د. أحمد قنديل

رئيس وحدة العلاقات الدولية ورئيس برنامج دراسات الطاقة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيحية

 

تسعى مصر جاهدةً لتصبح مركزاً إقليمياً لإنتاج وتجارة الطاقة في منطقة شرق المتوسط، وذلك بفضل قدراتها الكبيرة في مجالات الغاز الطبيعي والكهرباء والطاقة المتجددة. كما أن موقعها الاستراتيجي الفريد، فضلاً عن تطور بنيتها التحتية، سواء في مجال الغاز الطبيعي أو الكهرباء، يجعلها لاعباً رئيسياً في تعزيز وقيادة التعاون الطاقي الإقليمي. وفي هذا السياق، يمكن لمصر أن تمارس دوراً مهماً في دعم وتطوير قطاع الطاقة في سوريا الشقيقة، والذي يعاني من آثار الحرب، التي استمرت هناك طوال الأربعة عشرة عاماً الماضية، ويحتاج إلى إعادة بناء شاملة وتحديث كامل. إذ يمكن أن تتعاون شركات البترول والغاز المصرية مع نظيرتها السورية والعالمية في مشروعات جديدة للاستكشاف والإنتاج، أو في إعادة تأهيل المرافق الأساسية المتضررة، أو في مشروعات الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر، أو في تدريب الكوادر الفنية والإدارية العاملة في مثل هذه المشروعات، أو في تجارة الغاز الطبيعي والكهرباء لتلبية احتياجات الشعب السوري الشقيق.

أزمة طاقة خانقة

مع انهيار نظام الرئيس بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، وجد السوريون أنفسهم في أزمة طاقة مستعصية، مع التراجع الشديد في إنتاج النفط والغاز وانهيار شبكة الكهرباء السورية. فعلى سبيل المثال، تراجع إنتاج النفط السوري من حوالي 386 ألف برميل يومياً في عام 2010 ، إلى 89 ألف برميل يومياً فقط في عام 2024، نتيجة تعليق شركات النفط العالمية عملياتها في البلاد والعقوبات الدولية الصارمة التي تم فرضها على سوريا (وفي مقدمتها قانون قيصر الأمريكي الصادر في عام 2020)، فضلاً عن انقسام السيطرة على حقول النفط بين نظام الأسد والمليشيات المسلحة، وهو الأمر الذي يوضحه الرسم البياني التالي:

هذا وقد استمر التراجع في إنتاج سوريا من النفط إلى نحو 10 آلاف برميل يومياً فقط، في شهر يناير 2025، بحسب تصريحات وزير النفط السوري في الحكومة الانتقالية المهندس غياث دياب. ويشار في هذا الصدد إلى أن حقول النفط السورية الرئيسية توجد في المناطق الشرقية بمحافظتي دير الزور والحسكة، وقد آلت السيطرة على هذه الحقول، في السنوات الأخيرة، إلى قوات سوريا الديمقراطية "قسد" المدعومة من الولايات المتحدة، بعد طرد تنظيم "داعش" منها. وهذه الحقول، وعلى رأسها العمر والسويدية والرميلان، تمثل تقريباً 90% من إنتاج النفط السوري، الذي كانت تستفيد منه الفصائل المسلحة، عبر تهريبه إلى العراق أو دول أخرى، أو حتى إلى الحكومة في دمشق عن طريق وسطاء. وفي هذا السياق، أعلن وزير الخارجية السوري السابق فيصل المقداد، في سبتمبر عام 2023، عن خسائر بقيمة 115 مليار دولار في قطاعي النفط والغاز بسوريا، متهماً الولايات المتحدة وأدواتها بـ"نهب" الثروات السورية.

وفي قطاع الغاز الطبيعي، لم يختلف الوضع كثيراً، حيث عانى هذا القطاع أيضاً من تدهور كبير. فبعد أن سجل أعلى أرقامه تاريخياً في عام 2010 انخفض إلى مستويات متدنية للغاية في السنوات الأخيرة. إذ بلغ إنتاج سوريا من الغاز الطبيعي في عام 2023 حوالي 3 مليار متر مكعب عام 2023 فقط بعدما كان نحو 8.4 مليار متر مكعب في عام 2010. ويوضح الرسم البياني التالي إنتاج قطاع الطاقة في سوريا من الغاز الطبيعي منذ عام 1983 حتى 2023:

وفي قطاع الكهرباء، قاد انخفاض إمدادات الغاز الطبيعي والوقود إلى تراجع شديد في إنتاج محطات توليد الكهرباء، حيث تراجعت ساعات التغذية الكهربائية إلى مستويات متدنية للغاية تتراوح بين ساعتين إلى أربعة ساعات فقط يومياً.

وتتشكل غالبية مزيج توليد الكهرباء في سوريا من الوقود الأحفوري، إذ وصلت نسبته خلال عام 2022 إلى حوالي 96 في المائة (الغاز الطبيعي 54 في المائة - أنواع الوقود الأحفوري الأخرى 42 في المائة)، بينما لم تتجاوز نسبة الطاقة الكهرومائية في مزيج الطاقة السورية 4 في المائة تقريباً.

هذا، وتقدر حاجة وزارة الكهرباء السورية اليومية من الغاز الطبيعي بـ 23 مليون متر مكعب، بينما كان المتاح منها، قبل سقوط الرئيس الأسد، لا يتجاوز 6.5 ملايين متر مكعب. كما تحتاج الوزارة إلى حوالي 10 آلاف طن من الوقود يومياً، لكن الكمية المتاحة لم تكن تتجاوز 4500 طن.

ومن ناحية أخرى، أشار وزير الكهرباء السوري السابق المهندس غسان الزامل، في مقابلة صحفية جرت في 13 مايو 2024، إلى أن الأضرار المباشرة التي لحقت بالمنظومة الكهربائية نتيجة الحرب في الأربع عشر سنة الماضية تقدر بنحو 40 مليار دولار، بينما تجاوزت الأضرار غير المباشرة 80 مليار دولار. وتشمل هذه الأضرار خسائر في محطات التوليد ومحطات التحويل وخطوط نقل الكهرباء، بما يشكل أكثر من 50 في المائة من إجمالي المنظومة الكهربائية في سوريا.

فرص واعدة للتعاون

انهيار قطاع الطاقة في سوريا، على النحو سالف الذكر، يجعل من التعاون المصري-السوري في استعادة عافية هذا القطاع الاستراتيجي أمراً بالغ  الأهمية في ضوء عدد من الاعتبارات الرئيسية، لعل من أبرزها ما يلي:

1- اهتمام مصر، قيادةً وحكومةً وشعباً، بتحسين الأحوال المعيشية للشعب السوري الشقيق، شركائنا في انتصار حرب أكتوبر المجيدة في عام 1973. ففي حديثه مع طلاب الأكاديمية العسكرية المصرية في 10 يناير 2025، أكد الرئيس عبد الفتاح السيسي على أن مصر تسعى إلى أن تكون عاملاً إيجابياً في استعادة الأمن والاستقرار في سوريا لكونها دولة رئيسية في منظومة الأمن القومي العربي،  مشيراً إلى "أهمية أن يتم السماح لكافة الأطياف والعرقيات في سوريا لكي تكون شريكاً في الحكم". وأكد الرئيس السيسي أيضاً أن مصر "لديها مليون ونصف مليون سوري يعيشون مع أشقائهم المصريين ويتمتعون بكافة الحقوق والواجبات التي يتمتع بها كل مصري، ويمارسون كل أنشطتهم الاقتصادية ويساهمون فى دعم عملية التنمية". وبالإضافة إلى ذلك، أرسلت الحكومة المصرية مؤخراً، وبعد سقوط نظام الأسد، طائرات محملة بالمساعدات الإنسانية، لمساعدة الأشقاء السوريين على تجاوز تحديات المرحلة الانتقالية والصعوبات الاقتصادية، وهو ما يؤكد دائماً عمق الروابط التاريخية بين الشعبين المصرى والسورى.

2- إدراك الإدارة الجديدة في دمشق أن إصلاح قطاع الطاقة السوري، بما يضمن تلبية الاحتياجات المعيشية والتنموية في البلاد "مسألة حياة أو موت". فعدم القدرة على تأمين موارد الطاقة اللازمة للاستهلاك المحلي، في أقرب وقت ممكن، ينذر بعواقب "بالغة السلبية" على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، بل وسوف يعقد عملية الاستقرار والتنمية في سوريا، لاسيما في حال شهدت البلاد عودة كبيرة للمواطنين السوريين من الخارج (ما بين 3 و 4 مليون شخص تقريباً). ومن ناحية أخرى، تدرك هذه الإدارة أيضاً أن عائدات قطاع الطاقة سوف تمثل أهمية بالغة لإعادة الأعمار في البلاد. إذ يشير عدد من التقديرات إلى أن صناعة النفط السورية، على سبيل المثال، يمكن أن تساهم في إنعاش النمو الاقتصادي عبر إيرادات قدرت بـ15 مليار دولار سنوياً بسعر 70 دولاراً لبرميل النفط.

3- وجود إمكانات هائلة في قطاع الطاقة السوري، حيث قدّرت دراسات دقيقة أجرتها المؤسسة العامة للنفط في سوريا عام 2010، الاحتياطيات النفطية السورية بنحو27 مليار برميل من النفط و678 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، دون احتساب احتياطيات المناطق البحرية في شرق المتوسط.

وبالإضافة إلى ذلك، يتمتع قطاع الطاقة في سوريا أيضاً بالقدرة على الانتقال إلى نظام كهربائي أكثر استدامة ومنخفض الكربون، حيث توفر المناطق الصحراوية الشاسعة فرصة لمحاكاة برامج الطاقة الشمسية الناجحة التي تحققت في الدول المجاورة، مثل مصر والأردن. كما يمكن أن تؤدي مبادرات الطاقة الشمسية صغيرة النطاق، بما في ذلك الألواح الكهروضوئية على أسطح المنازل مع البطاريات وأنظمة تسخين المياه، إلى تسريع توفير الكهرباء. فضلاً عن ذلك، توجد مناطق غنية بالرياح على طول الجبال الساحلية وجبال تدمر الممتدة إلى الفرات وجبال لبنان الشرقية وجنوب دمشق.

الدور المصري

في ضوء كل هذه الاعتبارات، يتفق كثير من خبراء الطاقة على أن القاهرة تستطيع أن تساهم بشكل كبير في إصلاح ودعم قطاع الطاقة السوري، على عدة مستويات مختلفة. ففي قطاع الغاز الطبيعي، على سبيل المثال، تستطيع مصر أن تساهم في تزويد سوريا بالغاز الطبيعي عبر خط الغاز العربي، أو من خلال محطات التسييل في إدكو ودمياط، لتشغيل محطات الكهرباء أو مشروعات الصناعات الثقيلة. كما تمتلك القاهرة أيضاً خبرات كبيرة في مشروعات استكشاف وإنتاج الغاز الطبيعي، خاصة بعد اكتشاف حقل "ظهر" في عام 2015، والذي جعلها واحدة من أكبر منتجي الغاز في شرق المتوسط. ومثل هذه الخبرات يمكن أن تساعد دمشق في التوصل إلى اتفاقات بشأن استكشاف حقول الغاز السورية في البحر المتوسط، وتطويرها بكفاءة أعلى.

كذلك، يمكن أن تشارك مصر أيضاً في تصدير الغاز السوري مستقبلاً، في حال اكتشافه وإنتاجه، حيث تمتلك بنية تحتية قوية في مجال تصدر الغاز الطبيعي، مثل محطات التسييل في دمياط وإدكو، والتي تمكنها من تصدير الغاز إلى أوروبا وآسيا.

وفي قطاع الكهرباء، تستطيع مصر أن تقوم بتصدير الكهرباء إلى سوريا عبر شبكة الربط الكهربائي مع الأردن، خاصة وأن مصر تُعتبر من الدول الرائدة في إنتاج وتصدير الكهرباء في منطقة شرق المتوسط وشمال إفريقيا، ولديها بنية تحتية قوية في هذا القطاع مكنتها مع تصدير الكهرباء إلى دول الجوار مثل السعودية وليبيا والسودان والأردن. كما قد تكون مصر أيضاً في وضع نموذجي يسمح لها بالمساعدة في تقديم الدعم الفني والتكنولوجي اللازم لإعادة تأهيل محطات الكهرباء وشبكات النقل والتوزيع في سوريا.

ومن ناحية أخرى، تمتلك مصر أيضاً إمكانيات كبيرة وتجارب ناجحة للغاية في مجال الطاقة المتجددة، خاصة في مشروعات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. كما أن لديها تجربة غنية في جذب الاستثمارات الخاصة بهذه المشروعات، وهو الأمر الذي برز في إنشاء محطة بنبان للطاقة الشمسية في أسوان، والتي تعتبر من أكبر محطات الطاقة الشمسية في العالم.

وأخيراً وليس آخراً، تستطيع القاهرة أن تمارس أيضاً دوراً مهماً في دعم قطاع النفط السوري، سواء عبر شركاتها المتخصصة في التنقيب أو عبر تزويد سوريا بالمنتجات النفطية التي تحتاج إليها. كذلك، يمكن للشركات المصرية (مثل انبي وبتروجت وغيرها) أيضاً المساهمة في مشروعات مشتركة مع الشركات السورية لتطوير حقول النفط أو إعادة تأهيل المنشآت النفطية المتضررة من الحرب.

تحديات صعبة

رغم الفرص الكبيرة للتعاون المصري-السوري في قطاع الطاقة على النحو السالف ذكره، يتفق المراقبون على وجود عدد من العقبات التي قد تعترض تعزيز هذا التعاون، لعل من أهمها ما يلي:

1- عدم تبلور موقف واضح بشكل كامل للإدارة الجديدة في سوريا من بعض الملفات، حتى الآن، وفي مقدمتها دعم العناصر والتنظيمات الإرهابية، على نحو يفسر أسباب تريث القاهرة حتى الآن في التعامل معها. وقد انعكس موقف القاهرة في هذا السياق في تأكيد وزير الخارجية الدكتور بدر عبد العاطي، خلال مشاركته في الاجتماع الوزاري العربي الموسع في الرياض حول سوريا، في 12 يناير 2025، على ضرورة تكاتف المجتمع الدولى للحيلولة دون أن تكون سوريا مصدراً لتهديد الاستقرار فى المنطقة أو مركزاً للجماعات الإرهابية، وبحيث لا يتم إيواء أى عناصر إرهابية على الأراضى السورية، بما قد يمثل تهديداً أو استفزازاً لأى من دول المنطقة.

2- الوضع الأمني المعقد في سوريا، حيث ما تزال العديد من المناطق السورية تشهد توترات أمنية، ما يشكل تحدياً كبيراً أمام أي مشروعات طاقة مستقبلية للشركات المصرية هناك. فمن غير المرجح في المستقبل القريب أن تخاطر شركات الطاقة المصرية (والعالمية أيضاً) بالعمل في سوريا في ظل بيئة مضطربة أمنياً وسياسياً. وفي الغالب، ستنتظر هذه الشركات استقرار الأوضاع السياسية والأمنية، وهو الأمر الذي لن يتأتى إلا بتنفيذ عملية سياسية تشمل كافة أطياف الشعب السوري، ووضع دستور جديد للبلاد، وإجراء الانتخابات لاختيار رئيس وحكومة وبرلمان يحظون بالدعم الشعبي والدولي.

3- صعوبة تأمين التمويل اللازم لمشروعات الطاقة في سوريا، نتيجة استمرار العقوبات الاقتصادية على سوريا، خاصة من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا، وأبرزها قانون قيصر الأمريكي لعام 2020. إذ يفرض هذا القانون قيوداً صارمة قد تحد من قدرة الشركات المصرية على التوسع في مشروعاتها على الأراضي السورية. إلا ان هذا التحدي ربما يتراجع نسبياً، في المدى المنظور، بعدما أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية، في 6 يناير 2025، الرخصة العامة رقم 24، والتي تسمح بتنفيذ عدد من المعاملات مع المؤسسات الحكومية السورية حتى 7 يوليو 2025. وتشمل هذه الرخصة: المعاملات مع المؤسسات الحكومية السورية بعد 8 ديسمبر 2024، ودعم صفقات تتعلق ببيع وتوريد وتخزين وتبرعات الطاقة، بما في ذلك النفط والغاز الطبيعي والكهرباء داخل سوريا أو إليها، وتحويل الحوالات الشخصية غير التجارية إلى سوريا عبر المصرف المركزي السوري.

على أية حال، يمكن القول إن مصر، بفضل إمكاناتها الكبيرة كمركز إقليمي لإنتاج وتجارة الطاقة، تستطيع أن تمارس دوراً مهماً في دعم وإصلاح قطاع الطاقة في سوريا، بما يعزز قدرة الشعب السوري الشقيق على استعادة عافية هذا القطاع، سواء من خلال إمدادات الغاز والكهرباء، أو عبر إعادة تأهيل البنية التحتية، بما في ذلك إصلاح منشآت النفط والغاز التالفة، وصيانة خطوط الأنابيب، ومحطات التكرير أو عن طريق التعاون في مشروعات الطاقة  المتجددة.

ورغم التحديات التي قد تواجه التعاون بين البلدين في قطاع الطاقة، فإن فرص هذا التعاون ومنافعه المتبادلة للشعبين الشقيقين تبقى كبيرة وتستحق الاستكشاف، من خلال إرسال وفد مصري، من الخبراء والأكاديميين ورجال الأعمال وممثلي الشركات المصرية الكبرى في الطاقة، للتعرف عن قرب على الوضع الحالي للطاقة في سوريا، وتقييم الاحتياجات السورية، والحوار مع النظراء السوريين لبحث سبل التعاون المحتمل بين الجانبين.

كذلك، قد يكون من الضروري والمفيد أيضاً التنسيق مع عدد من الدول العربية الشقيقة، بشأن إنشاء صندوق عربي متخصص لتمويل مشروعات الطاقة في سوريا، وذلك لموازنة التأثير المتنامي لدول أخرى في رسم مستقبل سوريا، ولضمان حصول الشركات المصرية والعربية على حصة مهمة في مشروعات إعادة أعمار سوريا، والتي تقدر بحوالي 400 مليار دولار، وفقاً لعدد من التقديرات المتاحة.