السيد صدقي عابدين

باحث في العلوم السياسية - متخصص في الشئون الآسيوية

 

قبل أقل من شهر على تولي الرئيس دونالد ترامب مقاليد السلطة في واشنطن، في 20 يناير 2025، أعلنت كوريا الشمالية عن ما أسمته استراتيجية الرد "الأكثر صرامة" على الولايات المتحدة الأمريكية. هذا الإعلان رغم أنه لم يتضمن تفاصيل، إلا أنه أشار إلى مسائل تقليدية تتعلق بطبيعة السياسة الأمريكية في المنطقة والتي تستهدفها. مثل هذا الإعلان يُذكِّر بما كان دونالد ترامب قد أعلنه مع بداية ولايته الأولى من أنه سوف يمارس أقصى درجات الضغط على بيونج يانج، وأن سياسة الصبر الاستراتيجي التي اتبعها سلفه باراك أوباما قد انتهت. في حينه، تراجع ترامب عن تلك اللهجة الحادة، بل واتبع سلوكاً لم يسبقه إليه أي من الرؤساء الأمريكيين في التعامل مع كوريا الشمالية. فهل اللهجة الكورية الشمالية الحالية مقدمة لتشدد أكثر تجاه واشنطن أم أنها سوف تتحول إلى المهادنة؟، خاصة وأن ترامب خلال حملته الانتخابية وبعد انتخابه لم يخف إمكانية العودة لسلوكه التقاربي السابق مع كوريا الشمالية.

الأمر ليس بهذه السهولة، فقد حدثت متغيرات كثيرة جعلت من الواقع مختلفاً في جوانب عدة عما كان عليه عندما التقى دونالد ترامب وكيم جونج أون. وهنا تبرز قضايا من قبيل الرؤية الكورية الشمالية لأسلحتها النووية، والقطيعة التامة بين الكوريتين، والمدى الذي قطعته العلاقات الروسية-الكورية الشمالية، وما أصاب آلية مراقبة عقوبات مجلس الأمن على بيونج يانج، وغيرها من القضايا. على ضوء مناقشة هذه المتغيرات، هل يمكن الذهاب إلى أن ثمة انفراجة جديدة في العلاقات الأمريكية- الكورية الشمالية يمكن أن تحدث في ظل إدارة ترامب الثانية؟، وإذا ما حدثت مثل هذه الانفراجة فهل ستظل في الإطار الرمزي البروتوكولي أم يمكن أن تكون هناك تغيرات حقيقية؟، وأياً كان مسار التطورات التي يمكن أن تحدث، فهل ثمة ضمانة لكي يستمر ذلك المسار؟

وضع معكوس

في التاسع والعشرين من ديسمبر 2024 أعلنت وكالة الأنباء المركزية الكورية الشمالية أن حزب العمال قد تبنى في اجتماعه العام الحادي عشر للجنة المركزية الثامنة عشر ما أطلق عليه "استراتيجية الرد الأكثر صرامة" على الولايات المتحدة، منوهة إلى أن التعاون العسكري بين واشنطن وسول وطوكيو يتطور إلى تكتل عسكري نووي، وأن الولايات المتحدة بمثابة الدولة "الأكثر رجعية" في العالم، وأن سياستها ثابتة في التصدي للشيوعية.

حتى كتابة هذه السطور، لم تكن هناك أية تفاصيل بخصوص تلك الاستراتيجية. لكن لا يخفى أن بيونج يانج تعتبر أن كل ما تقوم به واشنطن في المنطقة يستهدفها، والذي يأتي معظمه في السنوات الأخيرة من خلال استراتيجيتها المعروفة باسم المحيطين الهندي والهادئ. وهنا يمكن إدراج دعم التحالفات القائمة وبناء تحالفات جديدة، وتمتين العلاقات بين الحلفاء الذين كانت تتعاون معهم بشكل منفرد، كما كان الحال بالنسبة لكوريا الجنوبية واليابان، وتكثيف المناورات العسكرية، وجلب الأصول الاستراتيجية للمنطقة. وتكفي هنا الإشارة إلى رد وزارة الدفاع الكورية الشمالية في نوفمبر 2024 على إحدى المناورات التي تقودها واشنطن في المنطقة، حيث قالت: "نحذر بشدة الولايات المتحدة وأتباعها المعادين لكوريا الشمالية. وعليهم التوقف فوراً عن الأعمال العدائية التي تسبب المزيد من الاستفزاز وعدم الاستقرار، والتي يمكن أن تدفع المواجهة العسكرية في شبه الجزيرة الكورية ومحيطها إلى صراع مسلح حقيقي". ومن ثم تذهب الوزارة إلى أنه "من الواجب الدستوري اتخاذ تدابير دفاعية لحماية البيئة الأمنية للدولة والحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي وتوازن القوى". وقد اعتبر كيم جونج أون أن عملية إطلاق الصاروخ العابر للقارات هواسونج ـ 19 في الحادي والثلاثين من أكتوبر 2024 يعبر عن الإرادة الوطنية في الرد على الأوضاع الأمنية المتصاعدة في شبه الجزيرة الكورية، وأن عملية الإطلاق ما هي إلا جزء من عملية مستمرة ولا تراجع عنها فيما يتعلق بتطوير القدرات الهجومية الاستراتيجية.

إذن، فقد لا تتضمن الاستراتيجية الكورية الشمالية الجديدة أموراً مختلفة عما هو قائم، خاصة وأنها مصرة على المضي قدماً ليس فقط بالاحتفاظ بأسلحتها النووية، وإنما امتلاك المزيد منها، وتطوير وسائل نقلها عبر الصواريخ والغواصات، والتي لا تتوقف عن تحديثها رفقة الأسلحة التقليدية. أضف إلى ذلك تمتين علاقاتها مع كل من روسيا والصين.

ما يلفت النظر في الإعلان الكوري الشمالي عما سمى باستراتيجية الرد الأكثر صرامة،  أنه قد جاء قبل حوالي ثلاثة أسابيع من تولي الرئيس دونالد ترامب مقاليد السلطة في ولايته الجديدة. ترامب ذاته في مستهل ولايته الأولى منذ ثماني سنوات كان قد توعد كوريا الشمالية بالنار والغضب وأقصى درجات الضغط، دون استبعاد الخيارات العسكرية، بل إنه تحدث عن زر نووي أكبر من الزر النووي الذي يمتلكه كيم جونج أون. ولم يقف الأمر عند ذلك الحد بل إنه تندر على كيم. ومن ثم كانت هناك ملاسنات بينهما. ورغم كل ذلك، عاد ترامب ليتغزل في كيم، وليلتقي به أكثر من مرة في أحداث شدت انتباه العالم لكنها انتهت فعلياً إلى لا شيء.

هذه المرة كوريا الشمالية هي التي ترفع السقف على الرغم من أن ترامب وعلى مدار شهور كان يتحدث بشكل إيجابي عن كيم، ولا يستبعد إمكانية تكرار ما فعله في ولايته الأولى. ومما قاله ترامب في هذا السياق: "من الجيد أن تنسجم مع شخص لديه الكثير من الأسلحة النووية وغير ذلك. وعندما نعود سأتفاهم معه. لابد أنه يود أن يراني أيضاً. أعتقد أنه يفتقدني". كما أن مما قاله: "من الجيد والذكاء التعايش مع روسيا وكوريا الشمالية" ثم إنه كان قد اعتبر تجربته مع كوريا الشمالية في الولاية الأولى قد منعت نشوب حرب نووية يكون ضحاياها بالملايين، مرجعاً ذلك إلى جهوده ووفاقه مع كيم.

كل هذه الرسائل الواضحة والمباشرة من ترامب على مدار شهور لم تعرها كوريا الشمالية أي اهتمام. بل إن رسائلها كانت واضحة حتى لترامب نفسه. إذ أكدت على أن السياسة الأمريكية الثابتة حيالها هي العداء على صعيد الإجراءات بينما يتم الحديث عن الحوار والمفاوضات، وأن واشنطن لا تفي بوعودها. وفي هذا السياق، فقد تحدثت صراحة عن تفاهمات سابقة تم الإطاحة بها كتلك التي تمت في عهد الرئيس بيل كلينتون بعدما وضعت العراقيل أمام تنفيذها. ومن ثم فإنها قد وصلت إلى قناعة بأنه أياً كانت الإدارة التي تتولى الحكم في واشنطن، فإن ما اعتبرته مناخاً سياسياً معادياً لم يتغير. ومن ثم فإنها غير معنية بمن سيصل إلى الحكم، وإن كانت قد أشارت إلى محاولة ترامب التي استندت إلى العلاقات الشخصية مع كيم، إلا أنها اعتبرت أن الأمر لم يثمر شيئاً إيجابياً حقيقياً.

هل تتوقع بيونج يانج عرضاً جديداً من ترامب بعدما يتولى الحكم؟، وهل توقعها هذا هو ما دفعها لرفع سقف تصريحاتها حتى يمكنها الحصول على تنازلات أكثر هذه المرة وضمانات واضحة وقابلة للتنفيذ ولا رجعة عنها؟، وهل ترامب باستطاعته الإقدام على ما أقدم عليه في إدارته الأولى في ظل المتغيرات المتشابكة للواقع المعاش ليس فقط في شبه الجزيرة الكورية ومحيطها وإنما في العالم كله؟

متغيرات جديدة

الرئيس ترامب سيتولى مقاليد الحكم في إدارته الثانية في ظل بيئة تبدو مغايرة في جوانب كثيرة لتلك البيئة التي جعلته يقدم على ما أقدم عليه تجاه كوريا الشمالية. وأول المتغيرات على هذا الصعيد يتمثل في أن بيونج يانج في المرة الأولى لم تكن قد أغلقت الباب أمام التخلي عن أسلحتها النووية، حيث كان المبدأ مقبولاً لها، في ظل معادلتها القائلة بأنها لم تكن ترغب في امتلاك ذلك النوع من الأسلحة ابتداء، وأنها قد اضطرت لذلك، ومن ثم فإنها مستعدة للتخلي عن هذه الأسلحة مقابل ضمانات أمنية واضحة تحفظ بقائها وسيادتها ونظامها الاجتماعي والسياسي. الآن هي أوصدت الباب تماماً أمام أي حديث عن التخلي عن أسلحتها النووية. بل إنها لا تمل عن تكرار التأكيد على أن تطويرها لن تحده حدود. ومن ثم فقد أصدرت قانوناً خاصاً بوضعها النووي، والذي كرسته في الدستور. بل إن مصطلح الحرب النووية بات من المصطلحات التي تكررها القيادة الكورية الشمالية خاصة عند التحذير من خطورة انزلاق الأوضاع إلى نزاع مسلح قد يتطور إلى حرب نووية.

قد يقال إن ترامب نفسه قد تحدث عن أن محاولته الأولى قد منعت حرباً نووية، ومن ثم فقد تأتي محاولته الثانية لمنع الحرب نفسها. لكن هذه المرة بيونج يانج لا تقبل بمناقشة نزع أسلحتها النووية من حيث المبدأ. فهل سيعترف ترامب ولو ضمنياً بوضع كوريا الشمالية كدولة نووية أم أن الأخيرة يمكن أن تتراجع عن موقفها الراهن؟. من الصعوبة بمكان أن يعترف ترامب صراحة بكوريا الشمالية كدولة نووية، كما أنه من الأصعب تراجع الأخيرة عن موقفها كلية. ومن ثم هل يمكن أن تكون هناك نقاط أخرى للنقاش؟. يمكن أن تبدأ المفاوضات من مسألة التجميد، أي عدم القيام بتجارب نووية جديدة وكذلك عدم إجراء تجارب على صواريخ بعيدة المدي. لكن سيطرح السؤال المنطقي: هل ستقبل بيونج يانج بذلك وما هو المقابل الذي ستطرحه؟، وهل ستقبل واشنطن بالثمن الذي تريده بيونج يانج لعملية التجميد؟.

تبرز هنا ملحوظات ثلاثة بخصوص هذا السيناريو. الملحوظة الأولى تتمثل في أن مسألة التجميد تلك ليست بالجديدة وسبق لكل من روسيا والصين أن طرحتاها. ومن ثم يمكن لكليهما أن تتعاونا في هذا الأمر في حال اتفقتا على السير في هذا الطريق. لكن ذلك سيتوقف بطبيعة الحال على ما ستؤول إليه علاقات واشنطن من ناحية وبكين وموسكو من ناحية أخرى.

الملحوظة الثانية تتعلق بكون أي من الحزبين الجمهوري والديمقراطي لم يضمنا برامجهما الانتخابية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة بنداً خاصاً بنزع السلاح النووي لكوريا الشمالية. كما أن البيان المشترك للاجتماع الاستشاري الأمني السنوي لوزيري دفاع الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية نهاية شهر أكتوبر 2024 لم يتضمن بنداً خاصاً بنزع السلاح النووي لكوريا الشمالية كهدف مشترك. وهذه هي المرة الأولى التي يسقط فيها هذا البند منذ تسع سنوات، حيث نص بيان هذا العام على: "تعهد الجانبان بمواصلة تنسيق الجهود لردع التهديدات النووية الكورية الشمالية بقوة التحالف الساحقة، والاستمرار في متابعة الجهود من خلال العقوبات والضغط لردع وتأخير تطوير كوريا الشمالية لقدراتها النووية". على عكس نص بيان العام الماضي عندما جاءت الصياغة على النحو التالي: "لتحقيق نزع السلاح النووي الكوري الشمالي بالكامل، تعهد الجانبان بمواصلة تنسيق الجهود لردع التهديدات النووية الكورية الشمالية بقوة التحالف الساحقة".

بغض النظر عن التفسيرات التي يمكن أن تقدم على هذا الصعيد، فإن الأمر لا يخلو من دلالة، وإن كان لا يعني تخلي واشنطن عن هدف نزع السلاح النووي لكوريا الشمالية رسمياً، حيث أن واشنطن دائمة التأكيد على هذا الهدف في محافل أخرى. بل إنها وبعد ذلك قد أبدت تخوفها في مجلس الأمن من أن روسيا قد تكون في طريقها للقبول ببرنامج كوريا الشمالية النووي في تحول عن سياستها السابقة. إذ ذكرت ليندا توماس جرينفيلد مندوبة واشنطن الدائمة في الأمم المتحدة خلال جلسة لمجلس الأمن في الثامن عشر من ديسمبر 2024 أنه "من المثير للقلق أننا نقدر أن روسيا قد تكون على وشك قبول برنامج الأسلحة النووية لكوريا الشمالية، في تراجع عن التزامها المستمر منذ عقد من الزمان بنزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية". قد يقال إن تلك هي إدارة بايدن، ولا يعلم كيف سيكون الحال مع إدارة ترامب القادمة. وفي كل الحالات، ليس من السهل القبول صراحة بكوريا الشمالية كدولة نووية. ثم لا يجب إغفال أن واشنطن تعلن دائماً عن هدفها في إخلاء العالم كله من الأسلحة النووية بينما هي تعمل على تحديث ترسانتها النووية. ومن ثم فيمكن أن يكون هدف نزع أسلحة كوريا الشمالية النووية بعيد المدى. كما أنه يمكن أن لا يكون عائقاً لتواصل معها. لكن لذلك متطلبات أخرى كثيرة.

الملحوظة الثالثة على صلة بالفترة الزمنية التي يمكن أن يشملها قرار التجميد الخاص بالتجارب النووية والصاروخية. وكما ذكر التزامات الطرف الآخر في هذه الفترة،ر ومن ثم إلى أي مدى سيتم الالتزام المتبادل؟، وهل يمكن أن يكون ذلك خلال فترة ولاية الرئيس ترامب فقط أم يمكن أن يمتد لما بعدها؟. هذا في حال تم الاتفاق على ذلك ابتداء.

هل لمثل هذا السيناريو أن يطرح في حال فاجأت كوريا الشمالية الجميع بتجربة نووية جديدة تقول كل المؤشرات أنها على أتم الاستعداد لتنفيذها وأن الأمر مرتبط فقط بإصدار القرار السياسي؟. ربما يقال إن بيونج يانج لن تقدم على ذلك حالياً نظراً لأنها تقنياً قد لا تكون في حاجة ملحة لذلك. كما أن ذلك قد يسبب حرجاً كبيراً لكل من بكين وموسكو يجعلهما غير قادرتين على الحيلولة دون صدور قرارات إدانة جديدة من قبل مجلس الأمن ضد بيونج يانج. ولربما فضلت الأخيرة التريث حتى ترى السياسة الفعلية لإدارة ترامب خاصة وأنها تحتفظ دائماً بكل خياراتها مفتوحة.

المتغير الثاني يتمثل في حالة القطيعة التامة بين الكوريتين، وما إذا كان ذلك سيؤثر على ما يمكن أن يحدث على صعيد علاقات واشنطن مع بيونج يانج. ففي آخر تقارب بين واشنطن وبيونج يانج، كان هناك تقارب كبير بين الكوريتين في ظل إدارة الرئيس مون جي ـ إن، ومن ثم عقدت القمم الكورية-الكورية الشمالية، والكورية الشمالية-الأمريكية. وقد تضمن بيان قمة سنغافورة في الثاني عشر من يونيو عام 2018 النص على إقامة نظام سلام دائم ومستقر في شبه الجزيرة الكورية، وهو ما ظل ينادي به الرئيس مون طوال فترة رئاسته.

هذه القطيعة التي وصلت حد تفجير الخطوط الرابطة بين الكوريتين من قبل كوريا الشمالية، وعدم وجود أي خطوط تواصل، وتوصيف العلاقات بين الجانبين على أنها علاقات عدائية، وإسقاط بند الوحدة من أجندة صانع القرار الكوري الشمالي، هي الأخرى يمكن التزحزح عنها في حال وجود مؤشرات على تغير النهج سواء من قبل واشنطن أو من قبل سول. ويبدو أن الأمور في سول قد تتغير في حال أقرت المحكمة الدستورية عزل الرئيس يون سيوك ـ يول وتم إجراء انتخابات جديدة. وحتى إذا لم تتغير الإدارة في كوريا الجنوبية، أو جيء بإدارة جديدة اتبعت نفس نهج التشدد الذي اتبعته إدارة يون، فإن واشنطن في ظل حكم ترامب وفي حال قررت إعادة توجيه البوصلة نحو التواصل مع كوريا الشمالية فإنها تمتلك أوراقاً كثيرة جداً يمكن من خلالها تطويع الموقف الكوري الجنوبي تجاه الشمال.

متغير ثالث ذا أهمية كبيرة سيكون في مواجهة إدارة ترامب الجديدة عند تعاملها مع الملف الكوري الشمالي، وهو المتعلق بمسار العلاقات بين بيونج يانج وموسكو، والذي بلغ حد الاتفاق على تبادل المساعدة في حال حدوث عدوان على أي من الطرفين حسب ما نصت عليه اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة التي وقعت في بيونج يانج في التاسع عشر من يونيو 2024 أثناء زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لكوريا الشمالية. قد يقال إن الموقف المبدئي لترامب من روسيا مغاير لموقف إدارة بايدن. وقد سبقت الإشارة إلى أنه يرى التعايش مع موسكو وبيونج يانج أمراً جيداً وذكياً. ودون الدخول في تفاصيل ما قاله بخصوص ما يمكن أن يقوم به فيما يتعلق بالحرب الروسية- الأوكرانية ولقاءاته التي يمكن أن تكون مع بوتين إلا أنه أكثر انفتاحاً على روسيا. هذا الانفتاح قد يسهل من مهمة ترامب في حال قرر التواصل مرة أخرى مع كيم جونج أون. لكن يبقى الأمر مرتبطاً بنتائج مثل هذا الانفتاح وليس بمجرد وجوده من عدمه. فإدارة ترامب لن يغيب عنها القناعات الروسية-الكورية الشمالية المشتركة بخصوص المسئولية عن التوترات ليس فقط في شبه الجزيرة الكورية وإنما في كل شمال شرقي آسيا وكذلك في مناطق أخرى من العالم. وليس ببعيد عن تقييم بيونج يانج وموسكو للسلوك الأمريكي يأتي التقويم الصيني أيضاً. ويدرك ترامب تماماً أن الصين لاعب أساسي وكبير في الملف الكوري الشمالي. وكان قد وصل به الحال إلى أنه حملها في فترة رئاسته الأولى وقبل التواصل مع كوريا الشمالية مسئولية كبيرة، ومن ثم ألقى على عاتقها بدور مهم في لجم السلوك الكوري الشمالي، وهو ما لم تصمت حياله الصين التي ردت بتحميل كامل المسئولية لواشنطن. كيف سيكون تعامل إدارة ترامب الجديدة مع الصين؟، وهل سيختلف الوضع عما كان عليه في الإدارة الأولى؟، وفي حال كان هناك اختلاف ففي أي اتجاه: تصعيداً أم تهدئة؟

 إجابات كل تلك الأسئلة ستكون ذات تأثير على ملف العلاقات الأمريكية-الكورية الشمالية.

في الختام، من الواضح أن ملف علاقات واشنطن وبيونج يانج شائك وشديد التعقيد. ومن الواضح أيضاً أن هناك اختلافات كثيرة عما كان عليه الحال في ظل إدارة ترامب الأولى، وأن الكثير من أوجه الاختلاف تلك لا ترتبط بالولايات المتحدة ذاتها وإنما ترتبط بأطراف أخرى تغيرت استراتيجياتها مثل كوريا الشمالية ذاتها، وأخرى وصلت إلى قناعة بأنه لابد من التصدي عسكرياً للنفوذ الأمريكي في جوارها القريب كما هو الحال بالنسبة لروسيا. كما أن الوضع الصيني قد ازداد قوة عما كان عليه الحال زمن إدارة ترامب الأولى.

ورغم كل هذا التعقيد والتشابك، إلا أن الباب يظل مفتوحاً أمام احتمال ولو ضئيل بحدوث انفراجة في علاقات واشنطن ببيونج يانج. لكن تبقى الأسئلة قائمة حول توقيت حدوث مثل هذه الانفراجة ومقدماتها وأثمانها والأهم من ذلك مدى استمرارية هذه الانفراجة. وفي المقابل ماذا لو لم تحدث مثل تلك الانفراجة؟.