التلاعب بالوعى القيمى للمجتمع، عبر استيراد المفاهيم وتشتيت الإدراك القيمى ووضعهما فى سياق ثقافى مغاير، بدون أن تتطور ثقافة المجتمع ومؤسساته وتتماهى مع هذه الثقافة وما تعكسه من قيم، كل هذا يضعنا أمام معضلة أكبر من الصدام بين ثقافتين أو صنع مساحة للتصنيف والفرز والتباعد وبناء الفقاعات الاجتماعية، ويضعنا في حالة من الضبابية والسيولة المجتمعية المنعكسة فى ثوابت الهوية والذاتية والوعى بمسارات التحولات.
وهنا يجب التفرقة بين القيم الإنسانية التى ترتبط بالإنسانية كالمحبة والاحترام والكرامة والتسامح وغيرها من قيم دالة على مدى إنسانية الإنسان، وبين ما فرضته الحداثة وما بعدها من قيم وإدراك مختلف لهذه القيم من حيث النزوع لـ «الفردانية» والقيم المادية والاستهلاكية ومردودها المجتمعى الناتج عن كون الفرد هو محور المجتمع، وحقوقه وواجباته ينظمها القانون، والنظام الديمقراطى، ولذا تظل القيم العليا المجتمعية محكومة بدرجة تطور المجتمع وثقافته وإدراكه المواطنين لذاتهم.
فى المقابل تبدو «متلازمة الفردانية والحرية» متلازمة ضعيفة وقاصرة فى واقع مجتمعاتنا التقليدية، حيث ترتبط بعادات وتقاليد وثقافة تمثل محددات حاكمة لطبيعة التفاعلات المجتمعية ومقياسًا لطبيعة مسارات التحول وعمقها. ولذا ليس غريبا أن نشهد هذا التناقض والتباعد الاجتماعى المعبر عن تباين المرجعيات الحاكمة للسلوكيات والضوابط الاجتماعية وقد أصابها الكثير من العطب والضعف. وإن حركة المجتمعات التقليدية وتحولاتها غير منضبطة ومتجاوزة الكثير من السياقات القديمة، فالانتقال من مجتمعات تقليدية إلى مجتمعات حديثة لم تتواكب معه عمليات التنمية والتحديث التى مرت بها مجتمعات الحداثة، وبالتالي تبدو معضلتنا، وكأننا قد علقنا فى المنتصف؛ فلم نحافظ على مرتكزات وضوابط المجتمع التقليدى ومؤسساته ومنظوره القيمى، ولا انتقلنا إلى المجتمع الحداثى بمؤسساته ومنظوره القيمى.
أولاً: المنظور القيمى للمجتمع
المعضلة إذًا تتجاوز محاولات التحديث الشكلى التى تتجلى فى مجتمعاتنا التقليدية، وقشور الحداثة التى تغطى العمق الثقافى والتراثى والقيمى المجتمعى. ورغم الحراك المجتمعى والجيلى الواسع والسعى للتماهى مع الثقافة الغربية وقيمها بوتيرة أسرع من ذى قبل، تظل حالة السيولة والتباعد الاجتماعى والفجوة بين الأجيال، مظاهر اجتماعية تعبر بوضوح عن حالة التناقض والصراع القيمى وتباين الإدراك والمرجعية الثقافية والأخلاقية.
لذا فالقضية تتجاوز الحديث عن مفهوم، مثل: الاستعلاء، أو الحرية، أو المساواة، أو غيرها من المفاهيم ذات المضامين القيمية، المعضلة تكمن فى الإدراك القيمى لهذه المفاهيم ومردودها المجتمعى، حيث يتباين المردود القيمى والوعى المجتمعى لها داخل المجتمع الواحد (بين المجتمعيات المحلية) وبين المجتمعات وبعضها بطبيعة الحال، خاصة مع غلبة الثقافة التقليدية. ولذا تبدو أهمية الوعى الجمعى وتحرير المفاهيم والمفردات قبل صياغاتها فى الخطاب العام وإعطائها مدلولات قيمية مختلفًا عليها مجتمعيا، أو تحميلها بقيم ومعانٍ تتجاوز السياق والإدراك المجتمعى. فالفرق بين الاستعلاء والتكبر والتفاخر -وهى قيم سلبية- نجد أنها تتقاطع مع الشعور بالاعتزاز والتفوق والتميز وهو شعور ذاتى يمكن أن يمثل قيمة إيجابية أو نوعًا من التراتبية المقبولة مجتمعيا مثل الانتساب لجماعة أو عائلة أو شريحة اجتماعية على أساس دينى أو ثقافى أو طبقى.
بمعنى أدق إن استخدام المفاهيم والمصطلحات المحملة بدلالات قيمية يجب النظر إليه من خلال الإدراك المجتمعى، فمثلا النكت الساخرة أو الكلمات التى تحمل قدرًا من الاستعلاء أو التكبر أو الطبقية هل يمكن توصيفها كنوع من التمييز والوصول بها إلى كونها خطاب كراهية، أم هى طبيعة مرتبطة بالشخصية المجتمعية ودلالات ذات طابع محلى تعبر عن السخرية من الواقع والقفز على المعاناة والظروف الصعبة، وهو ما يتجلى بوضوح فى النكتة المصرية الساخرة من الصعايدة أو أهل بحرى أو بعض فئات المجتمع. من هنا تأتى أهمية، وضع هذه المفاهيم فى سياقها الثقافى والقيمى العام المعبر عن هوية وشخصية المجتمع، كمرتكز لدعم الترابط المجتمعى بقدر أكبر من كونها مساحة فردية تساعد على زيادة الفقاعات والتباعد الاجتماعى.
واتساقًا مع هذا المنظور، تبقى قضية التوافق المجتمعى على منظومة القيم -والتى تمثل بتكاملها الثقافى والوجدانى التيار الرئيسى المعبر عن التفاعلات الاجتماعية- محددًا حاكمًا لدرجة تجانس المجتمع. ولذا تتجلى الإشكالية الكبرى فى حالة السيولة المجتمعية التى تغلب على المجتمعات التقليدية، ومنها المجتمع المصرى، وما يتنازعه من تعددية ثقافية سواء على مستوى الهوية الأم أو الهويات الفرعية، وتتجلى أيضًا فى عمق تلك المفاهيم وحقيقة ارتباطها بالمكون الثقافى، الأمر الذى يجعل من الخطاب العام وما يحمله من مضامين وكلمات محل الكثير من الخلاف على الإدراك والسلوك الاستعلائي وعلاقاتها الارتباطية بالمكانة الاجتماعية والهوية الوطنية والاجتماعية والنوعية على سبيل المثال.
ثانيا: الثقافة الهجينة وعمقها القيمى
الاستعلاء لا شك أنه قيمة سلبية، ولكنها فى نفس الوقت فكر وسلوك معبر عن الواقع المجتمعى ليس فى مجتمعاتنا التقليدية فقط، ولكن فى المجتمعات الحديثة أيضًا، فهى جزء من هيكل تنظيم المجتمعات سواء اتخذ هذا الاستعلاء شكلاً طبقيًا أو اجتماعيًا أو عرقيًا أو ثقافيًا، وإن كان فى المجتمعات التقليدية يأخذ شكلاً أعمق فى التعبير عن السلطة والنفوذ المجتمعى والهيراركية من خلال القبيلة والعائلة والانتماء الطبقى وهى السمة الغالبة، أو يأخذ شكلاً أيدلوجيًا وعرقيًا وجندريًا ودينى فى المجتمعات الحديثة. وإن كانت الجماعة هى الفلسفة الحاكمة فى المجتمع التقليدى، فإن الفرد واختياراته هما الحاكمان فى المجتمعات الحديثة. فهناك أنماط من الاستعلاء العابرة للمجتمعات التى يمكن أن نعرفها مجازا بكونها “ثقافة عولمية سلبية”، لأنها ترتبط بالطبيعية البشرية ومعادلات الخير والشر، ومنظور القوة والسلطة مقابل العدالة والشعور بالمظلوميات، وتغيير أنماط الحياة والأدوار والمسئوليات للرجل والمرأة، وغلبة الثقافة الغربية وحركة المجتمعات.
ومن ثم يبقى التساؤل حول مستقبل الإنسانية وعلاقاتها بالاستعلاء ومرادفاته كالأنانية والاستغلال والتكبر والغرور، باعتبارها أمراضًا نفسية فردية، تمتد وتتعمق لتمثل أمراضًا مجتمعية مع غيرها من المفاهيم المتعلقة بالتمييز أو العنصرية أو الكراهية؟. وإذا ما كنا نتحدث عما بعد الإنسانية والميل نحو فقد الكثير من القيم الإنسانية لصالح المادية والقوة والمصالح والآلة، وهو ما تزايدت وتيرته مع الثورة التكنولوجية الرابعة، وما سوف ترسخه الثورة التكنولوجية الخامسة من تماهٍ بين الإنسان والآلة والسعى نحو ميكنة الإنسان وأنسنة الآلة، وهو تحدٍّ كبير مفروض ليس على مجتمعاتنا المحملة بالثقافة الهجينة (التقليدية والحداثية) ولكنه تحدٍّ يفرض نفسه على جميع مجتمعات العالم.
ثالثًا: السؤال الأكبر والمحورى
لا نستطيع النظر لمفهوم الاستعلاء بدون أن نأخذ فى الاعتبار طبيعة الشخصية الوطنية وإدراكاتها لمنظومة القيم ككل، وما يرتبط بها من شعور متعلق بالوعى الذاتى وعلاقة الفرد بالمجتمع، فتحليل السلوك الاستعلائى ودرجات قبوله مجتمعيا، يخضع لدرجة المزج والجمع الهجين بين ثقافة واعراف وقيم تقليدية ونظيراتها فى الحداثية.
وهو ما يقودنا للتساؤل عن الأخلاق وعلاقتها بمنظومة القيم الحاكمة، وكيفية إدراكها المتباين داخل المجتمع الواحد، وبالتالى كيف نحدد ونفهم مسارات تحولات مجتمعنا المصرى من منظور هويته وخصوصيته وموقعنا من العالم. فالمسألة ليست مفاهيم وقيمًا حديثة نتعايش معها ويتضمنها خطابنا، ولكنها منظومة متكاملة من القيم والأخلاق والإدراك تشكل الفكر والعقل الجمعى مما ينعكس فى السلوك وفى طبيعة التفاعلات الاجتماعية، كما أن المسألة ترتبط بهيكل تقسيم المجتمع والعلاقة بين مكوناته، وعلاقات ذلك كله بطبيعة مؤسساته والسلطة والنفوذ والقبول المجتمعى.
كما يجب الأخذ فى الاعتبار التراكمات الثقافية وما يرتبط بها من عرف مجتمعى يتطور مع الزمن، فالتحولات المجتمعية التى تنظر الآن للماركات العالمية والتعليم الأجنبى والمطاعم والكمباوندات باعتبارها معايير تفضيلية أو تميُّزية، مثلها مثل الطبقة والانتساب لعائلات بعينها، أخذت منحنيات إضافية تتعلق بالنظر لتلك التحولات الحديثة باعتبارها نوعًا من الرقى الثقافى والإنسانى، وهو ما يضعنا أمام تحدٍّ آخر حول مرجعيات القياس وتباين الادراكات فى مجتمعات تتعدد فيها المستويات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وتتنامى من خلالها مشاعر الاستعلاء الفردية، خاصة عند الحديث عن التقدم والتخلف والرقى الثقافى.
بالطبع لا تمثل هذه الظاهرة أو المشكلة تطورا جديدا فى الحالة المصرية، إنما هى قضية ممتدة وإن أخذت مسميات أخرى تتوافق مع التحولات المعاصرة، ولكن الجديد هو العمق المجتمعى وليس الخلاف النخبوى أو الطبقى الذى كان، وعبرت عنه الحوارات التاريخية عن التقدم والهوية والانتماء. بعبارة أدق، إن ترشيد الخطاب العام ومحاولات تصحيح الإدراك الخاصة بالمفاهيم ذات الدلالات القيمية، لن تتحقق بدون الربط بعدد من الخطوات الأساسية، نذكر منها:
أهمية استناد هذا الخطاب إلى نموذج تنموى معرفى بمضامين قيمية وثقافية واضحة، يتجاوز القيم الاستهلاكية والمادية التى أصبحت حاكمة للهوية والذاتية الفردية، وأن تتجاوز الحالة الهجينية الراهنة التى أنتجت مجتمع السيولة كما يشخصه عالم الاجتماع البولندى زيجمونت باومان.
مسألة التفكيك المجتمعى تقوم على تقويض البناء القديم، وإقامة بناء جديد من خلال استغلال التناقضات أو النعرات، وهو ما يتطلب رصد التحولات ومساراتها وعمقها المجتمعى، حتى يمكن المحافظة على وحدة وتماسك المجتمع فى ظل عمليات التفكيك التى تستهدف الدول والمجتمعات لصالح الفرد حاليا، والفرد والآلة مستقبلا.
النسبية الثقافية مرآة عاكسة للنسبية الأخلاقية التى يحددها السياق المجتمعى والواقع الراهن، وهى متغيرة بطبيعة الحال نتيجة أننا نتحدث عن مجتمع حى يتطور بتطور نظرة الأفراد ووعيها للأخلاق ومردودها القيمى، فمفاهيم العيب تغيرت وردود الفعل تباينت، فشرب القهوة كان غير مقبول، والجلوس فى القهوة والكافيه كان للرجال من كبار السن، وكان من غير اللائق اجتماعيا تدخين الشباب ومستهجن بالنسبة للفتيات، وهى سلوكيات أصبحت توضع تحت قيمة الحرية بمنظور «الفردانية» والثقافة الغربية.
القضية إذا ليست فى المفاهيم ومردودها القيمى، ولكنها تعبر عن جوهر وفلسفة الحياة وموقع الإنسانية منها، ورغبتنا كمجتمع ودولة مصرية فى تحديد أى من مسارات البناء ننتهج. فهناك تجاذب بين منظورين فى الصراع الاجتماعى من أجل تعزيز المادية أو الروحانية، العقل أم القلب، الفردية أم الجماعية، التملك المادى للقوة أم التملك الإنسانى المرتكز للقيم السماوية والفطرة الإنسانية. وهناك نماذج تنموية عديدة نجحت فى صياغة مشروع بنائها مع المحافظة على خصوصيتها وهويتها.
لذا علينا الاختيار وتحديد مسار البناء نحو النموذج المصرى المستهدف، أما البقاء فى حالة السيولة المجتمعية والثقافة الهجينة، فإنه سوف يزيد من عبء وتكلفة البناء ومسايرة التقدم نحو المستقبل، وسوف يحد من إمكانية بناء نموذج تنموى معرفى قيمى ثقافى متكامل. فالحرص على بناء نماذج تنموية متعددة كما نشهدها الآن فى صورة الصين أو الهند أو إندونيسيا أو ماليزيا أو غيرها من الدول التى تسعى لتقديم نماذج تنموية تجمع بين الخصوصية الثقافية ومتطلبات التقدم العلمى والتكنولوجى. فأزمة الحضارة الحديثة الغربية والتقدم الآن أنهما يقومان على اختلالات كبرى للطبيعة والإنسانية. وهو ما يضعنا جميعا أمام حالة اللايقين التى تمثل التحدى الأكبر، والتى تعرفها دورات الحضارة.
إن عملية البناء التى يحتاجها الإنسان المصرى، تبدأ بتحديد المرجعيات وأسس البناء الثقافى والفكرى والقيمى والتنموى، حتى يكون البناء على أرض صلبة وعاكسة للخصوصية والوعى الذاتى والوجدانى والعقل الجمعى للمصريين.