كرم سعيد

باحث متخصص في الشأن التركي- مجلة الديمقراطية، مؤسسة الأهرام

 

أعلن الزعيم الكردي عبدالله أوجلان في 29 ديسمبر 2024، عن استعداده لإجراء حوار سياسي غير مشروط مع تركيا، واعتبر أن حل القضية الكردية أصبح "غير قابل للتأجيل"، وأضاف أن  "إعادة تعزيز الأخوة التركية الكردية ليس مسئولية تاريخية فحسب، لكن أيضاً مسألة عاجلة لكل الشعوب". وجاءت هذه التصريحات في ظل تطورات إقليمية غير مسبوقة، خاصة في سوريا ولبنان وقطاع غزة فضلاً عن أنها تأتي في ظل مساعى أنقرة للتهدئة مع الأكراد، وإتمام مصالحة سياسية تاريخية معهم، وتجلى ذلك في دعوة دوللت بهجلي رئيس حزب الحركة القومية وحليف الرئيس رجب طيب أردوغان، في مطلع أكتوبر الماضي، أوجلان إلى الإعلان عن نبذ العنف وحل القضية الكردية سلمياً، وهي الدعوة التي رحب بها حزب العدالة والتنمية الحاكم.

بالتوازي مع ذلك، تبدي القوى الكردية في تركيا وسوريا اهتماماً خاصاً بالجهود الحالية من أجل إجراء مفاوضات جديدة مع الحكومة التركية، وتفكيك القضايا الخلافية بهدف "إسكات المدافع"، وتنحية القوة الصلبة التي لم تتمكن من تسوية الأزمة الكردية، وفرضت ارتدادات سلبية على الجابين التركي والكردي.

أبعاد متشابكة

تتزامن دعوة أوجلان لفتح صفحة جديدة مع تركيا، وإنهاء المعضلة الكردية، مع تطورات محلية وإقليمية متشابكة، ويتمثل أبرزها فيما يلي:

1- تصاعد الضغوط على "قسد" بعد سقوط الأسد: جاءت مبادرة أوجلان التي لاقت ترحيباً تركياً بعد إسقاط النظام السوري في 8 ديسمبر 2024، وصعود الفصائل الموالية لتركيا إلى صدارة المشهد. ودفعت هذه التطورات إلى توفير مساحة أكبر لتركيا لتعزيز الضغوط على وحدات حماية الشعب الكردية، ومحاصرتها ميدانياً وسياسياً، فإلى جانب العمليات القتالية بين الفصائل السورية المدعومة من تركيا، وقوات سوريا الديمقراطية "قسد" في شمال شرق سوريا، تسعى تركيا إلى تهميش المكون الكردي في الترتيبات المستقبلية للمشهد السوري بعد سقوط الأسد.

2- مخاوف "قسد" من استمرار التوظيف التركي للقوة الصلبة: يبدو أن قوات "قسد" باتت تجد نفسها أمام خيارات صعبة، خاصة بعد أن طرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 26 ديسمبر 2024، على "قسد" خياراً بين "إلقاء السلاح أو الدفن في الأراضي السورية مع أسلحتهم". كما أن أنقرة تعتبر غالبية قادة "قسد" أعضاء في حزب "العمال الكردستاني" وعليهم مغادرة الأراضي السورية. وتنامت مخاوف أكراد سوريا بعد رفض تركيا مقترحاً قدمته "قسد" عبر وسطاء يتضمن إنشاء "منطقة منزوعة السلاح" على الحدود التركية-السورية، ونقل مسئولية أمن الحدود من "قسد" إلى السلطة الانتقالية الجديدة في دمشق، لكن أنقرة لم تستجب حتى الآن لهذه المبادرات.

3- التحول الملحوظ في المواقف الدولية: تزامنت مبادرة أوجلان مع تحول لافت في المواقف الدولية بشأن القضية الكردية، إذ تضمنت هذا الموقف تغييراً واضحاً بعد صعود إدارة جديدة في سوريا بقيادة هيئة تحرير الشام، وكان بارزاً، دعوة وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك في 20 ديسمبر 2024 إلى نزع سلاح الجماعات الكردية ودمجها في هيكل الأمن الوطني في سوريا، وأضافت عشية لقائها مع نظيرها التركي هاكان فيدان: "إن أمن الأكراد ضروري لسوريا حرة، لكن يتعين أيضاً معالجة المخاوف الأمنية التركية لضمان الاستقرار". كما أكد مايكل والتر مرشح الرئيس المنتخب ترامب لمنصب مستشار الأمن القومي على ضرورة ألا يكون الجنود الأمريكيون في سوريا.

وقد كان لافتاً أنه بالتوازي مع ذلك، حرص الاتحاد الأوروبي على التغاضي عن عملية "فجر الحرية" التي تنفذها الفصائل الموالية لتركيا ضد وحدات الشعب الكردية في الشمال السوري، حيث أكدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عشية زيارتها الأخيرة لتركيا، في 17 ديسمبر 2024، على ضرورة تفهم المخاوف الأمنية المشروعة لتركيا من مخاطر العناصر الكردية السورية على الأمن القومي التركي.

4- تراجع مواقف الأحزاب التركية المناهضة للأكراد: تبنت بعض الأحزاب التركية المناهضة للأكراد، وخاصة حزب الحركة القومية الشريك في السلطة، توجهات مغايرة خلال الآونة الأخيرة بشأن إمكانية التقارب مع المكون الكردي، وظهر ذلك في مصافحة دوللت بهجلى رئيس حزب الحركة القومية للنواب الأكراد عشية افتتاح العام التشريعي للبرلمان التركي في مطلع أكتوبر 2024، بالإضافة إلى إعلانه، في 20 من الشهر نفسه، أهمية التصالح مع الأكراد، من خلال دعوته أوجلان للتحدث في البرلمان التركي وإعلان تفكيك الحزب الكردستاني الذى تصنفه تركيا إرهابياً، وترك السلاح، مُقابل إنهاء عزلته والنظر في تعديلات قانونية تضمن حقوق الأكراد الثقافية والسياسية واللغوية. ويشار إلى أن مبادرة بهجلى حظيت بدعم من الرئيس أردوغان، الذى قال في تعليقه على مبادرة بهجلي: "نريد أن نبني تركيا بدون إرهاب"، كما أعلن أوزغور أوزيل رئيس حزب الشعب الجمهوري العلماني عن دعمه لحل مشاكل الأكراد، وتحقيق المصالحة بين 86 مليون شخص تركي.

5- تخفيف القيود على أوجلان: عملت الحكومة التركية خلال الآونة الأخيرة على تخفيف القيود المفروضة على أوجلان في سجن جزيرة إمرالي، حيث سمحت وزارة العدل لوفد من حزب "الديمقراطية والمساواة للشعوب" بزيارة أوجلان، في 28 ديسمبر 2024، كما سبق هذه الخطوة، زيارة عائلية في أكتوبر 2024 قام بها نجل شقيق أوجلان النائب بالبرلمان التركي عن حزب "الديمقراطية والمساواة للشعوب" عمر أوجلان. ويبدو أن هذه التطورات حفّزت جانباً معتبراً من القوى السياسية الكردية على الانخراط في التجاوب مع مبادرات تفكيك المسألة الكردية، حيث أكدت الرئيسة المشاركة لحزب "الديمقراطية والمساواة للشعوب" استعداد الحزب لتقديم المبادرة من أجل "السلام المشرِّف". كما اعتبرت أن نداء أوجلان لجهة المصالحة "فرصة تاريخية لبناء مستقبل مشترك".

حسابات مركبة

تبدو أنقرة والقوى الكردية في توجهها الجديد نحو تحسين العلاقات والمصالحة، تنطلق من جُملة حسابات مركبة للطرفين، يمكن بيانها كالتالي:

1- عدم فاعلية توظيف القوة الصلبة: ثمة قناعة لدى الطرفين بعدم جدوى اعتماد سياسة القوة الصلبة في التعامل مع الخلافات، إذ إن هذه السياسة ألحقت خسائر كبيرة بالطرفين، حيث لم تتمكن أنقرة من محاصرة المشروع الكردي في شمال العراق وسوريا، وتحييد نفوذ القوى الكردية في الداخل. وفي المقابل، فإن القوى الكردية بروافدها المحلية والإقليمية تعرضت لخسائر هائلة، ولم تتمكن من فرض رؤيتها، وبالتالي، فإن طرح مبادرات المصالحة تأتي انعكاساً لقناعات مشتركة بأنه لم يعد من الممكن تبني القوة الخشنة كاستراتيجية وحيدة لإدارة تلك الخلافات.

2- تحييد الضغوط التركية في مستقبل المكون الكردي السوري: تشهد الفترة الحالية حضوراً واضحاً لتركيا في الداخل السوري، وهو مسار يتوقع أن يتصاعد بعد هيمنة هيئة تحرير الشام المدعومة من أنقرة على مفاصل المشهد السوري. ولعل هذا ما يفسر رغبة القوى الكردية في التوجه نحو المصالحة لضمان تحييد الضغوط التركية على الوجود السياسي للمكون الكردي في مستقبل الدولة السورية الجديدة، خصوصاً وأن تركيا تضغط على الإدارة الانتقالية السورية لمنع مشاركة الإدارة الذاتية الكردية في أية ترتيبات مستقبلية، وبالتالي يمكن فهم إعلان أوجلان عن رغبته في الانفتاح على النظام التركي، باعتباره أداة يمكن عبرها حماية مكتسبات الأكراد السوريين، وكذلك احتواء قدر من مُحفِّزات العنف التركي ضدهم.

3- عودة ترامب للرئاسة الأمريكية: تشير العديد من الاتجاهات إلى أن التحولات المحتملة في السياسة الأمريكية تجاه المكون الكردي في سوريا كان لها دور في التوجه نحو المصالحة، في ظل تزايد احتمالات اتجاه إدارة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب إلى إجراء تغييرات بارزة في السياسة الحالية، ربما باتجاه رفع مستوى التنسيق مع تركيا، وتخفيف الانخراط العسكري الأمريكي في مناطق الصراعات بالشرق الأوسط، وخاصة الوجود الأمريكي في شمال شرق سوريا.

4- تعزيز موقع الحزب الحاكم: يسعى الرئيس أردوغان إلى تعزيز حضور حزب العدالة والتنمية على الساحة الداخلية، وتطوير صورته الذهنية، بما يسمح له بتكريس موقعه في المشهد السياسي بعد عام 2028. وعلى ضوء ذلك، يسعى التحالف الحاكم في تركيا إلى تحقيق اختراق جذري في المسألة الكردية. كما أن تفكيك المعضلة الكردية يعنى، في جانب معتبر منه، تعزيز حالة الاستقرار، ووقف الهجمات التي تنفذها الجماعات الكردية رداً على العمليات العسكرية والأمنية التركية، وكان آخرها الهجوم على مبنى شركة الصناعات الجوية والفضائية التركية "توساش" في 23 أكتوبر 2024، والذى أسفر عن مقتل 5 أشخاص وإصابة 22 آخرين.

5- قطع الطريق على التدخل الإسرائيلي: ثمة مخاوف تركية من محاولات إسرائيل لتوظيف الورقة الكردية، واتخاذها ذريعة لتعزيز تغلغلها في سوريا، وتصاعد قلق أنقرة بعد كشف تقارير النقاب عن تواصل  قيادات من أكراد سوريا مع إسرائيل لإنشاء قناة اتصال. وكان وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر قد أكد في تصريحات له، في 10 نوفمبر 2024، على أهمية دعم بلاده للمكون الكردي في سوريا، كما ذكر في أول خطاب له عقب توليه مهام منصبه، في 5 من الشهر نفسه، الشعب الكردي والعلاقات التاريخية بين الأكراد وإسرائيل.

6- تعزيز الفرص الاقتصادية: تعي تركيا والقوى الكردية أن تحقيق المصالحة قد يوفر فرصاً اقتصادية كبيرة. فإلى جانب تقليص كُلفة عمليات الجيش التركي في شمال سوريا والعراق، فإن دعم السلام مع أكراد سوريا يعنى توفير بيئة خصبة لتنفيذ خطط ومشاريع تركية في قطاع النفط والغاز السوري، حيث تسيطر قوات سوريا الديمقراطية على منابع النفط في سوريا، والتي تتركز بالأساس في الشمال السوري، وأهمها حقول السويدية، ورميلان، والعمر، إضافة إلى 10 حقول أخرى تتوزع بين محافظتى الحسكة ودير الزور.

ختاماً، يمكن القول إن دعوة عبدالله أوجلان ومن قبلها مبادرة رئيس حزب الحركة القومية التركي دوللت بهجلي للمصالحة التركية-الكردية، ترتبط بمُحفِّزات ومتغيرات محلية وإقليمية مغايرة باتت تدفع في اتجاه المصالحة. بيد أن ثمة تحديات محتملة قد تجعل سيناريو المصالحة غير مرجح على الأقل في التوقيت الحالي، من أهمها استمرار عملية "فجر الحرية" التي تقودها الفصائل الموالية لتركيا ضد وحدات حماية الشعب الكردية منذ  نوفمبر 2024، وعزل وزارة الداخلية التركية خلال الأشهر الماضية عدداً من رؤساء البلديات الكردية المنتخبين، بالإضافة إلى تراجع تأثير أوجلان داخل حزب العمال الكردستاني، وهو ما ظهر في تبنى القيادات الكردية في جبال قنديل، وخاصة جميل بايق توجهات مغايرة لأطروحات أوجلان بشأن السلام مع تركيا.