يد موظف في قطاع الخدمات بالمحكمة، وهى العملية التي ربطت اتجاهات عديدة بينها وبين حالة التوتر التي تتسم بها العلاقة بين النظام وقسم من الشارع الإيراني، نتيجة التراكمات التي فرضتها الاحتجاجات التي شهدتها إيران في سبتمبر عام 2022، على خلفية مقتل الفتاة الكردية العشرينية مهسا اميني. فضلاً عن ذلك، لم تتراجع حدة الأزمة الاقتصادية القائمة نتيجة العقوبات، والاجتماعية الناتجة عن الاحتقان بين النظام والقوميات الإيرانية المختلفة.

في خضم هذه الأزمات يدخل ترامب مجدداً إلى البيت الأبيض في 20 يناير 2025، حيث يتوقع أن يكون الملف الإيراني على مكتبه في اليوم الأول، خاصة في ظل الرسائل المسبقة التي وجهها بشأن إيران، لا سيما فيما يتعلق باحتمال إعادة تطبيق سياسة "الضغوط القصوى" التي تهدف إلى دفع إيران نحو إجراء تغيير في سياستها إزاء الملفات الخلافية العالقة، وفي مقدمتها البرنامجين النووي والصاروخي، فضلاً عن الدور الإقليمي، والدعم العسكري لروسيا في الحرب ضد أوكرانيا.

فريقان رئيسيان

هنا، تبدو الكرة في ملعب طهران، حيث يتقاذفها فريقان رئيسيان: الأول، يرى أن هذه الأزمات في مجملها لا توفر لإيران هامشاً واسعاً من الخيارات، على غرار ما كان قائماً خلال الولاية الأولى لترامب، الذي نجح في إفراغ الاتفاق النووي من مضمونه لكنه فشل في إرغام إيران على تعديل سلوكها، بل إن سياسته إزاء الأخيرة أنتجت مفاعيل عكسية في النهاية، على نحو بدا جلياً في مراكمة إيران كميات كبيرة من اليورانيوم المخصب التي وصلت حالياً إلى 32 ضعف ما هو منصوص عليه في الاتفاق النووي، فضلاً عن رفع مستوى التخصيب إلى 60%، وهى النسبة القريبة من النسبة اللازمة لصنع القنبلة النووية، ووسَّعت من نطاق عمليات التخصيب لتشمل إلى جانب مفاعل ناتانز منشأة فوردو التي تم بناءها في أعماق الأرض.

وفي رؤية هذا الفريق، فإن تحقيق إيران قفزات في برنامجها النووي خلال الولاية الأولى لترامب كان مستنداً إلى اعتبارات عديدة منها حضورها في الإقليم، وانقسام الدول الغربية على نفسها تجاهها، لدرجة أنها كانت تبرر بعض الخطوات التي كانت تتخذها إيران لتقليص مستوى التزاماتها في الاتفاق النووي.

أما الآن، وفي ظل الظروف الحالية التي فرضتها الحرب الإسرائيلية في المنطقة، والتي دعمتها الولايات المتحدة الأمريكية بكل قوة، فإن إيران لم تعد تمتلك الخيارات نفسها، ولا حرية الحركة التي كانت قائمة، على نحو يعني أن البديل الأساسي المتاح أمامها حالياً هو التفاوض مع ترامب.

هذا التفاوض يهدف في الأساس إلى تجنب المسار الأصعب، وهو الانخراط في حرب مباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية أو إسرائيل، أو التعرض لضربة عسكرية أوسع نطاقاً من تلك التي شنتها إسرائيل في 26 أكتوبر 2024، وهو المسار الذي بدأ يلمح إليه بعض أعضاء إدارة ترامب، على غرار مستشار الأمن القومي مايك والتز، الذي قال، في 19 يناير 2025، أن "إيران في مرحلة ضعف حالياً، ما يجعل الوقت مناسباً لتتخذ الإدارة الأمريكية إجراءات حاسمة".

وقد بدأت مؤشرات عديدة تظهر في الأفق وتوحي بأن طهران لا تستبعد هذا المسار. فقد حرص الرئيس مسعود بزشكيان قبل زيارته لروسيا وإبرامه اتفاق الشراكة الاستراتيجية مع الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين، على إجراء حوار مع قناة "NBC" الأمريكية، في 15 يناير 2025، أبدى فيه استعداد إيران للتفاوض مع الدول الغربية، ورغبتها في إحلال السلام والاستقرار في المنطقة، ونفى ضلوعها في محاولة اغتيال ترامب.

وقبل ذلك بأيام قليلة، ظهر أن هناك قنوات تواصل مفتوحة بين طهران وإدارة ترامب، وهو ما كشفت عنه عملية الإفراج عن الصحفية الإيطالية سيسيليا سالا، والتي جاءت بعد تفاهمات شارك فيها ايلون ماسك الملياردير الأمريكي المقرب من الرئيس ترامب، والمندوب الإيراني في الأمم المتحدة سعيد ايرواني، رغم نفى طهران وروما لذلك.

لكن في مقابل هذا الفريق، كان هناك فريق ثاني، أكثر تشدداً، لا يرفض التفاوض في الأساس، لكنه يدعو إلى ضرورة تعزيز موقع إيران قبل أن تلجأ إلى هذا الخيار. وفي رؤيته، فإن المبادرة بالدعوة إلى التفاوض تُضعِف إيران وتوجه رسائل يفهمها الطرف الآخر على أنها مؤشرات ضعف.

من هنا، يمكن تفسير الهجوم الواسع الذي تعرض له الرئيس بزشكيان من جانب تيار المحافظين الأصوليين ووسائل الإعلام القريبة منه، على غرار صحيفة "كيهان" الأكثر قرباً من المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي.

فقد كتب رئيس تحرير الصحيفة حسين شريعتمداري افتتاحية عدد يوم 15 يناير 2025، بعنوان "سيد بزشكيان، أنت لست مالكاً لإيران"، انتقد فيه دعوة بزشكيان إلى التفاوض ونفيه رغبة إيران في الانتقام من ترامب بسبب إصداره أمراً بقتل سليماني، واعتبر أن ذلك يمثل تجاوزاً لصلاحيات رئيس الجمهورية الذي يتولى السلطة التنفيذية فقط، في إشارة إلى أن تحديد السياسة العليا للدولة يدخل ضمن صلاحيات المرشد الأعلى للجمهورية وليس الرئيس.

وتوازى ذلك مع استعراض للقدرات العسكرية، على غرار القاعدة البحرية الموجودة تحت الأرض، وقبلها قاعدة الصواريخ الباليستية، وهى كلها رسائل تفيد أن لدى إيران ما يمكن أن يساعدها على رفع كُلفة استخدام الخيار العسكري ضدها.

هنا، تبدو عملية تقسيم الأدوار بين هذين الفريقين مقصودة والهدف منها هو منح إيران مساحة أكبر من الحركة، مع محاولة استيعاب الضغوط التي تفرضها التطورات الداخلية والخارجية، قبل أن تبدأ الجولة الجديدة مع ترامب خلال الأيام القادمة.