عمرو عبد العاطي

باحث في الشئون الأمريكية، ومساعد رئيس تحرير مجلة السياسة الدولية

 

شكّل الصراع في سوريا تحديًّا معقدًا للسياسة الخارجية الأمريكية، ولا سيما بعد الإطاحة بنظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024. وتجسد رؤية الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن والرئيس المنتخب دونالد ترامب للتطورات السورية الراهنة رؤى متناقضة فيما يتعلق بالدور الأمريكي في مستقبل سوريا. فقد صاغت إدارة بايدن سقوط الأسد على أنه لحظة محورية تستلزم مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية النشطة لدعم الانتقال الديمقراطي واستقرار الشرق الأوسط. وعلى النقيض من ذلك، يؤكد نهج ترامب "أمريكا أولًا" على الانسحاب من الانخراط في الصراعات الدولية، ويدعو إلى الحد الأدنى من مشاركة واشنطن في الأزمة السورية، وإعطاء الأولوية للمصالح المحلية على الالتزامات الدولية.

فرصة وحذر

تنظر إدارة الرئيس المنتهة ولايته إلى سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد على أنها فرصة تاريخية ومصدر محتمل لعدم الاستقرار الإقليمي، مما دفعها إلى تحديد استراتيجية متعددة الأوجه تهدف إلى حماية مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة. ويشمل تركيز الإدارة الأبعاد العسكرية والدبلوماسية والإنسانية، مما يعكس استجابة شاملة لتعقيدات الصراع السوري.

وقد وصف بايدن سقوط نظام الأسد بأنه "عمل أساسي للعدالة"، وسلّط الضوء على المعاناة التي عانى منها الشعب السوري تحت حكم بشار الأسد واعتبر هذه اللحظة فرصة لبداية جديدة لسوريا. وقد حكم موقف الإدارة من تطورات المشهد السوري راهنًا خمس محددات رئيسية. يتمثل أولها في منع استغلال تنظيم داعش فراغ السلطة والفوضى الناجمة عن سقوط نظام الأسد لإعادة تأسيس نفوذه وتهديد الأمن الإقليمي والعالمي على حد سواء. ويتفاقم هذا التخوف من حقيقة أن التنظيم لا يزال نشطًا في سوريا، ولا يزال قادرًا على شن الهجمات ومحاولة إعادة تجميع صفوفه. وتدرك إدارة بايدن أن أي عدم استقرار خلال هذه الفترة الانتقالية يمكن أن يوفر فرصة لداعش لاستعادة موطئ قدم، خاصة بالنظر إلى المشهد المعقد للفصائل المتنافسة في سوريا.

واستجابة لهذه المخاوف، نفذت الولايات المتحدة الأمريكية العديد من الاستراتيجيات التي تهدف إلى منع تنظيم داعش من الاستفادة من الوضع الجديد في سوريا في أعقاب سقوط نظام الأسد. وكان أحد التدابير الرئيسية هو استمرار التواجد العسكري الأمريكي  في شمال شرق سوريا، بل والعمل على زيادته. فقد كشف البنتاجون، في 19 ديسمبر الجاري، أن عدد القوات الأمريكية في سوريا يصل إلى 2000 جندي، وهو ما يزيد بأكثر من الضعف عن الرقم المعلن سابقًا والذي كان يقدر بـ 900 جندي. وقد أوضح المتحدث باسم البنتاجون، الجنرال بات رايدر، أن هذه القوات موجودة بشكل "مؤقت" لدعم القوات الرسمية المنتشرة في سوريا، بهدف منع إعادة تشكيل تنظيم داعش في سوريا بعد الأسد.

وتتوزع القوات الأمريكية حاليًا بين عدة قواعد في سوريا، بما فيها قاعدة التنف على الحدود السورية-العراقية ومناطق في شمال شرق البلاد. وتواصل القوات الأمريكية التعاون مع القوات الكردية السورية ضمن التحالف الدولي لمكافحة داعش، مع التركيز على منع مقاتلي التنظيم من العودة للمعارك وضمان استمرار الضغط عليهم.

وقد نفذت القوات الأمريكية في أعقاب سقوط نظام الأسد غارات جوية واسعة النطاق استهدفت مسلحي تنظيم داعش لمنعه من استغلال الفراغ السياسي الناجم عن انهيار حكومة الأسد. ففي 10 ديسمبر الجاري، ضربت القوات الأمريكية ما يقرب من 75 هدفًا لتنظيم داعش في الصحراء السورية، باستخدام طائرات متقدمة مثل قاذفات القنابل B-52 والطائرات الهجومية A-10. وأكد مسئولو البنتاجون أن هذه العمليات تهدف إلى تعطيل أي عودة لداعش، الذي، على الرغم من ضعفه بشكل كبير منذ تصاعد نشاطه في عام 2014، لا يزال يحتفظ بوجوده مع الآلاف من المسلحين في سوريا.

وينصرف ثانيها إلى أنه بعد سنوات من تركيز الولايات المتحدة على النهج العسكري في التعامل مع الأزمة السورية لما يزيد من عقد لمحاربة تنظيم داعش، بمساعدة من حلفائها قوات سوريا الديمقراطية، فقد اتجهت إدارة الرئيس المنتهية ولايته إلى العمل الدبلوماسي مع سوريا ما بعد الأسد. ففي أعقاب الإطاحة بالنظام السوري، أكد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت التواصل المباشر مع جماعة هيئة تحرير الشام، على الرغم من تصنيفها كمنظمة إرهابية. وقد جاء هذا التواصل ضمن جهود أمريكية لتوجيه الهيئة نحو تبني مبادئ تشمل احترام حقوق الإنسان ونبذ التطرف. وترى واشنطن أن الحوار معها يمكن أن يكون له تأثير إيجابي على تصرفاتها.

وقد زار ثلاثة دبلوماسيين أمريكيين رفيعي المستوى دمشق في 20 ديسمبر الجاري للقاء قادة قوى المعارضة التي تسيطر على سوريا، في أول زيارة لدبلوماسيين أمريكيين منذ انهيار نظام بشار الأسد، بهدف استكشاف الوضع السياسي بعد سقوط النظام السوري، والمساعدة في تشكيل المشهد السياسي الجديد.

وركزت الولايات المتحدة الأمريكية في تعاملها مع سوريا ما بعد الأسد على العملية السياسية في سوريا، ولا سيما تحت سيطرة هيئة تحرير الشام، التي تعد القوة الأكثر نفوذًا حاليًا، والتي تتضمن التأكيد على انتقال سياسي يضمن كافة القوى السورية واحترام حقوق الأقليات الدينية والإثنية، وذلك من خلال مراقبة التحولات في سياسات الهيئة التي لاتزال تصنفها الولايات المتحدة الأمريكية على قوائم التنظيمات الإرهابية.

وعلى الرغم من تعاون هيئة تحرير الشام مع الولايات المتحدة الأمريكية في البحث عن معلومات حول الصحفي الأمريكي المفقود أوستن تايس، ما يعزز فرص الحوار بين الجانبين، وإظهار الهيئة تحولاً في مواقفها المتشددة، وإبداء استعدادها للعمل مع المجتمع الدولي، فإن واشنطن لا تزال حذرة، وتراقب أفعالها عن كثب لتحديد مستقبل علاقاتها معها.

ويتعلق ثالثها بحماية قوات سوريا الديمقراطية الموالية للولايات المتحدة الأمريكية في سوريا والتي كانت الحليف الاستراتيجي لواشنطن للقضاء على تنظيم داعش، في وقت يواجه فيه الأكراد مخاطر متزايدة بعد سقوط نظام الأسد تشمل احتمالية تصاعد الصراع مع المقاتلين المدعومين من تركيا، وفقدان السيطرة على بعض المناطق الغنية بالنفط. وقد عملت إدارة بايدن على تسريع الجهود للتفاوض على وقف إطلاق نار أو اتفاق سلام بين تركيا والأكراد قبل انتهاء ولايتها. فقد أكد وزير الخارجية أنتوني بلينكن على أهمية الأكراد في محاربة تنظيم داعش، لكن الجهود الأمريكية تواجه تحديًا لأن أنقرة ترفض اعتبار الأكراد شريكًا مشروعًا.

بيد أن هناك دلائل تشير إلى أن الدبلوماسية الأمريكية تؤتي ثمارها، فبعد زيارة الجنرال مايكل كوريلا قائد القيادة المركزية الأمريكية، لشمال شرق سوريا في 10 ديسمبر الجاري، تم الإعلان عن وقف إطلاق النار بين القوات الكردية والجيش الوطني السوري المدعومة من تركيا في مدينة منبج الشمالية، التي شهدت اشتباكات متكررة بين الجانبين.

ويرتبط رابعها بالتواصل مع القوى الإقليمية الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية لتنسيق الجهود حول مستقبل سوريا. فبعد الإطاحة بنظام الأسد، أكدت الإدارة الديمقراطية على أهمية تنسيق الجهود مع الحلفاء الإقليميين مثل تركيا، والأردن، ولبنان، وإسرائيل. وهذه الاستراتيجية متجذرة في هدف أمريكي أوسع يتمثل في استعادة الاستقرار في سوريا مع تعزيز الحكم الديمقراطي وتلبية الاحتياجات الإنسانية. وقد شاركت الإدارة بنشاط في حوار مع هذه الدول لضمان استجابة موحدة للوضع السوري المتطور، مما يشير إلى الالتزام الأمريكي بالدبلوماسية التعاونية بدلًا من العمل من جانب واحد.

وقد حافظت إدارة بايدن على التواصل المستمر مع أصحاب المصلحة الرئيسيين في المنطقة. فقد أجرى كبار المسئولين الأمريكيين إحاطات ومناقشات منتظمة لإبقاء قادة الحلفاء على علم بالتطورات على الأرض وتنسيق الاستجابات للتهديدات المحتملة الناشئة عن عملية الانتقال في سوريا. وتشمل هذه المشاركة الاستباقية تشجيع العراق على البقاء على الحياد وتجنب التورط في الشئون السورية مع تعزيز الالتزامات بدعم الدول المجاورة ضد أي أنشطة مزعزعة للاستقرار تنبع من سوريا. فمن خلال تعزيز هذه العلاقات، تهدف الإدارة إلى إنشاء جبهة متماسكة يمكنها إدارة تعقيدات سوريا ما بعد الأسد بشكل فعال.

علاوة على ذلك، استمر المسئولون الأمريكيون في التواصل الدبلوماسي مع الحلفاء الإقليميين لتنسيق الجهود ضد تنظيم داعش، فقد تواصل وزير الخارجية أنتوني بلينكن مع نظرائه في دول مثل الأردن والعراق لمناقشة الاستراتيجيات التعاونية لمكافحة الإرهاب خلال هذه الفترة الحرجة.

ويتصل خامسها بالالتزام بتقديم المساعدات الإنسانية وجهود إعادة البناء في سوريا، حيث تدرك الإدارة الأمريكية أن بيئة ما بعد الأسد المستقرة تتطلب دعمًا فوريًّا لمبادرات البنية التحتية وإعادة توطين اللاجئين. فمن خلال إعطاء الأولوية لهذه المجالات في اتصالاتها، تسعى الإدارة إلى حشد الدعم والتمويل الدوليين، مع التأكيد على أن الجهد التعاوني ضروري للانتعاش المستدام في سوريا. ولا يلبي هذا التركيز القضايا الإنسانية والاحتياجات الفورية للسوريين فحسب، بل يعمل أيضًا كأداة استراتيجية لتعزيز نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية ومصداقيتها في الشرق الأوسط.

ترامب وضرورات التعامل مع الوضع السوري

في مقابل سياسات إدارة الرئيس جو بايدن المنتهية ولايته التي انخرطت بسرعة في الملف السوري الذي لم يكن على أجندتها خلال سنوات حكمها الأربعة، فإن نهج الرئيس المنتخب دونالد ترامب حول الوضع المتطور في سوريا بعد الإطاحة ببشار الأسد اتسم بمزيج من الشك في مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية والاعتراف بالدور المحوري لتركيا في تشكيل مستقبل المنطقة. ففي تصريحاته الأخيرة، صاغ ترامب إزالة الأسد ليس على أنه انتصار للديمقراطية، بل على أنه "استيلاء غير ودي" دبرته تركيا، مما يشير إلى أنه ينظر إلى تصرفات أنقرة بدرجة من التناقض. ويتماشى هذا المنظور مع مقاربة سياسته الخارجية الأوسع نطاقًا، والتي تؤكد على عدم التدخل والإحجام عن الانخراط بعمق في صراعات الشرق الأوسط، مما يعكس اعتقاده الطويل الأمد بأن مثل هذه التشابكات ليست في مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية.

بيد أن التطورات الأخيرة في سوريا، وخاصة التقدم السريع الذي أحرزته قوى المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام التي حذر ترامب إدارة بايدن من إزالتها من قوائم التنظيمات الإرهابية قد تدفع الرئيس المنتخب مع توليه السلطة رسميًا في 20 يناير القادم لإعادة تقييم الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة وسوريا. ففي حين أنه دعا خلال إدارته الأولى أكثر من مرة إلى سحب القوات الأمريكية من سوريا، فإنه يواجه الآن مشهدًا معقدًا حيث باتت عودة تنظيم داعش المحتملة والاستقرار الإقليمي على المحك.

وتشير تعليقات ترامب إلى أنه في حين أنه لا يزال ملتزمًا بالحد من مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية في صراعات وأزمات منطقة الشرق الأوسط، فإنه يعترف بأن الديناميات على الأرض قد تستلزم اتباع نهج أكثر دقة من الانسحاب الصريح. ومن المرجح أن تعتمد إدارته استراتيجية توازنًا بين فك الارتباط بالمنطقة، والمشاركة مع القوى الإقليمية لمنع عودة تنظيم داعش والجماعات المتطرفة الأخرى للسيطرة على مساحات من الأراضي السورية بعد سقوط نظام الأسد، والانطلاق منها لتهديد المصالح والأمن القومي الأمريكي في الشرق الأوسط، وكذلك حلفائها الاستراتيجيين.

علاوة على ذلك، من المتوقع أن تعطي إدارة ترامب الأولوية للجهود الدبلوماسية على الحلول العسكرية، واتفاقات تتماشى مع المصالح الأمريكية مع تقليل الانخراط المباشر في الصراع السوري. ويمكن أن ينطوي ذلك على الاستفادة من العلاقات مع دول الخليج العربية وإسرائيل لموازنة النفوذ الإيراني إقليميًا وفي سوريا، واستقرار المنطقة دون الالتزام بتدخل عسكري. ومن خلال التركيز على الشراكات الاقتصادية والاتفاقيات التجارية، قد يسعى ترامب إلى تعزيز الاستقرار من خلال الوسائل غير العسكرية، مما يعكس أجندته الأوسع نطاقًا المتمثلة في إعطاء الأولوية للشراكات والاتفاقيات الاقتصادية على الارتباطات العسكرية الدولية.

ومع عدم رغبة الرئيس المنتخب في عدم التورط في الملف السوري، والاعتماد على الحلفاء لمعاجلة الأزمات الإقليمية، فإنه قد يسمح للقوى الإقليمية الفاعلة في سوريا وخاصة تركيا، بأخذ زمام المبادرة في تشكيل مستقبل سوريا، حيث سبق أن صرح بأن تركيا "ستحتفظ بالمفتاح" لما يحدث بعد ذلك في سوريا، مما يشير إلى نهج نحو الاعتماد على نفوذ أنقرة بدلًا من المشاركة الأمريكية المباشرة. وقد يتضمن مسار سياسة إدارته تحقيق التوازن بين مصالح الولايات المتحدة الأمريكية والديناميات الإقليمية.

رؤية ختامية

إن وجهة نظر بايدن بشأن سوريا متجذرة في الاعتقاد بأن الولايات المتحدة الأمريكية لديها التزام أخلاقي بالمساعدة في إعادة بناء دولة مزقتها الحرب ودعم الجهود الإقليمية ضد تنظيم داعش. وقد التزمت إدارته بالحفاظ على الوجود العسكري في سوريا لمكافحة الإرهاب مع العمل أيضًا مع الجماعات المحلية لإنشاء إطار جديد للحكم. وهذا يعكس استراتيجية أوسع تهدف إلى مواجهة النفوذ الإيراني وضمان الاستقرار الإقليمي من خلال العلاقات التعاونية مع الحلفاء مثل إسرائيل والأردن. ويشير نهج بايدن إلى الرغبة في الانخراط دبلوماسيًا مع مختلف الفصائل داخل سوريا، بهدف تعزيز بيئة مواتية للسلام وإعادة الإعمار.

وبينما يستعد ترامب لتولي منصبه في 20 يناير القادم، فمن المرجح أن تعكس سياسات إدارته تجاه سوريا تردده التاريخي في الانخراط بعمق في الصراعات الخارجية. وستكون المعضلة التي تواجه صانعي السياسات الأمريكية هي كيفية تحقيق التوازن بين ميول ترامب الانعزالية والحاجة الملحة للاستقرار في سوريا والشرق الأوسط الأوسع.

وتشترك إدارتا بايدن وترامب في أهداف مشتركة تتمثل في الحد من النفوذ الإيراني ومكافحة داعش؛ ومع ذلك، فإن مقاربتيهما تختلفان بشكل حاد، مما يؤدي إلى تناقضات محتملة في السياسة الخارجية الأمريكية للإدارتين. ولن تشكل المقاربتان المختلفتان بشكل كبير مستقبل سوريا فحسب، بل أيضًا دور الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط خلال هذه الفترة الحرجة التي تشهد إعادة تشكيل النظام الإقليمي، وإعادة تموضع القوى الإقليمية في سوريا بعد سقوط نظام الأسد.