د. أحمد عسكر

باحث مشارك - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

بدأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 20 ديسمبر الجاري (2024) جولة إلى منطقة القرن الأفريقي، والتي تشمل دولتي جيبوتي وإثيوبيا، بعد غياب دام خمس سنوات عن المنطقة منذ الزيارة الأخيرة إليها في عام 2019.

وتستمد هذه الجولة أهميتها من كونها تأتي عقب سلسلة الانتكاسات التي تشهدها فرنسا في مناطق نفوذها التقليدي في غرب أفريقيا والساحل، وآخرها خسارتها لنفوذها في كلٍّ من تشاد والسنغال، اللتين أعلنتا طرد الجنود الفرنسيين من البلدين خلال الفترة المقبلة. بالإضافة إلى إدراك ماكرون للأهمية الجيوستراتيجية التي تحظى بها منطقة القرن الأفريقي الواقعة بالقرب من مسارح العمليات الاستراتيجية وما تشهده من تفاعلات معقدة لا سيما في البحر الأحمر والشرق الأوسط ومنطقة الإندو-باسيفيك.

كما يبدو أن الرئيس الفرنسي يبحث عن نقاط ارتكاز جديدة يسعى من خلالها إلى إعادة إحياء نفوذه على الساحة الأفريقية بعدما شهدته بلاده من تراجع ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، وذلك انطلاقًا من شرق أفريقيا التي لديها علاقات ارتباطية بعدد من المناطق الاستراتيجية لا سيما منطقة الساحل، والتي ترتبط هي الأخرى أيضًا جغرافيًّا وجيوسياسيًّا مع الشمال الأفريقي الذي شهد تحركات فرنسية منذ الزيارة الأخيرة لماكرون إلى المغرب في أكتوبر 2024.

ويضفي ذلك المزيد من الأهمية على تلك الزيارة التي تعد بمثابة هروب من الإخفاق الفرنسي في غرب أفريقيا والساحل وفتح آفاق جديدة في مناطق أخرى. كما تطرح أيضًا تساؤلات حول مدى قدرة ماكرون على إحداث اختراق في ضوء تعقد التفاعلات الديناميكية الدولية والإقليمية في القرن الأفريقي التي تشهد تزاحمًا بالنسبة للقوى المتنافسة والفاعلة هناك، وتداعيات الانخراط الفرنسي في المنطقة على أمنها واستقرارها خلال المرحلة القادمة.

مأزق ماكرون الراهن في أفريقيا

تواجه فرنسا معضلة تراجع نفوذها بشكل واضح في غرب أفريقيا والساحل خلال السنوات الأخيرة، وخاصة منذ اندلاع سلسلة الانقلابات العسكرية التي شهدتها بعض دول الساحل مثل مالي وبوركينافاسو والنيجر في الفترة بين عامي 2020 و2023، والتي رفضتها باريس خوفًا من تهديد نفوذها، خاصة مع صعود نخبة عسكرية جديدة إلى السلطة في الدول الثلاث، لديها توجه نحو بناء تحالفات جديدة مع بعض القوى الدولية مثل روسيا والخروج من عباءة التبعية للغرب وفرنسا، التي تلقت ضربة قاسية عقب موجات الرفض الشعبي لها، والتي تجلت في اندلاع العديد من التظاهرات الشعبية الرافضة للوجود العسكري الفرنسي، مطالبة بطرد القوات الفرنسية من بلدان الساحل.

وقد استغل العسكريون الجدد ذلك في تعزيز شرعيتهم السياسية في منطقة الساحل، تمهيدًا لإطالة أمد المرحلة الانتقالية والدفع نحو استمرار هؤلاء العسكريين في السلطة لسنوات قادمة، وذلك بالشروع في إنهاء الاتفاقات الدفاعية والأمنية مع الجانب الفرنسي خلال العامين الأخيرين، ومطالبة القوات الفرنسية بالانسحاب من قواعدها العسكرية في معظم دول الساحل لا سيما مالي وبوركينافاسو والنيجر.

وتستمر حالة الانسحاب الفرنسي من المنطقة بعدما أعلنت السنغال وتشاد رغبتهما في إنهاء الوجود العسكري الفرنسي في البلدين، حيث طالبت السلطات التشادية باريس بضرورة سحب قواتها العسكرية من البلاد قبل حلول فبراير 2025 بعدما ألغت الاتفاقات الدفاعية معها مؤخرًا. كما أعلن عثمان سونكو، رئيس وزراء السنغال، أن الوقت قد حان لاستعادة بلاده سيادتها الوطنية، وانسحاب الجنود الفرنسيين من البلاد في وقت قريب، وهو ما يعمق المعضلة الفرنسية في أفريقيا، لا سيما أن باريس تعتبر نجامينا وداكار من أبرز الحلفاء الرئيسيين التقليديين لها في غرب أفريقيا والساحل.

كما تتزايد المخاوف الفرنسية من صعود بعض القوى المنافسة لها مثل روسيا وتركيا، خاصة مع تفاقم بعض القضايا التي تمثل تهديدًا صريحًا لأمن أوروبا وفرنسا على وجه الخصوص، وعلى رأسها تصاعد نشاط الإرهاب نتيجة تهديدات التنظيمات الإرهابية النشطة هناك، وما يرتبط بذلك من تنامي تدفقات الهجرة غير الشرعية وتفاقم أنشطة الجريمة المنظمة بما في ذلك التهريب والمخدرات، الأمر الذي يعزز تخوفات أوروبا من احتمال مساومة القوى المناوئة لها بتلك الملفات للحصول على مزايا استراتيجية في ملفات أخرى مثل ملف أوكرانيا بالنسبة لموسكو، وملف الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وكذلك ليبيا وسوريا بالنسبة لتركيا.

تحول استراتيجي لافت

مع استمرار حالة الإخفاق الفرنسي في الحفاظ على النفوذ في غرب أفريقيا والساحل خلال السنوات الأخيرة، يبدو أن الرئيس ماكرون يبحث عن نقاط ارتكاز جديدة ينطلق من خلالها في محاولة لإعادة إحياء النفوذ الفرنسي في الساحة الأفريقية، وذلك عبر بوابتي جيبوتي وإثيوبيا.

وتبدو منطقة القرن الأفريقي ساحة استراتيجية مناسبة لماكرون لتعزيز تحركاته في أنحاء القارة، لا سيما أن فرنسا تمتلك وجودًا عسكريًّا يعد هو الأكبر في القارة في الوقت الراهن، يتمثل في قاعدتها العسكرية بجيبوتي التي تحتضن نحو 1500 جندي، وهو ما يمنح ماكرون ثقلًا سياسيًّا وعسكريًّا هناك. كما أن الأهمية الاستراتيجية للقرن الأفريقي تمنح باريس القدرة على التأثير في بعض الملفات الشائكة على مسرح العمليات الإقليمي، لا سيما في ضوء القرب الجغرافي من إقليم البحر الأحمر والمحيط الهندي والشرق الأوسط وكذلك شرق المتوسط، وحتى منطقة الساحل التي ترتبط استراتيجيًّا بالقرن الأفريقي، وذلك في ضوء تعقد التفاعلات الدولية والإقليمية هناك، بما يُصعّد حالة التنافس الدولي في المنطقة.

إذ تنظر باريس إلى جيبوتي باعتبارها موطئ قدم استراتيجيًا مهمًا لها، ونقطة محورية للعمليات العسكرية الفرنسية، بما يجعلها أكثر مركزية في استراتيجية الدفاع الفرنسية[1]. لذلك، تحرص باريس على تأمين استمرار قاعدتها العسكرية الأخيرة في أفريقيا التي أضحت أكثر أهمية بالنسبة للفرنسيين. ومن ثم، التأكيد على اتفاق التعاون الدفاعي مع جيبوتي، وذلك تمهيدًا لاحتمال قيام الإدارة الفرنسية بمراجعة لإعادة الانتشار العسكري الفرنسي في القارة[2]، خاصة بعدما تم طرد القوات الفرنسية من مالي وبوركينافاسو والنيجر بين عامي 2022 و2023، وتوتر العلاقات مع تشاد والسنغال اللتين طالبتا باريس بالانسحاب النهائي لقواتهاالعسكرية من البلدين، إضافة إلى تقليص القوات الفرنسية إلى الحد الأدنى في الجابون وكوت ديفوار[3].

ويضمن توسع النفوذ الفرنسي في القرن الأفريقي انخراط باريس في المعادلة الأمنية الإقليمية والدولية للبحر الأحمر، وما يشهده من توترات جيوسياسية متزايدة، حتى تظل بالقرب من سلسلة التفاعلات المعقدة في الشرق الأوسط لا سيما المواجهات بين جماعة الحوثي وإسرائيل على خلفية استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة. بالإضافة إلى الحرص الفرنسي على دعم الأمن الإقليمي وضمان حرية الملاحة في البحر الأحمر الذي أضحى عرضة للقرصنة والتهديدات الأمنية من بعض الفاعلين من غير الدول، إلى جانب تصاعد التنافس الدولي في المنطقة.

كما أن الوجود العسكري الفرنسي في جيبوتي يعد مرتكزًا أساسيًّا للاستراتيجية الفرنسية الساعية إلى الانخراط والتأثير بقوة في منطقة الإندو-باسيفيك، وذلك من أجل حماية وتأمين طرق التجارة الدولية هناك، وسط توقعات باحتدام التنافس الدولي على النفوذ والهيمنة على الموارد هناك بين القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا وأوروبا. ويمكن أن يقود الاهتمام الفرنسي بمنطقة المحيط الهندي إلى محاولة تعزيز علاقاتها وتأكيد نفوذها في الدول الأفريقية الساحلية المطلة عليها مثل كينيا وتنزانيا وموزمبيق، لضمان موطئ قدم إضافي مهم هناك.

في سياق متصل، يدرك الرئيس ماكرون الأهمية الاستراتيجية لإثيوبيا في القرن الأفريقي، باعتبارها ركيزة أساسية للأمن الإقليمي هناك، وبمثابة بوابة لفرنسا من أجل تعزيز علاقاتها مع دول المنطقة، ونقطة انطلاق لمواجهة خصوم باريس الاستراتيجيين هناك.

إذ تحمل زيارة ماكرون إلى إثيوبيا العديد من النقاط الإيجابية للطرفين. فمن ناحية، ربما تشكل تلك الزيارة دعمًا لآبي أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي، في مواجهته للتحديات الداخلية المتصاعدة على مدار الفترة الماضية وخاصة في إقليمي أمهرة وتيجراي. كما أنها قد تعيد إحياء الاتفاق الفرنسي الإثيوبي المبرم في عام 2019 بشأن الدعم الفرنسي لإعادة بناء البحرية الإثيوبية، وهو ما يعزز النفوذ الإثيوبي في القرن الأفريقي، ويسهم في إعادة تشكيل توازنات القوة على الصعيد الإقليمي في المنطقة، خاصة إذا استطاعت إثيوبيا تأمين قاعدة عسكرية لها في إقليم أرض الصومال وفقًا للاتفاق المبرم بينهما في يناير 2024، وإن كان ذلك يتوقف على مدى التزام الجانب الإثيوبي بإعلان أنقرة المبرم مؤخرًا لتسوية الخلاف الإثيوبي الصومالي بسبب الاتفاق الأخير.

ومن ناحية أخرى، ربما تشكل هذه الزيارة نقطة محورية في تقديم فرنسا نفسها كلاعب رئيسي في القرن الأفريقي قادر على معالجة التحديات الرئيسية بالمنطقة مثل الصراعات الداخلية في إثيوبيا، ومحاولة تقريب وجهات النظر في الخلافات القائمة بين زعماء المنطقة مثل إثيوبيا وإريتريا، وإثيوبيا والصومال. بالإضافة إلى محاولة تحسين الصورة الذهنية لفرنسا لدى الرأى العام الأفريقي، من خلال تفعيل بعض أدوات القوة الناعمة الفرنسية، وهو ما تجلى في مساهمة باريس في تحديث وتطوير القصر الوطني بأديس أبابا، كجزء من التزامها بدعم التراث الثقافي الإثيوبي، وقد شارك الرئيس ماكرون في افتتاحه خلال الزيارة الراهنة للبلاد، وذلك في محاولة للتخلص من مشاعر الاستياء التي تواجهها فرنسا في غرب أفريقيا والساحل خلال السنوات الأخيرة.

وفي إطار المساعي الفرنسية للانخراط في قضايا المنطقة للعب دور بارز يعزز النفوذ الفرنسي في القرن الأفريقي، ربما يوظف ماكرون علاقاته الجيدة مع أديس أبابا من أجل ممارسة دور إيجابي في تسوية بعض الصراعات الإقليمية المتأزمة مثل الصراع السوداني المستمر منذ أبريل 2023، ولا تزال تأثيراته السلبية تهدد أمن واستقرار المنطقة ودول الجوار الإقليمي للسودان. وإن كان بعض التقارير تشير إلى احتمال تورط فرنسي في الأزمة السودانية بدعم بعض الأطراف الإقليمية، وذلك من خلال توصل ماكرون لاتفاق مع إثيوبيا لنقل الأسلحة إلى الداخل السوداني عبر الأراضي الإثيوبية، من أجل دعم قوات الدعم السريع[4]، وهو ما قد يسهم في توسيع دائرة الصراع السوداني، وتحول السودان إلى ساحة إقليمية للصراع والتنافس بين القوى الدولية والإقليمية، وهو أمر حتمًا سينعكس سلبًا على الأمن والاستقرار الإقليمي في المنطقة.

فيما تجدر الإشارة إلى أن التمركز الفرنسي في القرن الأفريقي قد يمنح ماكرون الفرصة لتقليص نفوذ بعض خصومه الاستراتيجيين مثل تركيا التي يتنامى دورها في المنطقة، وذلك في محاولة للانتقام من أنقرة التي تستغل التراجع الفرنسي في الساحل وغرب أفريقيا من أجل توسيع دائرة نفوذها وتحالفاتها هناك من خلال تعزيز الدبلوماسية العسكرية، بما في ذلك تطوير التعاون العسكري والأمني مع دول الساحل، وفتح أسواق جديدة للصناعات التسليحية التركية وخاصة المسيّرات التركية من نوع بيرقدار، وهو ما قد يدفع باريس لبعثرة أوراق أنقرة في ملف المصالحة الإثيوبية الصومالية، من خلال تعطيل الاتفاق الأخير عبر تشجيع أديس أبابا للمضي قدمًا نحو إعادة بناء قوتها البحرية، وذلك من أجل مساومة أنقرة على عدد من الملفات الاستراتيجية بما في ذلك منطقة الساحل وكذلك بعض الملفات الحيوية في الشرق الأوسط مثل ليبيا وسوريا وشرق المتوسط.

مستقبل ضبابي

تبدو تصريحات الرئيس ماكرون بشأن جولته الحالية للقرن الأفريقي بها درجة كبيرة من التفاؤل، خاصة أنه يعتبرها بمثابة نقطة انطلاق لفرنسا لإعادة تشكيل استراتيجيتها نحو أفريقيا، وذلك بالرغم من أن المنطقة لم تكن بالأساس منطقة نفوذ تقليدي لفرنسا، كما أنها غائبة عنها منذ سنوات، في الوقت الذي وطدت فيه بعض القوى الأخرى المنافسة مثل الصين وتركيا نفوذها هناك، بما قد يجعل من الصعب على ماكرون مجاراة النفوذ الصيني على سبيل المثال. وبالتالي يُستبعد أن يحقق نتائج كبيرة هناك، إلا إذا تلقى دعمًا من بعض حلفائه مثل الولايات المتحدة، خاصة في إطار حرصها على وجود حلفاء لها في المنطقة، ومع تراجع نفوذها ودورها هي الأخرى في القارة خلال الفترة الماضية، وسط توقعات باستمرار هذا التراجع مع صعود الرئيس المنتخب دونالد ترامب للسلطة في يناير 2025.

إجمالًا، لا يبدو أن باريس لديها أي خيار للتراجع، في ضوء مساعيها المستمرة لاستعادة نفوذها المفقود في الساحة الأفريقية. وبالتالي، من المرجح استمرار تلك المساعي خلال الفترة القادمة في محاولة لتغيير المشهد الجيوسياسي في القرن الأفريقي، لتصبح إحدى مناطق النفوذ الفرنسي التي تنطلق منها إلى إعادة إحياء نفوذها في مناطق النفوذ التقليدية لفرنسا، وذلك في ضوء الارتباط الجيوستراتيجي بين القرن الأفريقي والغرب الأفريقي بما في ذلك الساحل.

ويظل ذلك مرهونًا بقدرة باريس على توسيع دائرة تحالفاتها مع دول القرن الأفريقي ومحاولة تقديم قيمة مضافة في علاقاتها هناك، بما يمنحها درجة تفضيل مقارنة بمنافسيها الاستراتيجيين هناك. بالإضافة إلى تقديم نفسها كلاعب أمني رئيسي في المنطقة، ورقم مهم في المعادلة الأمنية للبحر الأحمر وكذلك المحيط الهندي، بما يضمن لباريس توطيد موطئ قدم استراتيجي مهم لها هناك خلال الفترة المقبلة، وإن كان ذلك يعزز من عسكرة القرن الأفريقي، وما يترتب عليها من انعدام الأمن والاستقرار الإقليمي في المنطقة مستقبلًا.


[1]. Africa Intelligence, Djibouti, Ethiopia: Agenda for Macron's tour of the Horn revealed, 11 December 2024, accessible at: https://tinyurl.com/5zpf6rak

[2]. Pierre Haski, Macron In Djibouti: Facing The End Of France’s Military Legacy In Africa, World Crunch, 20 December 2024, accessible at: https://tinyurl.com/mr2yjkfv

[3].  Christophe Châtelot, Macron visits Djibouti, France's last operational base in Africa, Le Monde, 20 December 2024, accessible at: https://tinyurl.com/bdfjv7wu

[4]. The Habesha, Ethiopia on the brink of new conflicts: Macron’s visit and secret agreements to support Sudanese rebels, 19 December 2024, accessible at: https://tinyurl.com/58rfmd5a