صافيناز محمد أحمد

خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

سقط نظام الرئيس السورى بشار الأسد، في 8 ديسمبر 2024، بعد 13 عاماً من الصراع مع قوى المعارضة السورية، وبعد 24 عاماً من احتكار الأسد الابن للسلطة. ومنذ بدء هيئة تحرير الشام وفصائل المعارضة السورية المتحالفة معها مسار الخروج من إدلب نحو حلب فى 27 نوفمبر 2024، بدا أن تغييرات فعلية قد تشهدها معادلة التوازن العسكرية على الأرض بينها وبين النظام السورى، وبدا أيضاً أن هذا السقوط السريع لقوات نظام الأسد يعكس فى المقابل تخطيطاً عسكرياً تم إعداده بدقة عالية من قبل المعارضة المسلحة على مدى عام مضى، كان هدفه الأولى هو إحداث تغيير فعلى على الأرض فى خريطة النفوذ بينها وبين قوات النظام خارج منطقة تمركز المعارضة فى إدلب؛ وتحديداً فى حلب وحماة، ثم جاء الانسحاب المتخاذل والسريع من قبل قوات النظام أمام تقدم المعارضة فى محاور استراتيجية داخل محافظة حمص الاستراتيجية ليفتح الباب أمامها لتحقق هدفها الرئيسى فى إسقاط حكم بشار الأسد فعلياً.

توازى ذلك مع "تخلٍ" واضح، وربما متعمد، من قبل داعمى وحلفاء نظام الأسد من القوى الدولية والإقليمية لاسيما روسيا وإيران، عن حليفهما السورى فى ضوء حسابات المصالح "الجديدة / القديمة" التى تفرضها تداعيات عملية طوفان الأقصى والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة فى أكتوبر 2023. وبدا أيضاً أن الجار التركى لم يعد يحتمل مماطلات بشار الأسد تجاه مطلب التطبيع، وهو المطلب الذى كان مخططاً له حل إشكاليات "مزدوجة" لدى الطرفين التركى والسورى تمكنهما من إجراء مقايضات سياسية على الأرض وتجاه ملفات سياسية مهمة. لكن مع إصرار الأسد على رفض خيار التطبيع، بدا أن صيغة استانا – التى باتت منتهية فعلياً- أصبحت عاجزة عن إقناع النظام بضرورة دراسة المستجدات على الأرض والتحولات النوعية التى تشهدها منطقة المشرق العربى وتأثيراتها على الحالة السورية، والتى تستدعى تفعيل مسار سياسى جديد يفضى إلى "عملية سياسية" تضع إطاراً محدداً لمفاوضات جادة بينه وبين المعارضة فى ضوء حسابات المصالح الجديدة / القديمة التى فرضتها تداعيات عملية طوفان الأقصى والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بداية من 7 أكتوبر 2023.

ملامح مرحلة جديدة تتشكل

أخطأ نظام بشار الأسد فى التقدير الاستراتيجى لموقف قواته على الأرض – اعتماداً على دعم الحلفاء- فى مواجهة زحف قوات المعارضة السورية من إدلب نحو حلب وحماة وحمص وصولاً إلى دمشق، وزحف مقابل لقوى أخرى متجهة من محافظات الجنوب السويداء ودرعا والقنيطرة تجاه العاصمة لتعلن سقوطها وإنهاء مرحلة حكم بشار الأسد فى سوريا. فحالة "غرور القوة" التى كان عليها الأسد حالت بينه وبين إجرائه "دراسة جيدة" لوضع الحلفاء الداعمين له؛ ومنعته كذلك من فهم طبيعة التغيرات والضغوط التى يتعرضون لها؛ فحلفاؤه إما دول منشغلة بإعادة ترتيب مصالحها مع نتائج التطورات الدولية والإقليمية كروسيا وإيران، وإما مليشيات متأثرة عسكرياً بتداعيات ما شهدته جبهة الجنوب اللبنانى من حرب صعبة مع إسرائيل.

فى المقابل، يظهر زعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولانى (أحمد الشرع)، ليعلن فى أول بيان له إلى الشعب السورى على شاشة التلفزيون الرسمى أن "الشعب السورى أسقط النظام"، ويبرز ما يمكن تسميته بملامح مرحلة جديدة تبدأ فى التشكل داخل سوريا؛ حيث أعلن أن قوى المعارضة بصدد حماية "مؤسسات الدولة"، وأن الاقتراب منها محظور. وهنا تحديداً يخاطب الجولانى القوى الإقليمية والدولية المترقبة لنتائج سقوط الأسد وتداعياته المحتملة بلغة تبدو "هادئة" تحمل تطمينات بأن المشهد السورى "قد" لا يبدو كالمشهد العراقى عام 2014، لأن هيئة تحرير الشام بصدد "حماية مؤسسات الدولة من الانهيار" على عكس الحالة فى العراق حينها فى إشارة إلى أن الهيئة-المصنفة كتنظيم إرهابي لدى بعض الدول- ليست "داعش". كما أشار إلى أن تلك المؤسسات ستظل تحت إشراف رئيس الوزراء السابق -محمد غازى الجلالى- إلى حين تسليمها رسمياً. فى الوقت الذى أعلن فيه الجلالى أنه لم يغادر دمشق ومستمر فى مسئولياته وعلى استعداد للتعاون مع أى قيادة يختارها الشعب، وهو ما فسرته بعض المصادر بحدوث نوع من الاتصالات بين الجولانى نفسه وبين الجلالى دار فى هذا الشأن، بما يشى بطبيعة غير تصادمية حتى اللحظة تبديه الهيئة مع تطورات الموقف الداخلى. يضاف إلى ذلك نجاح المعارضة حتى اللحظة فى تجنيب المدن السورية التى دخلتها خوض معارك مع ما تبقى من قوات النظام حرصاً على المدنيين فيها، لكن الحقيقة أن الانسحاب الذى تم من قبل القوات السورية عكست قناعة بأن الأمر انتهى، لاسيما بعد أن أبلغت قيادة الجيش السورى الضباط بسقوط النظام، ودخول الفصائل المسلحة العاصمة دمشق، وإعلان السيطرة عليها رسمياً، وأن الرئيس بشار الأسد غادر البلاد على متن طائرة إلى وجهة غير معلومة. وبحسب تقارير، فإن بشار الأسد كان يخطط للتوجه إلى المنطقة الساحلية السورية -  معقل الطائفة العلوية التى ينتمى إليها – لكن الطائرة بعد ذلك غيرت مسارها فجأة وحلقت فى الاتجاه المعاكس لبضع دقائق قبل أن تختفى عن الخريطة.

الموقف الدولى والإقليمى

من الصعب فى المراحل المبكرة من سيطرة قوى المعارضة السورية على دمشق وإسقاط نظام بشار الأسد تقييم المواقف الدولية والإقليمية من الحدث؛ لأن بلورة مواقف واضحة يتوقف على مآلات ونمط التفاعل الذى ستبديه تلك القوى بعد النقلة النوعية التى صنعتها. كما أن تلك المواقف تقف عند عتبة صعب التغاضى عنها، وهى أن الهيئة ورئيسها مصنفان على قوائم الإرهاب الدولية، وهو أمر إما يضع قيوداً فى التعامل الدولى والإقليمى مع الجولانى، وإما تحاول القوى الدولية والإقليمية المعنية بالملف السورى إعادة توظيف دوره لخدمة مصالحها فى سوريا بالدرجة الأولى مستغلة محاولاته (أى الجولانى) الترويج لنفسه سياسياً كبديل "سورى وطنى" محتمل لنظام الأسد، وهو تصور يحيط به غموض كبير حتى اللحظة ويقع ضمن سلسلة كبيرة من الاحتمالات.

فى هذا الإطار، تفاعلت الأمم المتحدة عبر المبعوث الأممى جير بيدرسون مع التطورات الخاصة بسقوط دمشق معلناً سعيه إلى إجراء محادثات عاجلة فى جنيف لضمان "انتقال سياسى منظم" فى سوريا خلال المرحلة المقبلة، ووفقاً للمرجعية الأممية الخاصة بالقرار 2254 لعام 2015، والتى تقضى بإنشاء هيئة حكم انتقالية، وصياغة دستور جديد، وصولاً إلى مرحلة إجراء انتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة.

أما الولايات المتحدة، فقد أعلنت أن أولويات واشنطن فى هذه المرحلة التى شهدت سقوط نظام بشار الأسد هى "ضمان أن لا يشجع الوضع الحالى عودة ظهور تنظيم الدولة داعش أو يؤدى إلى "كارثة إنسانية". ولا تتضح هنا بالطبع الصورة الكاملة التى سيكون عليها الموقف الأمريكى خلال المرحلة المقبلة، إلا مع تولى الرئيس المنتخب دونالد ترامب السلطة فى 20 يناير 2025 المقبل. 

وبالنسبة لروسيا وإيران، وبدون الدخول فى تفاصيل تحول موقفيهما من معادلة دعم النظام السورى والتحول الدراماتيكى عن إسناده خلال الـ 12 يوماً الماضية، فيمكن القول إن كلاهما أيقنا خلال اليومين الماضيين بأن حليفهما السورى سيكون بعيداً عن معادلات تفاعلهما مع الأزمة السورية خلال المرحلة المقبلة، وهذا يعنى أنهما ستكونا بصدد إعادة دراسة للتطورات الأخيرة - كل منهما على حدة - بهدف تحديد المواقف تجاه مدى جدوى استمرار التنسيق بينهما داخل الساحة السورية سياسياً وعسكرياً من ناحية، أو العمل بصورة منفردة وفقاً للتطورات على الأرض خلال المرحلة المقبلة من ناحية ثانية.

أما بالنسبة لتركيا، فقد اختلفت الرؤى السياسية فى تفسير موقفها من الهجوم الواسع الذى شنته هيئة تحرير الشام ضد قوات النظام السورى فى حلب يوم 27 نوفمبر 2024، فبعض هذه الرؤى يرى دوراً خفياً لها فى تحريك الأحداث، لكنه لا يرتقى إلى درجة المسئولية الكاملة عنه، والبعض الآخر يرى دوراً واضحاً لها فى "تشجيع" هيئة تحرير الشام على مد نفوذها العسكرى خارج إدلب ونحو حلب وحماة وحمص، من منطلق أن ذلك يصب فى مصلحة تركيا مباشرة؛ لأنها ستتمكن من توظيف الحدث بممارسة ضغط مزدوج على النظام السورى عقاباً على مراوغته ورفضه تطبيع العلاقات معها من ناحية، وعلى قوات سوريا الديمقراطية "قسد" من ناحية ثانية. لكن أهداف تركيا لم تقف عند هذا الحد لأن التقدم السريع الذى أحدثته قوى المعارضة السورية على الأرض كان ناجزاً وعميقاً، وهو ما انعكس فى تصريحات الرئيس رجب طيب أردوغان حينما قال: "إن ثمة مرحلة جديدة تتعلق بالصراع السورى تتم إدارتها بهدوء". التصريح الأخير تحديداً كشف عن "أمنيات" أردوغان بأن لا تتوقف المعارضة المسلحة عند حد تغيير نقاط التماس بينها وبين النظام السورى على الأرض، بل أن تستطيع مواصلة مسارها لإسقاط دمشق وهو ما تم فعلياً. وهذا يؤشر إلى أن تركيا ستعمل على فرض معادلات جديدة على الأرض، بهدف الاحتفاظ بنفوذها العسكرى فى شمال سوريا بصورة تضمن لها مكاسب استراتيجية طويلة الأمد، وبمقتضى هذا التغير ستبقى "لاعباً إقليمياً" يصعب تجاهله فى أى ترتيبات سياسية مقبلة فى سوريا.

وبالنسبة لموقف إسرائيل، التي كانت ترصد حرص نظام بشار الأسد على تبني سياسة النأى بالنفس عبر رفض الانخراط فى جبهة "محور المقاومة الإقليمى" برعاية إيران إسناداً للمقاومة الفلسطينية فى حربها ضد إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023، فتبدو فى حالة من التوجس المشوب بحذر كبير تحوطاً لما ستسفر عنه التطورات على الأرض. وهنا تفسر جريدة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية رؤية تل أبيب تجاه الأحداث بقولها إن إضعاف النظام السورى يصب فى مصلحة إسرائيل، لكنها فى الوقت نفسه تفضل أن يظل "نظام الأسد ضعيفاً، لكن دون الإطاحة به"، طارحة السؤال الأصعب وهو من تفضل إسرائيل أن تراه على الحدود السورية فى الجولان المحتل؛ هل هى المليشيات الإيرانية التى نجحت روسيا فى مرحلة ما من عمر الأزمة السورية في "ضبط" تفاعلاتها تجاه إسرائيل فى الجنوب السورى بإبعادها عن منطقة الحدود واستبدالها بقوات شرطة عسكرية روسية، أم المتطرفون السنة - وفقاً لتعبير الصحيفة - فى إشارة إلى قوى المعارضة السورية المسلحة المدعومين من تركيا؟.

وسط كل هذه التطورات، لا يزال التعاطى العربى مع التطورات على الأرض السورية بطيئاً أو حتى غائباً عن الحضور، لكن التطورات الأخيرة التي طرأت على الساحة السورية ربما توفر مجالاً لصياغة دور عربي جديد يمكن أن يساهم في تجنيب سوريا عواقب أى فوضى محتملة.  

مما سبق، يمكن القول إن تغييراً جديداً على خرائط النفوذ فى سوريا قد بدأ، وأن سياقه الإقليمى الراهن يختلف تماماً عما كان عليه الوضع خلال الفترة (مارس 2011- أكتوبر 2023)، وأن سقوط النظام السورى بعد 13 عاماً من الصراع المسلح مع المعارضة يسقط مسارات "صيغة استانا" الروسية-الإيرانية-التركية، وربما يعيد النظر إلى أهمية إحياء مسارات جنيف التى تعتمد تنفيذ القرار 2254 أساساً لها. لكن يظل كل هذا الطرح رهناً بمآلات التطورات الراهنة على الأرض وبقدرة القوى التي أسقطت النظام على إدارة التفاعلات مع الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالملف السورى، أو التحرك ضدها.