صافيناز محمد أحمد

خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

عكست الزيارة التى قام بها رئيس الوزراء العراقى محمد شياع السودانى إلى طهران فى 8 يناير 2025، عدة دلالات تتعلق بطبيعة العلاقات العراقية-الإيرانية ومسارها خلال المرحلة المقبلة فى ظل التطورات الإقليمية الراهنة، لاسيما بعد مرور شهر تقريبا على الحدث الإقليمى الأبرز والمتمثل فى سقوط نظام بشار الأسد فى سوريا يوم 8 ديسمبر 2024، وهو الحدث الذى سيغير بالضرورة فى خريطة التفاعلات الدولية والإقليمية فى منطقة المشرق العربى ككل.

 الجدول المعلن لزيارة السودانى لإيران تضمن مناقشة القضايا التى تتعلق بالملفات ذات الاهتمام المشترك بالنسبة للدولتين؛ لاسيما الغاز والاقتصاد بالنظر إلى ما تمثله العراق من منفذ اقتصادي لإيران تخفف عبره وطأة العقوبات الدولية المفروضة عليها من ناحية، بالإضافة إلى مناقشة القضايا المتعلقة بمستجدات التطورات الإقليمية الأخيرة فى سوريا من ناحية ثانية.

تأتى الزيارة فى ظل المتغيرات الجديدة التى تشهدها المنطقة، الأمر الذى أكسبها أبعادا أخرى مهمة يتعلق أبرزها بالموقف من الحشد الشعبى ومليشياته التى كانت تشارك فى جبهة إسناد محور المقاومة الإقليمى على هامش عملية طوفان الأقصى فى أكتوبر 2023، وذلك قبل أن يتم "تقييد" عمل هذه المليشيات ضمن المحور بفعل الظروف التى واجهها الأخير؛ لاسيما بعد تراجع نفوذ إيران باعتبارها الراعى الإقليمى للمحور من ناحية، فضلا عن خسارة الركن الرئيسى فيه وهو حزب الله اللبنانى وقبوله اتفاق وقف اطلاق النار مع إسرائيل يوم 27 نوفمبر 2024 من ناحية ثانية، ونجاح رئيس الوزراء العراقى شياع السودانى فى "تحييد" مليشيات الحشد ووقف عملها ضمن المحور نفسه من ناحية ثالثة، وهو ما انعكس فى كلمة السودانى -يوم 6 يناير 2025- التى ألقاها ضمن فعاليات الحفل الذى أقامته "هيئة الحشد الشعبى" بمناسبة الذكرى الخامسة لاغتيال أبو مهدى المهندس نائب رئيس الهيئة، وقاسم سليمانى قائد فيلق القدس بالحرس الثورى الإيرانى فى بغداد مطلع يناير 2020، حيث قال:" نجحنا فى إبعاد العراق عن الحرب والحزام النارى الذى كاد يتسع فى المنطقة".

معضلة الحشد الشعبى

كان موضوع الحشد الشعبى حاضرا وبقوة على اجتماعات رئيس وزراء العراق شياع السودانى خلال زيارته لطهران؛ خاصة عند لقائه مع المرشد الأعلى على خامنئى، حيث طالب الأخير السودانى بضرورة الحفاظ على بقاء هيئة الحشد الشعبى باعتبارها جزءاً من الحكومة العراقية والإطار التنسيقى الشيعى الحاكم، فضلا عن مطالبته كذلك بالحفاظ على "فصائل" الهيئة من المليشيات المسلحة باعتبارها الأداة "الحافظة" لاستقرار منظومة الحكم الشيعية فى العراق.

 وهنا، اختلفت الرؤى المفسرة لطبيعة المناقشات التى دارت بين السودانى والمسئولين الإيرانيين حول هذا الموضوع؛ فثمة تفسيرات تقول بأن إيران، التى فقدت الكثير من نفوذها فى المنطقة بتراجع حزب الله اللبنانى، تحاول الحفاظ على ما تبقى لها من أذرع مليشياوية فى المنطقة عبر دفع الحكومة العراقية للحفاظ على بقاء مليشيات الحشد الشعبى قائمة كما هى دون "تفكيك" محتمل مستقبلا، بل والعمل على تقويته، وأنها (أى إيران) ستعمل على تقليل فرص استعمال تلك المليشيات فى سياق الضغط على المصالح الأمريكية فى العراق خلال المرحلة القادمة، بما لا يؤدى إلى وضع العراق فى موقف صعب عند إدارة علاقاته الخارجية فى المنطقة وتحديدا تجاه الولايات المتحدة.

وعلى الجانب العراقى؛ حاول رئيس الوزراء شياع السودانى "حسم" سيناريوهات وخيارات التعامل حيال مستقبل هيئة الحشد الشعبى مع المسئولين الإيرانيين خلال تلك الزيارة، لاسيما بعد ما أشيع عن تلقى الحكومة العراقية -فى 4 يناير الجارى-  "تحذيرا" أمريكيا من الرئيس المنتخب دونالد ترامب بشأن حل فصائل هيئة الحشد المسلحة، وحصر السلاح المنفلت، وتقليص دور إيران وتأثيرها على قرار العراق السيادى، وهو التحذير الذى استدعى كذلك ردا سريعا تمثل فى تأكيدات السودانى، خلال فعاليات الذكرى السنوية الخامسة لتأبين أبو مهدى المهندس وسليمانى، التى أقيمت فى 6 يناير الجارى، على أن "الحشد الشعبى جزء لا يتجزأ من المؤسسة العسكرية العراقية"، الأمر الذى استدعى التعجيل بزيارة السودانى لإيران لمناقشة الأمر نفسه مع المرشد الأعلى على خامنئى والرئيس بزشكيان.  

يضاف إلى ذلك الزيارة غير المعلنة التى قام بها قائد فيلق القدس إسماعيل قاآنى لبغداد قبيل زيارة رئيس الوزراء العراقى لإيران؛ والتى التقى فيها مع رئيس الوزراء العراقى وممثلى كافة فصائل الحشد الشعبى وقادة الهيئة نفسها، وقيل عن زيارة قاآنى أنها استهدفت الاطلاع على "خطة عمل" وضعتها الحكومة العراقية بشأن الحشد الشعبى تتضمن "تفكيكاً جزئياً" لبعض المليشيات، ودمج البعض الآخر فى ألوية عسكرية ضمن المؤسسة العسكرية الرسمية، وتحويل البعض الثالث لكيانات سياسية بعد نزع سلاحها.

 ويبدو أن الهدف الرئيسى لخطة العمل هذه هو تجنيب العراق أى استهداف إسرائيلى-أمريكى محتمل حال وصول الرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب للسلطة فى 20 يناير الجارى. ووفقا لمصادر، فإن المقترح السابق طرحه – تفكيك بعض المليشيات ودمج البعض الآخر ونزع سلاح البعض الثالث– لم يجد له صدى لدى قادة مليشيات الحشد ، وأنهم أبلغوا السودانى برفض المقترح، ما استدعى قيامه بزيارة إلى طهران لحث المرشد الأعلى على خامنئى على ممارسة ضغوط فعالة تجاه الفصائل العراقية لحملها على الاستجابة لخطة العمل المطروحة، خاصة وأن من المتوقع أن يمارس ترامب دورا ضاغطا على حكومة السودانى بشأن الفصائل نفسها، وهو الضغط الذى قد يصل إلى مرحلة "فرض الشروط" بقوة لإنهاء النفوذ الإيرانى فى العراق على شاكلة ما تم فى لبنان وسوريا.      

التطورات السورية

وبخلاف ما يمثله متغير "الحشد الشعبى" من معضلة فى العلاقات العراقية-الإيرانية ومستجدات تراجع النفوذ الإيرانى فى المنطقة، تأتى التطورات الحادثة على الساحة السورية لتزيد من معضلات تلك العلاقات وتبايناتها المختلفة؛ فثمة أنباء تقول بأن "الرسائل المحددة" التى تم إرسالها لرئيس الوزراء العراقى شياع السودانى من الرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب، لم تكن تتعلق بـ "هيئة الحشد الشعبى" العراقية الموالية لإيران فقط، وإنما تضمنت إشارات إلى الوضع فى سوريا أيضا، بل إن السودانى حمل رسائل لإيران أيضا من بعض دول المنطقة تحثها فيها على ضرورة التوقف عن "زعزعة الاستقرار والأمن فى المنطقة"، ومن الإدارة المؤقتة الجديدة فى سوريا كذلك؛ أى من القائد العام أحمد الشرع نفسه– نقلها وفد أمنى عراقى زار دمشق فى 26 ديسمبر 2024- يحثها فيها على "عدم زعزعة أمن واستقرار سوريا كما كان الوضع سابقا".  

وهنا انعكست تخوفات الإدارة السورية الجديدة من تهديدات إيرانية مستقبلا تستهدف القواعد الأمريكية فى سوريا، فى وقت تحاول فيه تلك الإدارة تحقيق الاستقرار الداخلى، وتسيير شئون الحياة اليومية للسوريين، ودعم البنية الاجتماعية والاقتصادية، تمهيدا للحصول على اعتراف دولى وإقليمى يمكنها فى مرحلة لاحقة من رفع العقوبات المفروضة عليها بصورة شاملة، بعد أن نجحت فى الحصول على رفع جزئى للعقوبات الأمريكية فى 7يناير 2025.

ومن هنا، فإن السودانى وخلال زيارته لطهران نقل تخوفات الإدارة السورية الجديدة للمسئولين الإيرانيين- نقلها الوفد الأمنى العراقى خلال زيارته لدمشق نهاية العام الماضى - ومضمونها يشير إلى أن سوريا الجديدة لم تعد "ساحة نفوذ إيرانية" كما كانت سابقا. وتتأكد تخوفات الإدارة السورية الجديدة من سيناريو تسعى له طهران مستقبلا، قد يشير إلى محاولات استعادة النفوذ فى سوريا مجددا، وهى التخوفات التى تعكسها تصريحات المسئولين الحكوميين فى إيران وتتداولها تقارير الإعلام والصحف التى تروج لوجود حالة من الفوضى فى سوريا قد تؤدى إلى حرب أهلية داخلية. ووفقا لهذا، فإن ثمة من يعزى التوترات والفوضى التى شهدتها مناطق فى حمص واللاذقية وطرطوس مؤخرا إلى مسئولية عناصر تابعة لإيران من فلول النظام السورى القديم.

وبالتالى، يحاول الشرع التأكيد للعراق على أن استقرار سوريا من شأنه الحفاظ على استقرار وأمن العراق، ومن ثم فلا يجب استخدام المليشيات العراقية الموالية لإيران فى تهديد أمن سوريا فى المرحلة الانتقالية الجديدة، من باب أن أمن العراق –إذا أرادت إيران الحفاظ عليه– يستدعى تخلى الأخيرة عن فكرة تصدير الفوضى مجددا داخل سوريا عبر المليشيات العراقية، وهى رسالة تخاطب أيضا السودانى نفسه الذى أبدى مؤخرا عدم رضاه عن محاولات جر العراق –من خلال المليشيات مجددا– للعب دور غير مرغوب فيه داخل الساحة السورية.

دلالات مهمة

وفقا للمعطيات السابقة، فإن زيارة رئيس الوزراء العراقى لطهران حملت دلالاتين: أولاهما: تتعلق بالموقف العراقى من "هيئة الحشد الشعبى"، فهو لايزال يشكل نقطة الخلاف الرئيسية فى العلاقات بين العراق وإيران، وأن هذا الخلاف فى سبيله للتصاعد مستقبلا، إذا ما أصرت إيران على عدم تفكيك المليشيات أو القبول بالخطة التى وضعتها حكومة السودانى السابق الإشارة إليها، وهو ما سيستدعى تدخلاً أمريكياً قد يحمل أحد احتمالين: الأول، توجيه ضربات قاضية وقوية للفصائل التى شاركت فى دعم محور المقاومة الإقليمى، والتى ترفض مقترح تفكيك تنظيماتها وتسليم سلاحها للمؤسسات الأمنية بالدولة العراقية وهى تحديدا: حزب الله اللبنانى، وحركة النجباء، وكتائب سيد الشهداء. والثانى: توجيه سياسى مباشر من قبل الرئيس الأمريكى المنتخب ترامب - حال توليه السلطة- بفرض عقوبات رادعة تجاه القادة السياسيين لهيئة الحشد الشعبى كلها – على غرار العقوبات التى فرضتها وزارة الخزانة الأمريكية على حزب الله العراقى وكتائب سيد الشهداء- وربما على قوى الإطار التنسيقى الشيعى ككل. وإن كانت التطمينات الصادرة عن ترامب عبر رسائله الأخيرة للسودانى تشى بأنه لن يسعى إلى إحداث تغيير سياسى فى العراق؛ بمعنى أنه لن يستهدف الإطار التنسيقى باعتباره قوة سياسية رسمية، حتى لا يؤدى ذلك إلى إدخال العراق فى فوضى سياسية توفر فرصا لإيران لتوسيع نفوذها فيه.     

وثانيتها، تشير إلى التأكيد على استمرارية العلاقات الاقتصادية بين العراق وإيران قائمة، بالرغم من التباين فى وجهات النظر بشأن هيئة الحشد الشعبى والوضع فى سوريا؛ حيث تعد العلاقات الاقتصادية واستمراريتها "مصلحة مشتركة" للدولتين؛ فالعراق يحتاج امدادات الغاز الإيرانية التى يعتمد عليها كلية فى توليد الكهرباء، بخلاف المشروع المرتقب مع تركمانستان المتعلق بخط الغاز الجديد الذى سيمر بالأراضى الإيرانية. وإيران تحتاج العراق لأنها السوق الإقليمى الذى تتجاوز عبره العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة عليها. والعامل الاقتصادى تحديدا هو ما يدفع البلدين إلى" تحييد" التباينات السياسية فى وجهات النظر حيال التطورات التى شهدها الإقليم منذ عملية طوفان الأقصى فى أكتوبر 2023، وما تبعها من تفاعل من قبل محور المقاومة الإقليمى برعاية إيران مع تداعياتها، وهى التباينات التى ازدادت حدتها مؤخرا على وقع العلاقة بين إيران وقوى هيئة الحشد الشعبى العراقية. وجدير بالذكر فى هذا السياق أن إيران، وعلى مدى الأسبوعين الماضيين، أوقفت إمداد العراق بالغاز ويرجع البعض هذا التصرف من باب الضغط على الحكومة العراقية بهدف منعها من سيناريو "تفكيك الحشد الشعبى". 

فى الأخير، يمكن القول إن رئيس الوزراء العراقى شياع السودانى لايزال يرغب فى الحفاظ على "سياسة التوازن" التى طالما انتهجها فى إدارة علاقات حكومته الخارجية سواء تجاه الولايات المتحدة أو إيران؛ ولا يرغب فى خسارة أى من الحليفين نظرا لأهميتهما بالنسبة لملفىَ الاقتصاد والأمن العراقيين. لكن وفى ظل عدم قدرته – حتى الآن- على إحداث خرق لافت فى موقف إيران الرافض تفكيك الحشد الشعبى وما يرتبط به من حصر السلاح بيد الدولة، فمن المتوقع أن تشهد علاقته بترامب خلال المرحلة المقبلة توترا متصاعدا، سينعكس ذلك بالضرورة على التفاهم الضمنى بشأن الانسحاب الأمريكى من العراق على مرحلتين تنتهى فى عام 2026، وهو التفاهم الذى توصل إليه السودانى مع إدارة الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن خلال عام 2023.