بعد نجاح إسرائيل في تدمير القدرات العسكرية لحركة حماس وحزب الله، والذي كان السبب المباشر في سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، على يد الجماعات الجهادية المدعومة من تركيا، وبعد توصل الحكومة العراقية لاتفاق مع الجماعات الموالية لإيران بالتوقف عن شن الهجمات على إسرائيل، لم يعد يتبقى على جبهة المواجهة بين محور إيران وإسرائيل سوى مليشيات الحوثي في اليمن، والتي شددت ضرباتها الصاروخية ضد إسرائيل خلال الأسابيع الماضية. وتبدو معركة إسرائيل على هذه الجبهة الأكثر صعوبة لأسباب عديدة سوف نتناولها بشئ من التفصيل، حيث تجمع آراء الخبراء والمعلقين الإسرائيليين على أن الضربات الجوية المضادة التي نفذتها إسرائيل ضد المليشيا اليمنية لم ولن تكون رادعة لها، وهو ما يفرض – وفقاً للرؤية الإسرائيلية - البحث عن وسائل أخرى لوقف هذه الهجمات أولاً، ثم السعى للقضاء على هذه المليشيا كهدف استراتيجي ثانياً.
طبيعة الصعوبات على الجبهة مع الحوثيين
ثمة إجماع بين الباحثين والخبراء الإسرائيليين على خصوصية المواجهة بين إسرائيل وجماعة الحوثي في اليمن مقارنة بالمواجهة مع بقية المليشيات من حيث:
1- بُعد المسافة بين إسرائيل وهذه الجبهة التي تصل إلى قرابة 2000 كيلو متر، وهو ما يحد من قدرة سلاح الجو الإسرائيلي على العمل بكثافة وفاعلية كبيرتين لردع هذه الجماعة.
2- التضاريس الوعرة للمناطق التي يتمركز بها الحوثيون في اليمن، وهو ما يُمكِّن هذه المليشيا من الاختباء وإخفاء الأسلحة الصاروخية والمسيرات التي تمتلكها بعيداً عن متناول الضربات الجوية أو الصاروخية المضادة.
3- صعوبة مراقبة ممرات تهريب السلاح التي تمر عبرها الإمدادات العسكرية الإيرانية إلى المليشيا الحوثية.
4- على الرغم من أن المليشيا الحوثية تعتبر نفسها جزءاً من المحور الإيراني، إلا أنها تتمتع بهامش من الاستقلالية عن إيران، وتنظر إلى المواجهة مع إسرائيل على أنها عنصر مهم لحشد التأييد الداخلي لها في اليمن ضد خصومها المحليين.
5- اكتساب جماعة الحوثي ثقة كبيرة في قدرتها على استمرار المواجهة مع إسرائيل نظراً لما أثبتته سابقاً من قدرة كبيرة على الصمود في مواجهة التحالف الذي شكلته المملكة العربية السعودية ضدها منذ عام 2015، ومن بعده قدرتها أيضاً على استيعاب الضربات التي وجهتها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ضدها بسبب تهديدها للملاحة في البحر الأحمر، والرد على تلك الضربات بما أدى لما يشبه الوقف الكامل للتجارة الدولية عبر هذا الممر.
6- إهمال الاستخبارات الإسرائيلية لهذه الجبهة، وعدم اعتناءها بجمع المعلومات عنها بالرغم من كونها أحد أذرع إيران في المنطقة منذ تأسيس ما يسمى بـ"محور المقاومة" قبل عشرين عاماً.
في ظل تلك العناصر الستة، تدرك إسرائيل مدى صعوبة تحييد جبهة الحوثيين، ووقف التهديد القادم منها، في إطار الأهداف التي وضعتها لنفسها منذ اندلاع المواجهة بينها وبين محور إيران في 7 أكتوبر 2023، وهو ما حدا برئيس الحكومة بنيامين نتنياهو لدعوة الشعب الإسرائيلي للتحلي بـ"الصبر" كون هذه المواجهة ستكون الأصعب والأطول مقارنة بكل الجبهات الأخرى. وعلى الرغم من هجمات الحوثيين لم تكن مؤثرة من حيث حجم الأضرار التي تتسبب فيها في الداخل الإسرائيلي، إلا أنها شكلت ضغطاً نفسياً هائلاً سواء على حكومة نتنياهو أو على الرأي العام هناك، حيث تشير البيانات الإسرائيلية إلى أن البلاد قد تعرضت على مدى ما يزيد عن عام لهجمات من جانب الحوثيين بأكثر من 200 صاروخ باليستي و170 مُسيرة، تم التصدي لأغلبها قبل الوصول إلى الداخل الإسرائيلي بواسطة الدفاعات الجوية الإسرائيلية أو بصواريخ اعتراضية من جانب القوات البحرية الأمريكية والبريطانية المتمركزة في البحر الأحمر. ولم تسفر هذه الضربات عن سقوط قتلى أو خسائر مادية كبيرة، ولكن حالة الفزع التي تسببت فيها والتي دفعت مئات الآلاف من الأشخاص للجوء إلى المخابئ بشكل متواتر خاصة في الآونة الأخيرة، أصابت الإسرائيليين بالإحباط والتشاؤم حيال وعود الحكومة لهم باستعادة حياتهم الطبيعية في وقت قريب، وزوال الأخطار التي أحاطت بهم لسنوات طويلة بشكل نهائي.
الانقسام الإسرائيلي حول معالجة خطر الحوثيين
تشهد الساحة الإسرائيلية خلافات شديدة بين المسئولين الحكوميين والخبراء الأمنيين حول كيفية القضاء على الخطر الذي تمثله جماعة الحوثيين على الأمن الإسرائيلي. ففي حين يذهب فريق إلى تشديد المواجهة ضدها، يرى فريق آخر أن هذه المليشيا لن ترتدع وأن الحل الأمثل هو توجيه ضربات قوية لإيران التي ترعى الحوثيين، حتى لو أدّى ذلك إلى حرب شاملة معها.
ويواجه كل فريق الفريق الآخر بحجج تؤيد خياره. فالفريق الذي يؤيد شن الحرب أولاً ضد إيران والذي سيؤدي -حسب وجهة نظره- إلى ردع الحوثيين يستند للعناصر التالية:
1- إن جماعة الحوثيين لا تملك فعلياً صناعات عسكرية تمكنها من الاعتماد على نفسها في مواجهة إسرائيل، وأنها تعتمد بالكامل على شحنات الصواريخ والمسيرات التي تأتيها من إيران. ومع توجيه القتال نحو إيران يمكن أن ينفذ مخزون الحوثيين من تلك الأسلحة إذا ما استمروا في توجيه الضربات لإسرائيل في وقت لا يمكن لإيران أن تعوضهم عما يستخدموه من تلك الأسلحة ولو على مدى زمني طويل نسبياً.
2- إن ضرب إيران ليس هدفه فقط تقويض قدرة الحوثيين على الاستمرار في شن الهجمات على إسرائيل، بل تدمير المشروع النووي الإيراني الذي تعتبر إسرائيل إزالته بمثابة القضاء على الخطر الاستراتيجي الذي تشكله إيران على الأمن الإسرائيلي.
3- إن ضرب ايران وقدراتها النووية ربما يقود في النهاية إلى سقوط نظام الملالي، وهو ما سيشكل في حد ذاته – وفقاً لهذا الاتجاه - ردعاً لكل الجماعات الملتفة حول الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، وسيرغم الجماعات المنتمية له في كافة أرجاء الشرق الأوسط على الانكماش وربما يؤدي إلى تلاشيها تدريجياً، بما في ذلك جماعة الحوثيين.
4- إن الخبرة الإسرائيلية منذ خمسينات القرن الماضي تشير إلى عدم فاعلية نظرية الردع ضد الفاعلين من غير الدولة (الجماعات الفلسطينية، وحزب الله، والمليشيات الشيعية)، حيث تعمل هذه النظرية بكفاءة واضحة ضد الدول وجيوشها النظامية فقط، ومن ثم فمهما كان حجم الموارد العسكرية والاستخباراتية التي ستجندها إسرائيل في مواجهة الحوثيين، فإن احتمالات ردعهم تبقى شبه منعدمة.
5- إن منظومة الدفاع الجوي الإيراني قد تضررت بشكل كبير بعد الضربتين التي وجهتهما إسرائيل إليها في شهري أبريل وأكتوبر الماضيين، وأنه لن تلوح لإسرائيل فرصة أخرى لضرب المشروعين النووي والإقليمي لإيران قبل أن تتمكن من معالجة الإضرار التي لحقت بها أمنياً وسياسياً في الفترة الماضية.
في مواجهة هذا الطرح، يرى الفريق الرافض للحرب الشاملة ضد ايران أن تكلفة هذا الخيار ستكون أكبر على كافة الأصعدة، وذلك للأسباب التالية:
1- لا تمتلك إسرائيل أدلة حاسمة على حجم الأضرار التي أصابت الدفاعات الإيرانية، وبالتالى من الخطورة بمكان شن ضربات واسعة ضد الأراضي الإيرانية من دون المخاطرة بسلامة سلاح الجوي الإسرائيلي.
2- إن شن هجمات واسعة ضد ايران سيمنحها شرعية الرد بالصواريخ الباليستية والمسيرات بأعداد ضخمة، مما يمكن أن يلحق خسائر جسيمة بإسرائيل بشرياً ومادياً، خاصة في ظل ما هو معروف من عجز المنظومات الدفاعية ضد الصواريخ عن التعامل مع الضربات المكثفة وبأعداد كبيرة ومتزامنة من هذه النوعية من الأسلحة.
3- ستحتاج إسرائيل لموافقة من جانب الولايات المتحدة قبل شن الحرب الشاملة ضد إيران. وتشير التقديرات الاستخبارية الإسرائيلية إلى أن الرئيس الأمريكي القادم دونالد ترامب ربما يعارض مثل هذه الحرب مفضلاً استخدام الضغوط الاقتصادية على إيران، مع طرح تصور شامل لمعالجة الصراعات التي تهم المصالح الأمريكية، يضمن تسويتها في أوكرانيا والشرق الأوسط وحتى التوتر القائم مع الصين حول تايوان في صفقة واحدة مع كل من روسيا والصين بحيث تحقق مصالح الجميع بما في ذلك مصلحة إسرائيل في فرض اتفاق نووي جديد على إيران يمنعها من تصنيع سلاح نووي مستقبلاً.
4- بالإضافة إلى إمكانية إضعاف الحوثيين بضربات جوية مكثفة، يمكن لإسرائيل استغلال قواتها البحرية التي لم تشارك بشكل واسع في الحرب ضد محور إيران، للتركيز على حصار وضرب الموانئ التي يسيطر عليها الحوثيون في اليمن لحرمانهم من الإمدادات التي تصلهم من إيران، وهو ما سيؤثر بشدة على قدرتهم على استمرار توجيه ضرباتهم صوب إسرائيل.
5- عبر التعاون الاستخباري مع العديد من الدول التي تملك معلومات استخبارية دقيقة عن قيادات الحوثيين ومواقع تخزين أسلحتهم يمكن تدارك الخطأ الذي وقعت فيه إسرائيل لسنوات طويلة بعدم الاهتمام بهذا الجانب والذي حرمها من إمكانية تكرار عملياتها الناجحة ضد قيادات حزب الله والحرس الثوري الإيراني، والتي كانت العامل الحاسم في تقويض قوتهما معاً.
6- نظراً للأضرار التي تتكبدها العديد من الدول في الشرق الأوسط جراء تهديد الحوثيين للتجارة الدولية عبر البحر الأحمر، يدعي هذا الفريق أن إسرائيل يمكنها المشاركة في تحالف واسع مع أغلب هذه الدول يتولى المواجهة الشاملة مع الحوثيين حتى القضاء على خطرهم بشكل نهائي.
وكما هو واضح، تبدو حجج الطرفين مقنعة إلى حد كبير، وهو ما تصعب معه إمكانية التنبؤ بأي خيار ستعتمده إسرائيل في حربها الأخيرة ضد بقايا محور ايران. ويبدو حسب التصريحات العلنية لنتنياهو أنه يميل لعدم شن حرب شاملة ضد ايران مفضلاً خيار تشديد الضربات ضد الحوثيين، فقد ذكر في معرض تعليقه على الضربات الصاروخية للحوثيين الموجهة لإسرائيل – حسب موقع تايمز اوف إسرائيل في 26 ديسمبر 2024 – أن إسرائيل لن تكون في المعركة ضد الحوثيين بمفردها!، فهل تعني تلك التصريحات أن إسرائيل قد توصلت لنتائج فعلية لتأسيس تحالف عسكري إقليمي ضد الحوثيين؟، أم أنه إشارة إلى توقعات من جانبه بأن المعركة ضد الحوثيين من المحتم أن تقود إيران إلى المشاركة فيها للحفاظ على آخر معاقلها الإقليمية، ومن ثم سينتهي هذا السيناريو بالحرب الشاملة بين إسرائيل وايران وبمشاركة واسعة من عدة دول في المنطقة وربما بتأييد ضمني من جانب الولايات المتحدة إذا ما فشل الرئيس ترامب في الضغط على إيران للتراجع عن سياستها التي تسببت في توتر إقليمي ودولي غير مسبوق؟
في كل الأحوال، ستبقى إجابة هذه التساؤلات مؤجلة إلى حين تولي الرئيس ترامب منصبه رسمياً في 20 يناير المقبل، وخلال النصف الأول من العام القادم يمكن توقع تطورات قد تحسم الإجابة بشكل أكثر وضوحاً.