د. ياسمين أحمد الضوي

باحثة في العلاقات الدولية متخصصة في الشئون الروسية

 

في خضم عدد هائل من التحليلات الغربية التي ترى أن سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، يعد بمثابة فشل للمشروع الروسي في سوريا القائم على تأكيد قدرة روسيا على حماية حلفائها وعلى إخماد الصراع المستعر بالطرق السلمية، وضربة تهدد مستقبل نفوذها بالمنطقة برمتها، وكذلك في ظل عدم التفاؤل الذي صاحب تعليقات الخبراء البارزين في روسيا، يخرج الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين من صمته في 19 ديسمبر الفائت، ليؤكد أن "روسيا لم تهزم في سوريا وأنها حققت الأهداف التي دفعت للتدخل العسكري الروسي هناك عام 2015 خاصة فيما يتعلق بمحاربة الإرهاب والحيلولة دون تحول سوريا إلى إحدى البؤر الإرهابية كأفغانستان"، بل إنه أشار إلى "تطويع" المعارضة السورية وإخضاع المسلحة منها لتغييرات داخلية كبيرة. هذه التصريحات وإن بدت لدى البعض محاولة من بوتين لإنقاذ صورة روسيا الضعيفة في مواجهة الضغوط والانتقادات الغربية، إلا إنها أثارت تساؤلات حول المغانم "الخفية" التي يمكن أن تكون تحققت لروسيا من جراء موقفها وتخليها عن ورقة الأسد.

تخاذل أم براجماتية؟

أثار الموقف الروسي من الأحداث السورية منذ بدأ زحف المعارضة حتى دخول العاصمة دمشق دهشة العديد من النقاد والمحللين. ففي خلال إثنى عشر يوماً، شهد الموقف الروسي تحولاً دراماتيكياً من معادلة دعم الأسد إلى التحول عن مساندته. إذ قامت روسيا بداية بتصعيد غاراتها الجوية على عدد من مدن الشمال الغربي السوري في محاولة للرد على تقدم المتمردين، كما أبدت استيائها من التطورات بإقالتها سيرجي كيسيل الجنرال المسئول عن قواتها في سوريا، وأعرب عدد من المراقبين والمسئولين العسكريين عن غضبهم من الخسارة المفاجئة والسريعة للأراضي التي ساعدت روسيا على استعادتها على مدار السنوات الماضية[1].

ومع السلوك العسكري المتواضع، اتسم موقف موسكو الدبلوماسي بالحذر والترقب وإن بدا متحمساً في بادئ الأمر تجاه دعم النظام السوري. فقد صاحب بدايات الأحداث اتصالات بين موسكو ودمشق أبدت فيها الأولى دعمها للأسد ورغبتها في العودة للعمل وفق صيغة آستانا من أجل استعادة مناطق خفض التصعيد في المنطقة، أي رغبتها في احتواء العمليات ضمن حدود اتفاق خفض التصعيد لعام 2019، الأمر الذي يحمل إشارة ضمنية بعدم رغبة روسيا في الانخراط بشكل كبير في المواجهات وتوفير غطاء جوي واسع[2]. وبعد أن أجرت محادثات في الدوحة مع كل من إيران وتركيا لتحقيق ذلك الهدف دون جدوى، أعلنت وزارة الخارجية الروسية بعد أيام معدودة عن قرار الأسد بالتنحي عن منصبه وطلبه اللجوء السياسي، وهو الموقف الذي أثيرت حوله تكهنات بحدوث اتفاق ضمني بين الأطراف الثلاثة على مخرج له وقيام روسيا بدور مركزي في إقناعه بالتنحي والفرار من البلاد مع عرضها لممر آمن لمغادرتها[3]. وبذلك تكون روسيا قد سعت إلى موازنة موقفها في ذلك الوقت الحرج بين النظام والمعارضة، فمع إظهار بوتين عدم تخليه عن "المخلصين" له وحلفائه السابقين بتقديم بلاده كملاذ آمن للرئيس السابق بشار الأسد وعائلته من جهة، قدم روسيا للمعارضين باعتبارها على الأقل صاحبة الدور الأهم في تسهيل وصول المتمردين إلى دمشق مع الحد الأدنى من إراقة الدماء من ناحية أخرى[4].

ويمكن وصف الموقف الروسي بالبراجماتية والحذر في الخطوات أكثر من وصفه بالتخاذل. إذ أن هذا السلوك دائماً يصاحب روسيا عند التعرض لأحداث مفاجئة مثل موقفها الحذر تجاه أحداث الربيع العربي في بدايتها. وكذلك عند قراءتها للوضع الميداني والتأكد من أن الانخراط لن يكون في صالحها مثل موقفها من قوة الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر بعد التدخل العسكري التركي في ليبيا، فدراسة الأحداث وعدم التسرع في الانخراط والسعى إلى الاستفادة القصوى من الوضع تعد من سمات السياسة الروسية في الشرق الأوسط وإن بدا موقفها ضعيفاً وخاسراً.

خسائر واضحة وتحديات في الأفق

قوبل الموقف الروسي من أحداث سوريا وسقوط بشار الأسد باستهجان شديد من قبل عدد كبير من المراقبين المتابعين للشأن الروسي خاصة في الإعلام الغربي الذي شن حملة موسعة رافقت هجوم المعارضة السورية كان أحد أهدافها البارزة هو إظهار الموقف الروسي في حالة ضعف وتراجع قدرته على التأثير على مجريات الأوضاع الميدانية وإعطاء الانطباع بأن القوات الروسية ليست مستعدة للتدخل في الصراع بسبب تركيزها على الجبهة الأوكرانية[5]. هذا ناهيك عن سرد الخسائر التي لحقت بروسيا والتي ستلحق بها في المستقبل بعد سقوط حليفها العربي، وهي خسائر بدأت بالفعل مع خسارة صورتها كحليف موثوق فيه قادر على ضمان بقاء شركائه، وهو الأمر الذي كانت تروج له روسيا منذ تدخلها في سوريا 2015 باعتبارها ضامناً للاستقرار وحامية للأنظمة من الضغوط الخارجية والتهديدات الداخلية واستحضار صورتها كبديل للولايات المتحدة الأمريكية التي فقد بعض حلفائها ثقتهم فيها، وفقاً لرؤيتها، هذا بالإضافة إلى المستقبل غير المؤكد لقواعدها العسكرية ودورها اللوجيستي واستثماراتها السابقة، وفقدانها لورقة ضغط في مواجهة الغرب[6]. فقد أجمع عدد كبير من الآراء على أن بوتين يواجه مع سقوط الأسد احتمال خسارة استراتيجية بعواقب بعيدة المدى ليس فقط على روسيا ومكانتها ونفوذها وإنما على مستقبل بوتين السياسي نفسه، إذ أن النجاح في الخارج أمر مهم لشرعية أي حاكم روسي وهو ما استطاع بوتين الحصول عليه خلال ربع القرن الماضي من دعم النخبة والشعب له عبر تأكيده على حقوق روسيا واستعادة مكانتها على الساحة الدولية[7]. ومع الخسائر التي تبدو واضحة للعيان، فقد تواجه روسيا في المرحلة القادمة تحديات عدة على سبيل المثال لا الحصر:

1- مستقبل القواعد العسكرية

يعد تحدي خسارة روسيا لقواعدها في سوريا من أخطر التحديات. فوجود القواعد ليس مرتبطاً بالتدخل العسكري في سوريا بل بالاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط وهدفها الجيوسياسي بالوصول إلى المياه الدافئة ووجود قواعد ارتكاز لها على البحر المتوسط وزيادة نفوذها بالمنطقة في مواجهة النفوذ الغربي. فقد كان من ضمن مكاسب روسيا العسكرية في ظل حكم بشار هو توسيعها لقاعدتها البحرية في طرطوس وإنشاء قاعدة جوية لها في حميميم، وهما نقاط تموين أساسية للعمليات العسكرية الروسية في ليبيا والساحل الأفريقي[8]. ويظل مستقبل القاعدتين غامضاً رغم تأكيد وزارة الخارجية عدم وجود تهديدات جادة ضد القاعدتين ولكنهما في حالة تأهب قصوى[9]، ورغم إشارة بوتين إلى تفكيره في الاحتفاظ بالقواعد العسكرية وإقامة علاقات مع مجمل الجماعات التي تسيطر على الوضع[10]، خاصة أن هناك مسئولين من الاتحاد الأوروبي يسعون إلى جعل خروج روسيا شرطاً لرفع العقوبات عن سوريا. وحتى لو نجحت روسيا في الاحتفاظ بالقاعدتين، فهناك احتمال بأن يبقى الوضع الأمني هشاً لدرجة أن روسيا سوف تتعرض لضغوط قوية في سبيل حماية القاعدتين اللتين ربما تكونا في مرمى الاستهداف.

2- علاقة روسيا بالنظام السوري الجديد

حتى الوقت الراهن، يظل الوضع مبهماً رغم وجود إشارات بتوجهات براجماتية من كلا الطرفين ورغبة كل طرف في الانفتاح على الآخر. ففي الساعات التي تلت فرار الرئيس بشار الأسد إلى موسكو، غيرت الدعاية الروسية موقفها من تصنيف "هيئة تحرير الشام"- الفصيل الرئيسي الذي قاد عملية الإطاحة بنظام الأسد- من "جماعة إرهابية" إلى "معارضة مسلحة". كما حاولت روسيا التواصل مع الحكام الجدد في دمشق، مشيرة إلى أن القواعد العسكرية قد تُستخدم لتقديم المساعدات الإنسانية. وعلى الرغم مما قد يبدو أن حركة المعارضة السورية، بعد معاناتها من القصف القوي لمناطقها من قبل الطيران الروسي، ستكون حريصة على طرد روسيا من سوريا، لكن روسيا لا تزال تمتلك أوراق ضغط، إذ يمكنها تقديم حوافز متنوعة، من المدفوعات المالية إلى المعدات العسكرية وحتى النفط، على الرغم من أن مواردها أصبحت محدودة بفعل الحرب في أوكرانيا. كما يمكنها تقديم الشرعية من خلال الاعتراف بالحكومة السورية الجديدة. وفي الوقت الحالي، تصنف الحكومات الغربية "هيئة تحرير الشام"- التي لها جذور في تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وتنظيم القاعدة- كمنظمة إرهابية، كما فعلت الأمم المتحدة. ولكن روسيا، بفضل عضويتها في مجلس الأمن، قد تساعد في إزالة هذا التصنيف[11]. ومن جانب آخر، يقول مصدر من "هيئة تحرير الشام" إن الجماعة تتبنى نهجاً براجماتياً بشأن العلاقات المستقبلية لسوريا مع روسيا. فقد اعترفت الهيئة بأنها على الأرجح ستسمح لروسيا بالحفاظ على بعض أو كل قواعدها في سوريا، ولكنها قالت أن عرض روسيا بتقديم الدعم الإنساني لسوريا في مقابل استمرار وصولها إلى ميناء طرطوس وقاعدة حميميم الجوية لم يكن كافياً. فهم يريدون علاقات دبلوماسية واقتصادية مع روسيا توفر على الأقل بعض الاتصال بالعالم الخارجي. ومع عرض أوكرانيا إمدادات من القمح لسوريا يكون القادة الجدد في سوريا قد تعرضوا بالفعل لسياسات الاستقطاب باكراً. وعن موقفهم من ذلك، ذكر أحد المسئولين في "هيئة تحرير الشام" أن الجماعة حريصة على موازنة الأطراف الخارجية التي تتنافس على النفوذ، ولا ترغب في الاصطفاف النهائي مع أي قوة واحدة، لكنها في الوقت نفسه تسعى للاعتراف الدولي. وفي الوقت الحالي، سوف تتلقى القوى التي وصلت إلى السلطة في دمشق المساعدة من أي طرف يعرضها، فهى مضطرة لإصلاح العلاقات مع الخارج[12]. ورغم هذا الموقف الذي يتبناه الحكام الجدد، يظل التحدي الرئيسي يكمن في محاولات الاستقطاب الغربي للنظام الجديد وحسابات النظام لمصالحه وقدرة الحكام الجدد على السيطرة على الوضع الأمني والسياسي الذي يعد ضرورياً لحفاظ روسيا على مكتسباتها الجيوسياسية والجيواقتصادية خاصة مشروعاتها الطاقوية التي تعد سوريا نقطة محورية فيها.

مكاسب روسيا: حسابات وأولويات

خرج الرئيس بوتين، في أول تصريح له في 19 ديسمبر 2024، ليؤكد عدم خسارة روسيا في سوريا، وهو الأمر الذي يدفع الباحثين نحو نظرة متعمقة لمكاسب روسيا من جراء موقفها من سقوط النظام. إذ أن هناك بالفعل عدة مبررات للموقف الروسي يمكن سردها على النحو التالي:

1- أوكرانيا أولاً

يرجع عدد كبير من المحللين عدم قدرة روسيا على الدفاع عن نظام الأسد والقيام بتدخل عسكري يغير توازنات القوى لصالحه كما حدث عام 2015، إلى الحرب الروسية-الأوكرانية التي استنفرت روسيا وجعلت من غير المرجح تخصيص قوات أو موارد إضافية لإنقاذ الأسد[13]. وقد ظهرت مؤشرات تأثير الحرب على الحضور والدعم الروسي في سوريا سواء سياسياً أو عسكرياً منذ بداية الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية في 24 فبراير 2022. فعلى الصعيد العسكري، قامت روسيا بتقليص وجودها العسكري في سوريا لصالح أوكرانيا، إذ أعادت نشر طائرات su-25  ونظام صواريخ s-300  في أوكرانيا بعد سلسلة من الإخفاقات في حربها، وبعد مصرع قائد مجموعة "فاجنر" يفيجيني بريجوجين في صيف 2023 تم نقل ما يصل إلى 2000 من المرتزقة المتمرسين من سوريا إلى أوكرانيا والفيلق الأفريق.[14]. واعتمدت روسيا بشكل أكبر على القوات المدعومة من إيران[15]. كما تم تجميد المسار السياسي وحصره في اتفاقيات خفض التصعيد خاصة مع تعنت روسيا المستمر برفض أي تسوية سياسية وفق ما وافقت عليه في قرار مجلس الأمن 2254 وسعيها لإنجاح المسارات البديلة لمسار جنيف الأممي كمسار آستانا وسوتشي[16]، وهو ما يصب في صالح روسيا بإبقاء التسوية السياسية ورقة ضاغطة في يدها.

وعلى الرغم من محاولة الكتابات الغربية تبرير الانصراف الروسي عن سوريا لصالح أوكرانيا في ضوء العامل الاقتصادي أى بسبب ضعف القدرات والموارد الروسية التي تحول دون ترقيها إلى مستوى القوى العظمى كما تدعي، إلا أن السبب الحقيقي من وراء  ذلك الانصراف هو سبب جيوسياسي يرجع إلى العامل الجغرافي ورغبة روسيا في تثبيت نفوذها في الخارج القريب ومواجهة سياسة الاحتواء الأطلسي لها في هذه المنطقة التي تمثل لها مجالها الحيوي ويعتبر أي تدخل غربي بها سواء باستقطابها أو ضمها في مؤسساته العسكرية "الناتو" أو الاقتصادية "الاتحاد الأوروبي" هو تهديد مباشر لأمنها القومي، على نحو يعني أن الملف الأوكراني بالنسبة لروسيا هو ملف وجودي يأتي الملف السوري في المرتبة التالية له. فسوريا على الرغم من أهميتها لتثبيت النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، إلا إنها والمنطقة برمتها تمثل إحدى حلقات كسر التطويق الغربي لروسيا في جوارها القريب أي إنها ساحة من ساحات التدافع الغربي-الروسي الذي تستخدمه روسيا للضغط والمساومات لتخفيف حدة التطويق الأطلسي لها.

وتشهد ساحة الحرب الروسية-الأوكرانية بعد فوز الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب العديد من التحديات، خاصة بعد أن صرح برغبته في إنهاء الحرب الدائرة، وهو الذي يرجح ممارسته ضغوطاً على المتحاربين للجلوس إلى طاولة المفاوضات، الأمر الذى دفع أوكرانيا إلى الإسراع في شن هجوم على روسيا والاستيلاء على جزء كبير من كورسك لتدعيم موقفها في المفاوضات المستقبلية ومقايضتها بالأراضي المحتلة من قبل روسيا. وفي ظل التوقيت الراهن الحرج، ترى اتجاهات روسية عديدة أنه ربما يكون من الرشادة أن تسعى روسيا إلى تركيز جهودها ومواردها والبعد عن التشتيت من أجل تحقيق أهدافها في أوكرانيا بإحراز تقدم ميداني يدعم موقفها في أي مفاوضات قادمة، وكان ذلك هو التفكير وراء ترتيب بوتين لاستقبال نحو 10000 جندي كوري شمالي في روسيا كجزء من دفع روسيا لاستعادة كورسك[17].

2- تكلفة بقاء الأسد

لم تكن فكرة التخلي عن الأسد مستبعدة في السياسة الروسية تجاه سوريا. إذ أن هناك فارقاً كبيراً بين هدف روسيا في منع انهيار النظام وهدف إحكام قبضتها على الملف السوري كمفتاح لا غنى عنه للحفاظ على نفوذها في الشرق الأوسط. فالهدف الأول تكتيكي أما الثاني فيقع في صلب العقيدة الجيوسياسية الروسية. وقد تأكد ذلك منذ اندلاع الأزمة السورية وإعلان روسيا أن ثوابت سياستها تتلخص في خمس نقاط متمثلة في الوصول إلى تسوية سياسية عن طريق حوار غير مشروط، وعدم الاستناد لخيار الحسم العسكري، وإجراء انتخابات، ووضع دستور جديد، وقيام دولة ديمقراطية في سوريا، وكلها شروط توضح أن روسيا لم تكن ترى بقاء الأسد خطاً أحمر. ومن بين المؤشرات التي كشفت عن ذلك التصريحات المتناقضة التي كان يدلي بها المسئولون الروس بخصوص مستقبل بشار الأسد. فتارة يؤكدون على أن ما يهمهم هو الدولة السورية وليس نظامها وقد ظهرت تلك التصريحات مع بداية الأزمة عام 2011 وزيادة الضغوط على روسيا للانخراط في الصراع العسكري الذي تمخض عنها. وتارة أخرى يؤكدون على أنه الرئيس الشرعي وله شعبيته خاصة بعد أن أصبح للروس كلمة عليا بعد تدخلهم العسكري في عام 2015 لارتباط ذلك بتوفير غطاء شرعي للتدخل وتعزيز الوجود العسكري بالحصول على قاعدة حميميم وتوسيع قاعدة طرطوس وانتزاع مزايا اقتصادية[18]. فضلاً عن ذلك، كان لافتاً الهجمات التي شنتها مواقع إعلامية ومراكز بحثية روسية مقربة من الكرملين وتعبر عن تشكك روسي في قدرة نظام الأسد على البقاء طويلاً بسبب تهالك بنية النظام وتفشي الفساد ومحدودية حاضنته الشعبية الآخذة بالتآكل، الأمر الذي أوصل رسالة للعالم بأن الروس مستاءين من إدارة الأسد خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعصف بسوريا والتي شجعت نمو بيئة غير مواتية لرجال الأعمال الروس في ظل تجارة المخدرات الممنوعة، هذا إلى جانب تعنته ورفضه التوصل إلى تسوية مع المعارضة ودول الجوار، الأمر الذي جعل منه شريكاً صعباً بل وعبئاً لا يمكن لروسيا تحمل تكلفته.

 ومع الخبرة التاريخية لروسيا في الحرب الأفغانية، تراوحت الخيارات الروسية بين تكرار مصير الاتحاد السوفيتي في أفغانستان وتحمل المسئولية الكاملة عن سوريا الأسد أو التراجع، وفي ظل الظروف الدولية والإقليمية الراهنة كان الخيار الأول غير واقعي[19]. فسقوط نظام الأسد على الرغم من كونه ضربة لطموحات روسيا في المنطقة، إلا أنه مكّن الكرملين من الخروج من صراع طويل لم يكن يحتاجه في ظل الفترة الحرجة  وانشغال روسيا بحسم معركة وجودية على حدودها الغربية.

3- حرب غزة وضعف محور الممانعة

أتاحت تداعيات حرب غزة ظروفاً ملائمة لإسقاط النظام السوري وتكبيل يد روسيا عن التحرك لإنقاذه. فقد مثلت أحداث ما بعد 7 أكتوبر 2023 أحد التحديات الإقليمية التي واجهت النفوذ الروسي بالمنطقة والتي أظهرت محدودية دور روسيا في هذا الصراع. وقد ازداد الأمر سوءاً مع امتداد الصراع في غزة إلى المنطقة المحيطة، فقد صعّدت إسرائيل من استهداف مستودعات الأسلحة في سوريا، وسعت إلى القضاء بشكل منهجي على أصول وقيادات من الحرس الثوري الإيراني وحزب الله هناك، وتفاقم الوضع بعد أن وسّعت إسرائيل هجماتها العسكرية على حزب الله في لبنان وزحفت براً في الجنوب اللبناني مما زاد من استخدام إيران للأراضي السورية من أجل تمرير الدعم لحزب الله[20]، وانتهى الأمر بتآكل قدرات حزب الله واغتيال قياداته وضعف وتشتيت الانتباه الإيراني، على نحو جعل إيران في حالة تأهب لاحتمال التعرض لهجمات جديدة من قبل إسرائيل والتي تسببت بتآكل نفوذها العسكري وهيبتها الإقليمية[21]. لذلك، لا تجد روسيا مناخاً مهيئاً للحفاظ على نظام الأسد بأقل تكلفة كما كانت تفعل من قبل، خاصة في ظل ضعف القوات الرئيسية التي كانت تعتمد عليها ميدانياً للحفاظ على نظام الأسد وتكريس الوضع الراهن في سوريا سواء كانت القوات البرية المدعومة من إيران في سوريا أو حزب الله في لبنان. ومن هنا، لم تجد روسيا مفراً سوى التخلي عن الأسد أمام هذا المشهد المعقد، والبحث عن تأسيس علاقات متوازنة مع الأطراف المتصارعة حفاظاً على مصالحها.

4- آفاق صفقة روسية-أمريكية

كان من ضمن مبررات السلوك الروسي تجاه الأحداث في سوريا، عدم رغبة روسيا في فتح جبهة واسعة تستبق إمكانية التفاهم لاحقاً مع إدارة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، خاصة أن هناك احتمالاً لطرح صفقة تجرى بموجبها توافقات حول تقسيم ساحات النفوذ بين موسكو وواشنطن، أو على الأقل توسيع نطاق التنسيق بينهما فيما يخص إدارة الصراعات الهامة والملفات العالقة بينهما كالملف الأوكراني والأمن الاستراتيجي في أوروبا، وهي قضايا تحظى بأولوية مطلقة لدى موسكو[22]. فعلى الرغم من أن الشرق الأوسط يحظى بأهمية جيوسياسية وجيواقتصادية بالنسبة لروسيا، إلا أنه في واقع الأمر لا يزال منطقة نفوذ تقليدي للولايات المتحدة الأمريكية ويظل الدور الأمريكي محدداً رئيسياً للنفوذ الروسي بالمنطقة. فقد أتاح الانكفاء الأمريكي في الشرق الأوسط وخاصة في الملف السوري، فرصة ذهبية لروسيا لزيادة نفوذها ومكاسبها بالمنطقة[23]، وهو الأمر الذي قد يتقلص في حالة عودة الولايات المتحدة الأمريكية إلى تولي زمام الأمور في المنطقة والقيام بدور فاعل ومؤثر أو في حالة الوصول إلى تفاهمات غربية-روسية تقلل من حدة الصدامات والتنافس في الساحة الشرق أوسطية، خاصة مع اشتعال الصراع في الجوار السوري مع اندلاع حرب غزة واستعداد المنطقة لقدوم ترامب العازم، وفقاً لتصريحاته، على نزع فتيل الأزمات بالشرق الأوسط، وتسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي الذي يعد نجاحه رهناً بإجراء تسوية شاملة يدخل في نطاقها تسوية الصراع السوري-الإسرائيلي وفي قلبه قضية الجولان السوري المحتل. ويبدو أن الساحة بالفعل تستعد لمثل هذه التسوية المحتملة بعد إسقاط النظام السوري وما ترتب عليه من إطلاق يد إسرائيل وتوغلها في الجنوب السوري استعداداً لمنطقة عازلة تُؤمِّن لها توفير مناخ مناسب لبدء الاستيطان في الجولان.

خاتمة

يتضح مما سبق أن الوقت لا يزال مبكراً لتقييم حسابات المكسب والخسارة الروسية. فروسيا لم تخسر بعد نفوذها في سوريا أو في الشرق الأوسط. إذ أن سقوط بشار الأسد لا يعني لروسيا سوى ورقة تفاوضية تخلت عنها لمكاسب مستقبلية أو صفقات لم تعلن بعد. وفي ظل المتغيرات الجديدة والوضع الإقليمي المضطرب والمستقبل الدولي الغامض بقدوم ترامب إلى سدة الحكم الأمريكي، لم يكن في وسع روسيا سوى التعامل ببراجماتيتها المعهودة حتى تتلافي الخسائر وتحصل على أكبر قدر من المكاسب، خاصة أن نفوذها في الشرق الأوسط يعد أحد المكتسبات التي لن تتخلى عنها بسهولة، لأنه أحد ركائز استراتيجيتها الكبرى الهادفة إلى بناء عالم متعدد الأقطاب "أو نظام ما بعد الغربي"، وهو نظام تنافسي يهدف إلى رفع مكانة روسيا كقوة عظمى على حساب تقليص دور ومكانة الولايات المتحدة الأمريكية. لذا، فإن روسيا وإن تخلت عن النظام السوري، فهي لن تستطيع التخلي عن نفوذها بالشرق الأوسط، وهذا الأمر لن يحدث إلا مع تخلي فلاديمير بوتين عن معتقداته وانتماءاته الفكرية الأوراسية وتصوراته لمستقبل روسيا الجيوسياسي.


[1] تحليل للجارديان: هل تتحول حلب إلى مسمار جديد في نعش النفوذ الروسي بالمنطقة؟، نشر بتاريخ 3/12/2024، على موقع الجزيرة مباشر:

https://www.aljazeeramubasher.net/news/politics/2024/12/3

[2]فراس فحام، 5 أسئلة مركزية لفهم عملية "ردع العدوان" في سوريا، نشر بتاريخ 2/12/2024 على موقع وكالة البوصلة الاخبارية :

https://albosala.com/5/

[3]Cordall , Simon Speakman ,‘A blow to Putin’s prestige’: What al-Assad’s fall means for Russia, retrieved from: https://www.msn.com/en-us/news/world/a-blow-to-putin-s-prestige-what-al-assad-s-fall-means-for-russia/ar-AA1vAwD8?ocid=BingNewsVerp

[5]فهيم الصوراني، خبراء روس: موسكو تتجه لمعركة " كسر عظم" مع المعارضة السورية، نشر بتاريخ 2/12/2024، متاح على الموقع:

https://palestine.shafaqna.com/AR/AL/8643445

[6]Kozhanov, Nikolay, Russia has lost prestige after the fall of Assad. It has also been freed of a difficult partner, published on 12/12/2024, retrieved from: https://www.chathamhouse.org/2024/12/russia-has-lost-prestige-after-fall-assad-it-has-also-been-freed-difficult-partner

[7]Graham, Thomas, op.cit.

[8]Septier, Hugo, "Un signe de faiblesse": pourquoi la chute de Bachar al-Assad en Syrie est un camouflet pour Vladimir Poutine, published on 9/12/2024, retrieved from: https://www.bfmtv.com/international/asie/russie/un-signe-de-faiblesse-pourquoi-la-chute-de-bachar-al-assad-en-syrie-est-un-camouflet-pour-vladimir-poutine_AV-202412090412.html

[9]Dulieu, Laura, La chute du régime Assad, un revers pour la Russie, published on 10/12/2024 retrieved from: https://www.radiofrance.fr/franceculture/podcasts/la-revue-de-presse-internationale/la-revue-de-presse-internationale-emission-du-mardi-10-decembre-2024-5788446

[10]خالد الشامي، بوتين يتحدث عن مستقبل في سوريا ولقاءه بشار الأسد والحرب الروسية الاوكرانية، نشر بتاريخ 20/12/2024على موقع:

https://www.msn.com/ar-eg/news/featured

[11]MacFarquhar, Neil, Russia’s Abrupt Setback in Syria Creates Headaches for Putin, published on 20/12/2024, retrieved from:https://www.nytimes.com/2024/12/20/us/russia-syria-military-bases-middle-east-setbacks.html

[12]The secret talks between Syria’s new leaders and the Kremlin, published on 16/12/2024 retrieved from: https://www.economist.com/middle-east-and-africa/2024/12/16/the-secret-talks-between-syrias-new-leaders-and-the-kremlin

[13]تحليل للغارديان: هل تتحول حلب إلى مسمار جديد في نعش النفوذ الروسي بالمنطقة ؟، مرجع سابق

[14]المرجع السابق

[15]جورج عيسى، لماذا يرفض بوتين التخلي عن سوريا؟، نشر بتاريخ 4/12/2024، على موقع:

https://marsaddaily.com/news.aspx?id=24973&mapid=1

[16]سامر إلياس، مستقبل الحضور الروسي في الشرق الأوسط والملف السوري، مركز الحوار السوري ، 7/5/2024، ص.20.

[17] Lyons, John, How the fall of Bashar al-Assad in Syria will affect the Middle East and Russia, published on 9/12/2024, retrieved from: https://www.abc.net.au/news/2024-12-08/syria-bashar-al-assad-middle-ast/104699624 

[18]سامر الياس، مرجع سابق،  ص.11

[20]تزامناً مع تصعيد إسرائيل.. روسيا تكثّف جهودها لضبط النفوذ الإيراني في سوريا، نشر بتاريخ 29/10/2024 على الموقع: https://www.syria.tv

[22]رائد جبر، سيناريوهات أمام الوجود العسكري الروسي في سوريا، نشر بتاريخ 20/12/2024 على الموقع جريدة الشرق الاوسط: https://aawsat.com

[23]سامر الياس ، مرجع سابق ص.15