تُعد روسيا كقوة عظمى، أحد الأقطاب الدولية المشاركة فى إدارة النظام العالمى، بما تمتلك من إمكانات عسكرية ضخمة، وقوة نووية، ومكانة دولية مرموقة، إلى جانب كونها واحدة من الدول التى تمتلك أفضلية فى صناعة قرارات المنظمة الدولية عبر مجلس الأمن، وعضوا فى عدد من المنظمات والتجمعات الإقليمية الواعدة، وفى مقدمتها تجمع «بريكس»، ومنظمة «شنغهاى» للتعاون، وغيرها من التجمعات ذات الشأن. وتعد روسيا أحد أهم الشركاء الدوليين لعدد كبير من الدول والقوى الإقليمية فى منطقة الشرق الأوسط، وكانت محط اهتمام تلك القوى باعتبارها «قطبًا دوليًا» قادرًا على مناهضة الهيمنة الأمريكية - الأوروبية على عملية صناعة القرار السياسى الدولى والتفرد به. وتعد مصر إحدى هذه الدول التى تمتلك رصيدا إقليميا وازنا، ومكانة وقدرات عسكرية كبيرة، ومقومات اقتصادية طموح، وسوقا تجارية ضخمة، فضلا عن رصيدها التاريخى والسياسى العريض الذى شهد مسارا جيدًا من التعاون والشراكة مع روسيا فى العديد من مجالات التعاون، سواء العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية، وصولا إلى التعاون فى مجال الطاقة النووية.
هذه العلاقات المتعددة الجوانب أسستها الدولتان منذ عام 1943، وظلت راسخة على قاعدة من التعاون والشراكة الثنائية المتعددة المجالات. وقد شهدت هذه الشراكة نقلة مختلفة فى مستويات التعاون الخاصة بها منذ عام 2014، حيث تبنت مصر سياسة خارجية تُدار على أساس تعظيم المصالح المشتركة مع روسيا، وتنمية المنافع المتبادلة معها، وهى سياسة جديدة هدفها «تنويع» مصادر الشراكات المصرية - الدولية من ناحية، وعدم قصرها على العلاقات مع الولايات المتحدة والقوى الأوروبية من ناحية أخرى، بل وتبنى سياسات أكثر اتجاها نحو القوى الإقليمية الصاعدة؛ كروسيا والصين والهند ودول وسط آسيا. وتتحرك مصر فى هذا الاتجاه انطلاقا من عدة مبادئ، أبرزها: احترام سيادة الدول وقرارها السياسى، وعدم التدخل فى شئونها الداخلية، والحفاظ دوما على كيان الدولة الوطنية ومقدراتها ومؤسساتها وحمايتها من الانهيار. بهذه الكيفية، يمكن القول إن «الشراكة الاستراتيجية» بين مصر وروسيا تُعد رغبة مشتركة لكلتا الدولتين.
فى المقابل، تتحرك روسيا - فى إطار تعاونها مع منطقة الشرق الأوسط عامة، ومع مصر خاصة - من سياسات براجماتية محضة، لكنها تتسم بقدر كبير من المرونة. فعلى مستوى علاقاتها بدول المنطقة، نجدها تقود مسارا براجماتيا مكَّنها من إدارة علاقات شراكة قوية بينها وبين كل من تركيا وإيران وإسرائيل. وبالنسبة لعلاقات التعاون مع مصر، فهى لا توقفها على مشروطية محددة؛ كأن تطالب بوقف أنماط التعاون المختلفة بين القاهرة والدول المناهضة لروسيا كالولايات المتحدة وأوروبا، كما أنها لا تزال تتعامل ببراجماتية محضة مع ملف من أهم ملفات مصر الخارجية، وهو ملف «سد النهضة». فبالرغم من نمط الشراكة الاستراتيجية مع مصر، اتجهت روسيا خلال السنوات الماضية إلى رفع مستوى التعاون مع إثيوبيا بصورة متسارعة، انطلاقا من فكرة أن «جمع الأضداد» وصياغة سياسة خارجية فى إطارها يُمكِّن روسيا من تحقيق الكثير من المصالح المتنوعة. اللافت للنظر أنه بالرغم من براجماتية السياسة الخارجية الروسية التى مكنتها من «جمع الأضداد الإقليميين» فى شراكة استراتيجية معها، إلا أنها تفتقد القدرة على لعب دور «الوسيط» فى الأزمات الكبرى حتى اللحظة. باستثناء الأزمة السورية التى نجحت فى إدارة استراتيجية خفض التصعيد بها، لكنها فى الوقت نفسه لم تنجح فى حلها بصورة نهائية.
يُعد التعاون فى المجالات الفنية والتقنية من أهم المجالات التى ينبغى لكلتا الدولتين الدفع نحو مسارات عملية تضمن تنفيذه على أرض الواقع؛ خاصة مشروع محطة توليد الكهرباء بالطاقة النووية بمنطقة الضبعة، ومشروع إقامة منطقة للصناعات الروسية فى شرق بورسعيد، وهى مشروعات لم يتم إنجازها حتى الآن. يضاف إلى ذلك توقف مسار التفاوض بين القاهرة والاتحاد الأوراسى منذ عام 2017 بشأن إقامة منطقة للتجارة الحرة بين الجانبين. وقد عقدت لجنة التعاون الاستراتيجى المشتركة المصرية - الروسية اجتماعا موسعًا فى موسكو خلال يونيو 2021، ناقش تطورات التعاون الثنائى فى المجالات المختلفة؛ الاقتصادية والتجارية والفنية، وفى يوليو 2021، جرت مراجعة أخرى لآفاق التعاون المصرى - الروسى وتحدياته من خلال حوار افتراضى عقده مجلس الوزراء المصرى، بالتعاون مع المجلس الروسى للشئون العالمية (RIAC)، وخلصت تلك المراجعة إلى وجود «فرص» لترقية التعاون بمعناه الاستراتيجى بين مصر وروسيا فى مجال إتمام المشروعات الكبرى كمحطات الكهرباء والطاقة، والمنطقة الصناعية شرق بورسعيد، واتفاق التجارة الحرة بين مصر والاتحاد الاقتصادى الأوروآسيوى. فضلًا عن معالجة أوجه القصور فى مجال التبادل السياحى وتراجع معدلات الوفود السياحية الروسية الوافدة لمصر، وتراجع معدلات الصادرات المصرية للسوق الروسية.
فى سياق المعطيات السابقة، جاءت هذه الدراسة تحت عنوان «فرص تطوير العلاقات المصرية - الروسية بين المحفزات الجيواقتصادية والتحديات الجيوسياسية»، للدكتورة/ ياسمين أحمد الضوى - الخبيرة فى العلاقات الدولية والجيوسياسية والعلاقات الشرق أوسطية، وتسعى من خلالها إلى تقييم السياسات الجيوسياسية والجيواقتصادية التى تحكم سلوك وممارسات كل من مصر وروسيا فى سبيل توطيد علاقات التعاون الثنائية بينهما وتثبيت مكانتهما الدولية. كما تحاول الدراسة تحديد ماهية هذه السياسات وفرص نجاحها من خلال عرض لأهم مجالات التعاون الثنائى ومكاسبه، ورصد أهم التحديات التى يواجهها. وذلك من خلال الإجابة عن تساؤل بحثى رئيسى حول «كيفية تأثير المحفزات الجيواقتصادية التى يقدمها الطرفان لبعضهما بعضًا، والتحديات الجيوسياسية المحيطة بهما فى فرص تطوير العلاقات الثنائية؟»، وتنتهى الدراسة إلى صياغة عدة توصيات من شأنها تجاوز العوائق والعثرات التى تحول دون ترقية الشراكة الاستراتيجية بما يعظم من المنافع المتبادلة بينهما.