تعكس زيارة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إلى تركيا في 17 ديسمبر 2024، وهي الأولى من نوعها منذ سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، رغبة الاتحاد الأوروبي في توظيف الثقل التركي السياسي والعسكري والاقتصادي على الساحة السورية في التوقيت الحالي، ليس فقط لحماية مصالح الاتحاد، وإنما أيضاً من أجل دعم بناء نظام سياسي سوري يرتكز على تعددية تمثل كافة الأطياف والأقليات، ويضمن انتقالاً سلمياً للسلطة، باعتبار ذلك مدخلاً مهماً سواء لمنع إنتاج أزمة لجوء جديدة أو لجهة استخدام سوريا كقاعدة للإرهاب من جانب التنظيمات المسلحة.
ورغم ترحيب الاتحاد الأوروبي بسقوط الأسد، وإرساله، في 16 ديسمبر 2024، وفداً دبلوماسياً رفيع المستوى إلى دمشق للتواصل مع الحكومة الجديدة، إلا أن الاتحاد يرى أنقرة في التوقيت الحالي حلقة وصل مهمة مع القيادة السورية الجديدة، خصوصاً وأنه لم يصل بعد إلى رؤية متكاملة حول كيفية التعامل مع هيئة تحرير الشام التي تمسك بزمام المشهد السوري في التوقيت الحالي.
مؤشرات كاشفة
شهدت الأيام الماضية بروز العديد من المؤشرات الدالة على حرص الاتحاد الأوروبي على تعزيز تعاونه مع تركيا فيما يخص تطورات المشهد السوري، ويمكن بيان ذلك على النحو التالي:
1- دعم مخصصات اللجوء والهجرة: قرر الاتحاد الأوروبي، في 16 ديسمبر 2024، تقديم مليار يورو إضافية إلى تركيا، قبل نهاية العام الجاري، لدعم جهودها في رعاية اللاجئين السوريين وإدارة شئون الهجرة. ويستهدف الاتحاد من وراء هذه المخصصات منح تركيا فرصاً أفضل لتوفير بيئة مواتية تسمح بتسريع العودة الطوعية للاجئين السوريين إلى بلادهم، وهو ما يعنى تصفير أية عمليات محتملة للهجرة غير النظامية إلى أوروبا خلال المرحلة المقبلة.
2- تجاهل عسكرة الأزمة شمال سوريا: غض الاتحاد الأوروبي الطرف عن عملية "فجر الحرية" التي أطلقتها الفصائل العسكرية المدعومة من تركيا، في 30 نوفمبر 2024، ضد قوات سوريا الديمقراطية "قسد" في شمال وشرق سوريا. كما أكدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عشية زيارتها الأخيرة لتركيا على ضرورة تفهم المخاوف الأمنية المشروعة لتركيا في سوريا، مشيرة إلى تهديدات تنظيم حزب العمال الكردستاني (PKK). ولم يكن تصريح رئيسة المفوضية الأوروبية هو الأول من نوعه، فعلى مدار الأيام الماضية صدرت تصريحات عن مسئوليين أوروبيين أكدت على تفهم دول الاتحاد مخاوف تركيا المشروعة بشأن التهديدات الناجمة عن تنظيمي "YPG"، في إشارة إلى وحدات حماية الشعب الكردية، و"PKK" في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني في سوريا.
وبالتوازي مع ذلك، تشير المواقف الأوروبية الجديدة بعد سقوط الأسد إلى احتمال تراجع الدعم الأوروبي لمشروع الإدارة الذاتية الكردية شرق الفرات، باعتبار أن ذلك يثير قلق تركيا، وربما يدفعها إلى اتخاذ إجراءات مضادة للمصالح والأهداف الأوروبية على الساحة السورية خلال المرحلة المقبلة، ويفسر ذلك عدم تعليق الاتحاد على تقارير صحفية في 16 ديسمبر 2024، كشفت أن تركيا وحلفائها يحشدون قوات على طول الحدود مع سوريا، لتنفيذ عملية عسكرية "وشيكة" في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في شرق الفرات.
3- تطوير العلاقات مع حلفاء أنقرة داخل سوريا: مؤخراً، أبدت بعض دول الاتحاد الأوروبي اهتماماً قوياً بدعم الرؤية التركية لإدارة المشهد السوري ما بعد الأسد. وانعكس هذا الاهتمام في دعوة رئيسة المفوضية الأوروبية خلال زيارتها لتركيا، في 16 ديسمبر 2024، إلى ضرورة تكثيف الاتحاد الأوروبي علاقاته مع هيئة تحرير الشام، وكذلك الفصائل الموالية لتركيا، والتي تنشط ميدانياً في سوريا، وتسيطر على جانب معتبر من الجغرافيا السورية. ويدرك الاتحاد الأوروبي العلاقات التي تربط أنقرة و"هيئة تحرير الشام" التي ساهمت في الإطاحة بالأسد، وبالتالي فإن أية ترتيبات قوية مع الهيئة لا يمكن أن تتم بعيداً عن دعم تركيا.
4- تعزيز المساعدات الإنسانية لسوريا عبر تركيا: حرص الاتحاد الأوروبي خلال الأيام الماضية على دعم جهود عمليات الإغاثة الإنسانية التي تقوم بها تركيا في سوريا بعد إسقاط الأسد، وتجلى ذلك في بدء الهيئات الإغاثية التابعة للاتحاد الأوروبي، في 15 ديسمبر 2024، إرسال مساعدات إنسانية إلى سوريا عبر "جسر جوي" من تركيا.
مُحفِّزات قوية
ثمة العديد من العوامل المُحفِّزة للاتحاد الأوروبي لتوسيع مساحات التنسيق مع تركيا بشأن تطورات المشهد السوري بعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر 2024، ويتمثل أبرزها فيما يلي:
1- الدعم الأمريكي المحتمل لسياسات تركيا تجاه سوريا: في رؤية الاتحاد الأوروبي، فإنه من المحتمل أن يكون لتركيا، خلال المرحلة المقبلة، دور في صياغة الترتيبات السياسية المستقبلية للمشهد السوري، خصوصاً بعد تصريحات الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، في 17 ديسمبر 2024، بشأن الدور التركي في سوريا، حيث قال أن تركيا "استولت على سوريا بطريقة غير ودية، لكن دون سقوط الكثير من الأرواح"، وأضاف: "إن أنقرة بقيادة الرئيس أردوغان لعبت دوراً محورياً". وعلى ضوء ذلك، فإن الاتحاد الأوروبي بات يرى أن هناك ضرورة للتنسيق مع أنقرة بشأن التطورات المحتملة على الساحة السورية، والتي يمكن أن تنعكس ارتداداتها على الأمن الأوروبي.
2- تحييد أزمة لجوء جديدة: لا ينفصل التوجه الأوروبي للتقارب مع تركيا بشأن الأزمة السورية عن مخاوف أوروبا من إعادة إنتاج أزمة لجوء جديدة، إذ ما تبنت هيئة تحرير الشام ممارسات قمعية ضد خصومها المحليين أو إذا ما قررت أن تحكم بعقلية أيديولوجية، وهو ما يعنى الدخول في دوامة جديدة من العنف مع التيارات المدنية. كما أن ثمة مخاوف أوروبية من تفاقم أزمة اللاجئين السوريين خلال المرحلة المقبلة، بعد إعلان عدد من الدول الأوروبية تعليق استقبال طلبات اللجوء الجديدة للسوريين.
3- التراجع الأمريكي المحتمل: لا يستبعد الاتحاد الأوروبي تراجع النفوذ الأمريكي على الساحة السورية بعد تنصيب ترامب الذى كشفت تصريحاته خلال الأيام الماضية عن عدم اكتراثه بالمشهد في سوريا التي تعتبر منطقة مرتبطة تقليدياً بالأمن الأوروبي. وعلى ضوء ذلك، فإن انسحاب ترامب أو تجاهله للساحة السورية قد يلقي بمزيد من الأعباء على الاتحاد الأوروبي. وهنا، يمكن فهم حرص بروكسل على تعزيز التعاون مع تركيا الدولة المرشحة لممارسة دور أكبر في ترتيبات مستقبل سوريا بالإضافة إلى قناعة أوروبا بأنه لا غنى عن تركيا لأمن أوروبا، ولا غنى عنها لتأمين العمق المتوسطي للقارة.
4- ضبط بوصلة الهيئة وحلفائها: ترتبط تحركات الاتحاد الأوروبي بتعزيز العلاقات مع تركيا بالرغبة في توظيف نفوذ أنقرة على فصائل المعارضة السورية، فضلاً عن "هيئة تحرير الشام"، لضبط بوصلتها السياسية فيما يتعلق بترتيبات مستقبل سوريا بما لا يتعارض مع المصالح الأوروبية. كما يسعى الاتحاد إلى استثمار تركيا كورقة رابحة للتأثير على "هيئة تحرير الشام"، ودفعها للاستجابة للمطالب الأوروبية، وخاصة ما يتعلق بتشكيل حكومة تمثل جميع التيارات السياسية والطوائف في سوريا، وترسيخ مبادئ وقيم حقوق الإنسان، والابتعاد عن أدلجة توجهات السياسة الخارجية للبلاد.
5- كبح جماح التنظيمات الإرهابية: تبدي الدول الأوروبية قلقاً إزاء احتمال توجه بعض التنظيمات الإرهابية، وخاصة "داعش"، لإعادة التموضع، والاستفادة من حالة السيولة الأمنية الحالية في سوريا، لاستعادة نشاطها العملياتي. كما أن ثمة مخاوف أوروبية من احتمال أن تسفر المواجهات الحالية بين قوات سوريا الديمقراطية "قسد" والفصائل المسلحة المدعومة من تركيا، عن تمدد التنظيم مرة أخرى، والذي لا يزال يحتفظ بنفوذ معتبر في منطقة البادية السورية، وهو ما قد ينعكس على أمن ومصالح القارة الأوروبية. وعلى ضوء ذلك، يمكن تفسير كثافة التحرك الأوروبي لجهة التعاون مع أنقرة سواء للجم التحركات المحتملة للتنظيمات الإرهابية أو محاولة إيجاد صيغة تنهى المواجهات مع الأكراد في شمال سوريا، باعتبار ذلك ضمانة لسد ثغرات عودة الأنشطة الإرهابية.
6- تأمين المشاركة في مشاريع إعادة الإعمار: تمثل مشاريع إعادة الإعمار في سوريا متغيراً مهماً لدفع التقارب الأوروبي-التركي خلال المرحلة المقبلة، إذ يتوقع هيمنة تركيا على الجانب الأكبر من برامج ومشاريع إعادة إعمار سوريا، وبالتالي، ثمة قناعة لدى أوروبا بأن تعزيز حضور الشركات الأوروبية، وتوسيع دور مجتمع الأعمال الأوروبي في سوريا قد يمر عبر البوابة التركية، بل إن أنقرة يمكن أن تمارس الدور الأكبر في عمليات إسناد مشاريع حيوية للكيانات الأوروبية العاملة في مجال الإنشاءات والبنية التحتية.
ختاماً، يمكن القول إن الدور الفاعل والاستراتيجي الذى تمارسه تركيا في التوقيت الحالي بشأن ملف سوريا، بحكم ارتباطاتها مع فصائل المعارضة، حفَّز الاتحاد الأوروبي على تطوير العلاقات مع تركيا على الساحة السورية، خاصة أن ثمة جملة من المصالح والأهداف الاستراتيجية التي يراهن الاتحاد على تحقيقها في سوريا. ويعى الاتحاد أن قدرته على تحقيق هذه الأهداف تتوقف بشكل أساسي على مدى نجاحه في صياغة استراتيجية متماسكة إزاء العلاقات مع تركيا خلال المرحلة المقبلة.