د. محمد عباس ناجي

رئيس تحرير الموقع الإلكتروني - خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

كان إعلان مساعدة وزير الخارجية الأمريكي باربرا ليف، في 20 ديسمبر 2024، إلغاء تطبيق عرض برنامج مكافآت من أجل العدالة الذي كان سارياً منذ سنوات عدة ضد زعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني (أو أحمد الشرع)، بقيمة 10 مليون دولار، متوقعاً تماماً. إذ لم تعد هذه الخطوة ذات قيمة بعد أن عقد وفد أمريكي برئاسة ليف اجتماعاً مع الجولاني في دمشق في اليوم نفسه.

ورغم أن الوفد الأمريكي قدّم إلغاء المكافأة المالية لمن يدلي بمعلومات عن الجولاني تؤدي إلى اعتقاله على أنه "جائزة" أو "هدية مجانية" للجولاني - الذي تلقى هدية أثمن تتمثل في الالتقاء بوفد من الولايات المتحدة الأمريكية التي تصنف هيئة تحرير الشام كمنظمة إرهابية - إلا أن ذلك لا ينفي أن واشنطن ما زالت تحتفظ بأوراق أكثر تأثيراً سوف تستخدمها تباعاً في إدارة علاقاتها مع القوى التي وصلت إلى السلطة في سوريا بعد أن أطاحت بنظام الرئيس بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، ولا سيما هيئة تحرير الشام. وربما تتماهى عواصم غربية عديدة نسبياً مع هذه الرؤية، على نحو بدا جلياً أيضاً في الزيارات التي قامت بها وفود بريطانية وفرنسية وألمانية إلى دمشق، وإن كان ذلك لا ينفي أن ثمة تباينات إزاء بعض الملفات.

بوابة تل أبيب وطهران

تضمن اللقاء بين الوفد الأمريكي والجولاني قضايا عديدة مثل تشكيل حكومة جامعة، والموقف من الأقليات والقوميات والتنظيمات الإرهابية، لا سيما تنظيم "داعش"، فضلاً عن رفع هيئة تحرير الشام من قائمة التنظيمات الإرهابية، وقانون "قيصر"، إلى جانب مصير الصحفي الأمريكي اوستن تايس المختفي داخل سوريا منذ عام 2012. لكن رغم كل ذلك، فإن الملفات التي تحظى باهتمام خاص من جانب الولايات المتحدة الأمريكية والتي تجعلها تصر على عدم اتخاذ مزيد من الخطوات الإيجابية إزاء هيئة تحرير الشام والقوى التي وصلت إلى السلطة في دمشق قبل أن تتحول "الأفعال" إلى "أقوال"، تتمثل في قضايا السياسة الخارجية، لا سيما ما يتعلق بالموقف من إسرائيل وإيران تحديداً.

إذ تبدي الولايات المتحدة الأمريكية اهتماماً خاصاً بمتابعة تأثير ما جرى على الحضور الإيراني في سوريا، حيث ترى أن سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وقبله إضعاف القدرات العسكرية لحزب الله اللبناني، فضلاً عن حركة حماس الفلسطينية، كل ذلك أضعف الدور الإيراني في المنطقة، ودفع إيران تدريجياً إلى الانكماش داخل حدودها، حيث أصبح نفوذها منحصراً في العراق واليمن تحديداً.

لكن رغم ذلك، لا تستبعد واشنطن أن تعاود إيران محاولة تعزيز نفوذها داخل سوريا، عبر آليات مختلفة، بدأت اتجاهات إيرانية عديدة في الإشارة إليها، رغم أن ذلك ربما يكون من باب محاولة تقليص أهمية ما حدث بالنسبة لنفوذ إيران، حيث ما زال المسئولون الإيرانيون حريصين على الترويج إلى أن نفوذ إيران لن يتأثر بسقوط النظام السوري.

وبالتوازي مع ذلك، لا تبدو واشنطن بعيدة عن الاستراتيجية التي تتبناها إسرائيل في المرحلة الحالية والتي تقوم في الأساس على استغلال ما حدث في سوريا من أجل إضعاف خصومها، وتحديداً إيران والمليشيات الموالية لها، وتحييد أية مخاطر محتملة قد تنجم عن وصول قوى جديدة إلى الحكم في سوريا، وهو ما بدا جلياً في العمليات العسكرية التي قامت إسرائيل بشنها داخل سوريا في مرحلة ما بعد سقوط النظام السوري، والتي أسفرت عن تدمير نحو 80% من القدرات العسكرية السورية، فضلاً عن شن هجمات أخرى ضد مواقع تابعة لإيران وحزب الله.

هنا، تبدو القوى الجديدة التي وصلت إلى السلطة في دمشق مدركة لمدى أهمية هذين الملفين بالنسبة للدول الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية. وانطلاقاً من ذلك، بدا الجولاني حريصاً على توجيه رسائل مباشرة تفيد أنه حريص على التماهي مع التوجهات التي تتبناها الدول الغربية في هذا الصدد.

هذه الرسائل وجهها الجولاني خلال حواراته الأخيرة مع وسائل إعلام غربية وعربية ولقاءاته مع مسئولين غربيين، حيث قال في حواره مع صحيفة "الشرق الأوسط"، في 19 ديسمبر الجاري، أن "ما قامت به الفصائل المعارضة وأنجزته بأقل الأضرار والخسائر الممكنة، أعاد المشروع الإيراني في المنطقة 40 سنة إلى الوراء".

وفي الخطبة التي ألقاها في المسجد الأموي بدمشق، في 8 ديسمبر الجاري، قال الجولاني أن "بشار الأسد ترك سوريا مزرعة للأطماع الإيرانية، ونشر فيها الطائفية"، مضيفاً أنه نشر أيضاً "الفساد حتى أصبحت أكبر مصنع لمخدر الكبتاجون في العالم".

كذلك، بدت رسائل الجولاني إلى إسرائيل مباشرة. ففي مقابل إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو انهيار اتفاقية فض الاشتباك التي وقعت مع سوريا في عام 1974، قال الجولاني في مقابلة مع صحيفة "ذا تايمز"البريطانية، في 17 ديسمبر الجاري، أن سوريا "لن تستخدم كقاعدة للهجمات ضد إسرائيل أو أي دولة أخرى"، مؤكداً التزام دمشق بالاتفاقية.

أهداف عديدة

هنا، يمكن القول إن الجولاني يسعى إلى تحقيق أهداف عديدة عبر هذه الرسائل: يتمثل أولها، في دفع الدول الغربية إلى رفع هيئة تحرير الشام من قائمة التنظيمات الإرهابية، وبالتالي تعزيز حضورها كرقم مهم في المشهد السوري خلال المرحلة القادمة. وربما من هنا، كانت خطوة تشكيل حكومة انتقالية برئاسة رئيس حكومة الإنقاذ في إدلب محمد البشير، محاولة لتقييم ردود فعل الدول الغربية تحديداً إزاء الأجندة التي تعمل هيئة تحرير الشام على تنفيذها خلال المرحلة القادمة، خاصة أن تشكيل حكومة تسيطر عليها الهيئة ربما يمثل مؤشراً إلى رؤية الهيئة إزاء المسارات التي يمكن أن تتجه إليها العلاقات مع القوى الأخرى التي شاركت في الإطاحة بالنظام السابق. وبمعنى أدق، فإن الهيئة بهذه الخطوة ربما حاولت اختبار ردود فعل الدول الغربية وما إذا كانت ستعارض ذلك باعتبار أنه لا يؤشر إلى تشكيل حكومة جامعة أم ستتغاضى عنه مقابل الرسائل الإيجابية التي وجهها الجولاني فيما يتعلق بمعارضة النفوذ الإيراني والتغاضي عن التدخل الإسرائيلي.

ويتعلق ثانيها، باستقطاب دعم دولي، وغربي تحديداً، يمكن أن يساهم في توسيع هامش الخيارات المتاحة أمام الجولاني في حالة ما إذا قرر أن يكون له موقع رئيسي في النظام السياسي السوري القادم، وهو ما سبق أن ألمح إليه في ردٍ على سؤال حول ما إذا كان سيترشح للانتخابات الرئاسية القادمة، بقوله أنه "إذا لم يطلب السوريون ذلك سأكون مرتاحاً".

وينصرف ثالثها، إلى تعزيز فرص مشاركة تلك الدول، وبعض دول المنطقة، في عمليات إعادة الإعمار، وهى أحد الملفات الرئيسية التي ستوضع على قمة أولويات القوى التي ستحكم سوريا خلال المرحلة القادمة، خاصة أن الهيئة سبق أن دعت اللاجئين السوريين إلى العودة من جديد إلى سوريا، في محاولة أخرى لاستقطاب دعم الدول التي تستضيف اللاجئين، ومن بينها الدول الأوروبية التي يمثل هذا الملف تحديداً أحد محاور تمايز سياساتها عن السياسة الأمريكية إزاء ما يجري في سوريا منذ 27 نوفمبر الفائت.

ويتصل رابعها، بدفع الدول الغربية إلى مواصلة تبني المقاربة القائمة على أن هناك تمايزاً بين الهيئة والتنظيمات الإرهابية، لا سيما تنظيم "داعش" الذي تعرض لضربات عسكرية أمريكية قوية في الفترة الماضية، وآخرها الضربة التي أسفرت عن مقتل زعيمه في سوريا أبو يوسف في 21 ديسمبر الجاري، وتنظيم "القاعدة" الذي قال الجولاني أنه لم يعد له علاقة به، زاعماً أن "سوريا ليست أفغانستان".

ختاماً، يمكن القول في النهاية إن سوريا ما زالت في مرحلة تبادل الرسائل بين التنظيمات والفصائل التي وصلت إلى الحكم والدول الغربية المعنية بما يجري داخل سوريا وما يمكن أن يتمخض عنه من ارتدادات على مستوى منطقة الشرق الأوسط تحديداً. إذ تهدف هذه الأطراف إلى تمهيد الأجواء لـ"شرعنة" وصولها إلى السلطة واستقطاب دعم دولي، وتحديداً غربي، لذلك، في حين تعمد الدول الغربية إلى الربط بين مستوى انفتاحها على تلك القوى ومدى اتجاهها إلى تحويل أقوالها إلى أفعال، لا سيما فيما يتعلق بالموقف من إيران وإسرائيل.

 من هنا، تبقى قضايا مثل تشكيل حكومة جامعة والموقف من القوميات والأقليات وحقوق الإنسان أوراق ضغط يمكن استخدامها عند تدعو الحاجة لذلك. وتبدو المواقف الغربية من سيطرة طالبان على الحكم في أفغانستان في أغسطس 2021، ثم الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة خير شاهد على ذلك.