أعلنت روسيا، الحليف الاستراتيجى للنظام السورى، استمرار مساندتها له فى مواجهة الهجوم الواسع الذى شنته هيئة تحرير الشام – المصنفة إرهابياً - ضد قوات النظام السورى فى حلب تحت مسمى عملية "ردع العدوان" التى بدأتها فى 27 نوفمبر 2024، وهو الهجوم الذى لم يتوقف حتى اللحظة عن السيطرة على مساحات كبيرة من الأراضى والمواقع المهمة فى محافظات حلب وحماة مقابل تراجع كبير للجيش السورى على أرض المواجهات، بل وإخلائه لمواقع حكومية وأمنية مهمة فى صورة أشبه بالوضع الذى كانت عليه قوات الأمن والجيش العراقى فى مدينة الموصل يوم 4 يونيو 2014، ومشهد انسحابها التاريخى أمام تنظيم "داعش" من المدينة قبل القضاء عليه من قبل التحالف الدولى عام 2017.
تمثل رد الفعل الروسى فى شن هجوم عسكرى "محدود التأثير" بالطيران الحربى على مناطق تمركز فصائل هيئة تحرير الشام وعلى مخازن أسلحتها وممرات انتقالها بين إدلب وحلب وحماة، ونظراً لعدم وجود إسناد عسكرى على الأرض لقوات النظام السورى نتيجة محدودية عدد المليشيات الإيرانية التى كانت تدعمها نتيجة انشغالها فى عملية إسناد حزب الله خلال مواجهاته العسكرية بالجنوب اللبنانى، بدا أن الهجوم الجوى لا يُحدِث الأثر المرجو منه فى حسم المواجهات على الأرض، ما ساهم بقوة فى الانتشار السريع لفصائل ومقاتلى الهيئة داخل قرى وأحياء محافظتى حلب وحماة، ونجاحها كذلك فى السيطرة على مطارات وطرق استراتيجية تربط تلك المحافظات بالعاصمة دمشق وبالحاضنة الاجتماعية للنظام فى اللاذقية، ما يطرح تساؤلات حول الموقف الروسى وتقييمه لهذه التطورات، وما سينتج عنها من "متغيرات" جديدة على خريطة النفوذ والسيطرة فى شمال غرب سوريا بين النظام السورى وفصائل هيئة تحرير الشام من ناحية، وبين روسيا والقوى الدولية والإقليمية المنخرطة عسكرياً فى سوريا، ولها بدورها مناطق سيطرة ونفوذ أخرى كالولايات المتحدة وتركيا من ناحية ثانية، فضلاً عن التأثير المباشر على حالة الحضور الإيرانى على تلك الخريطة التى باتت أمام تغيرات نوعية جديدة من ناحية ثالثة.
تقييم المستجدات على الأرض
عودة روسيا لدعم قوات النظام السورى عسكرياً فى مواجهات الميدان مع هيئة تحرير الشام يعكس مخاوفها بشأن حجم وأثر الهجوم الذى شنته الأخيرة فى ظل انشغال موسكو بتطورات الحرب ضد أوكرانيا، لأنه يهدد بصورة مباشرة المكاسب التى حققها النظام السورى برعايتها الدولية والعسكرية له منذ انخراطها العسكرى فى الأراضى السورية فى سبتمبر 2015، مروراً بنجاحها فى إقرار اتفاقات المصالحات الوطنية فى بؤر الصراع بين النظام والمعارضة المسلحة عبر صيغة آستانا الخاصة بخفض التصعيد منذ عام 2017، فضلاً عن شبكة مصالحها العسكرية والاقتصادية الضخمة التى أقامتها داخل "سوريا المفيدة" وتضم مناطق حمص وحماة ودمشق واللاذقية وطرطوس، والتى باتت مهددة من قبل فصائل هيئة تحرير الشام التى تتمدد يوماً بعد يوم لتسيطر على نقاط أمنية ومناطق مهمة تكاد تقترب من المصالح الروسية، لاسيما بعد سيطرتها، وخلال الخمسة أيام الأولى من بدء الهجوم، على كامل حلب وأجزاء كبيرة من حماة، وخلال تلك المسيرة أجهزت فصائل هيئة تحرير الشام على نقاط وتمركزات عسكرية كانت تابعة للنظام السورى والمليشيات الإيرانية الداعمة له، مستغلة حالة الانكشاف الميدانى لقوات النظام على إثر غياب جبهة إسناد قتالية على الأرض كانت توفرها له قوات الحرس الثورى الإيرانى والمليشيات التابعة له.
اعتبر الكرملين أن الهجوم على قوات النظام السورى من قبل هيئة تحرير الشام يمثل "انتهاكاً للسيادة السورية"، وأن موسكو "ستواصل دعم الأسد وتحلل الوضع على الأرض"، وأنها "ستحدد موقفها إزاء الوضع بناء على المستجدات". هذه التصريحات الأوّلية بشأن استمرار دعم روسيا للنظام السورى تبعها مباشرة قيام الطيران الحربى الروسى بالاشتراك مع الطيران السورى بشن هجوم على مناطق فى ريف إدلب وريف حماة الشمالى وريف حلب الشرقى ومدينة حلب نفسها. كان هدف الهجوم هو قطع محاور تقدم مقاتلى هيئة تحرير الشام فى ريف حلب الشرقى. بالتزامن مع ذلك، أعلنت موسكو إقالة القائد العام للقوات الروسية فى سوريا لفشله فى توقع التغيرات السريعة التى شهدتها مؤخراً، وعينت بدلاً منه قيادة أخرى سبق لها القيام بعمليات عسكرية مهمة فى سوريا خلال الفترة 2017- 2019. وقد عبرت خطوة روسيا بشأن تغيير قيادتها العسكرية فى سوريا، عن سعيها لملاحقة المستجدات الميدانية السريعة على الأرض عبر تعزيز الحضور العسكرى الجوى فى المواجهات الجارية، نتيجة اجتياح المعارضة المسلحة لمحافظة حلب وتغييرها نقاط التماس العسكرية بينها وبين النظام السورى، فضلاً عن تلافى تراجع مستوى تأمين القوات الروسية الموجودة فى قاعدة حماة الجوية.
اللافت فى هذا السياق أن المفردات الواردة فى تصريحات الكرملين بشأن موقفه من تطور الأحداث فى سوريا تعكس بعض "التراخى" فى سلوك موسكو تجاه تقييمها لأهمية وضخامة الحدث، حيث رهنت موقفها منه بطبيعة المآلات والمستجدات التى ستفضى عنه، وهذا على غير المعهود سابقاً حينما سارعت فى عام 2016، وبعد عام واحد من تدخلها العسكرى فى سوريا، إلى إبراز دعمها المباشر للنظام السورى عسكرياً واستخباراتياً باعتبار سوريا هى ساحة النفوذ الأولى لها فى المشرق العربى.
تباين الموقف الروسى بهذا الشكل يشير إلى "غموض الرؤية الروسية" فى التعامل مع الحدث الضخم الذى تعرض له النظام السورى بما يهدد استمرار سيادته على محافظة حلب ثانى أهم المدن السورية، بل ثمة من يرصد انخفاضاً فى معدل الاستهداف الجوى الروسى لفصائل هيئة تحرير الشام مقارنة بما كان عليه الوضع قبل أربع سنوات، باستثناء هجوم أكتوبر 2024، حينما رصدت القوات الروسية تحركات لمقاتلى الهيئة خارج إدلب.
التراخى الروسى فى استهداف تحركات المعارضة السورية فى حلب وحماة يفسر النجاحات التى تحققها الأخيرة بصورة سريعة على الأرض. ويمكن تفسير هذا التصور باختلاف الظرف الدولى والإقليمى الراهن عما كان عليه وضع روسيا العسكرى فى سوريا قبل 4 سنوات؛ فحينها لم تكن روسيا متورطة فى حرب عسكرية ضخمة كالتالى تخوضها ضد أوكرانيا، وهى الحرب التى تمثل تهديداً مباشراً لأمنها القومى، وتشغل جل اهتمامها، ولم تكن مكبلة بعقوبات اقتصادية أمريكية أوروبية كبيرة. كما كانت تحالفاتها فى سوريا سواء مع إيران من جهة، أو مع تركيا من جهة أخرى تشهد تناغماً واضحاً انعكس فى فرض معادلات ثابتة للنفوذ والسيطرة على الأرض، وتوج هذا التناغم بصيغة التعاون الثلاثية عبر آلية "خفض التصعيد"، أو ما عُرف بصيغة آستانا التى حلت محل مسار جنيف السياسى الذى أثبت فشله وعدم فاعليته فى وقف الصراع السورى بين المعارضة والنظام.
يضاف إلى ما سبق، عدم ارتياح روسيا لمماطلات النظام السورى بشأن مطلبها الخاص بأهمية تطبيع العلاقات السياسية بينه وبين تركيا، مشترطاً الانسحاب التركى الكامل من شمال سوريا كأساس أولى لهذا التطبيع. فى المقابل ترى روسيا أن نمطاً من تسوية الخلاف بين النظام السورى وتركيا كان كفيلاً بتهدئة الأوضاع فى الشمال السورى لصالح مزيد من التعاون التركى-الروسى السورى المشترك، الذى قد يفضى إلى استعادة قوات النظام السورى السيطرة على مناطق المعارضة المسلحة شمال سوريا، لاسيما فى إدلب وحلب، لكن استمرار رفض النظام لمسار التطبيع مع تركيا ساهم - من وجهة نظر روسيا - فى تعزيز تطلعات هيئة تحرير الشام بخصوص عدم الاكتفاء بوضعها داخل إدلب، بل والتمدد خارجها بالاستيلاء على حلب وحماة، فى الوقت الذى تغاضت فيه تركيا عن هذا التمدد رغم علمها به، بل وشجعت فصيلاً آخر فى المقاومة، وهو الجيش السورى الحر الذى يحظى بدعمها، على مهاجمة القوات الكردية "قسد" الموجودة فى تل رفعت شمال حلب استغلالاً للظروف.
ومع حلول اليوم الثامن على اجتياح فصائل هيئة تحرير الشام لحلب وحماة، وتحديداً فى 4 ديسمبر 2024، بدا أن التفاعل الروسى مع المستجدات على الأرض لايزال يُصنف ضمن موقف "تقييم المستجدات"، وهذا التصور تعكسه تصريحات ديميترى بيسكوف المتحدث الرسمى للكرملين، الذى أدلى بها يوم 2 ديسمبر 2024، ووصف فيها موقف موسكو من تطور الأحداث فى سوريا بـأنه لازال فى مرحلة "دارسة الخيارت". هذا التراخى الروسى فى تقديم دعم "شامل" للنظام السورى يشير إلى تأنى غير معهود فى موقف الرئيس الروسى فلاديمير بوتين نفسه من حليفه السورى، بما يعكس احتمالين: إما أن روسيا بصدد مراجعة فعلية لموقفها من الأسد الذى لم يستمع إلى التحذيرات التى أطلقتها منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة فى أكتوبر 2023، والتى "ألحت" فيها على النظام السورى بأهمية تطبيع العلاقات مع تركيا فى المرحلة الراهنة، وإما أن روسيا لاتزال ترقب تفاعلات باقى القوى الدولية والإقليمية المنخرطة عسكرياً فى سوريا - إيران وتركيا والولايات المتحدة - حتى تستطيع رسم تفاعلاتها مع الحدث. بالإضافة إلى ذلك، اتهمت موسكو أوكرانيا بدعم فصائل المعارضة السورية استناداً إلى دور خفى لعبه مستشارون عسكريون فى إمداد هيئة تحرير الشام بمنظومة ضخمة من المسيرات، وتدريبهم على تكنولوجيات فائقة الجودة كالتشويش على منظومات الاتصال الخاصة بالجيش السورى قبل اجتياح الفصائل لحلب، وهى المسيرات التى استخدمت فى الهجوم على مواقع ومقرات قوات النظام السورى، كذلك وسعت روسيا حلقة اتهاماتها لتشمل الحزب التركستانى الإسلامى المحظور فى روسيا.
معادلات نفوذ جديدة
بهذه المعطيات، فإن خريطة النفوذ فى شمال غرب سوريا باتت أمام متغيرات جديدة أهمها أن منطقة خفض التصعيد فى حلب باتت منتهية فعلياً وواقعياً، وهى المنطقة التى ضمتها وإدلب ضمن اتفاق مارس 2020، وأن هذا قد يؤدى إلى تغيير مماثل فى معادلات التوازن التم تم إرسائها "ضمنياً" بين روسيا وتركيا، وارتضاها النظام السورى فى شمال غرب سوريا. بل هناك ما هو أبعد من ذلك، حيث من المحتمل أن تؤدى هذه التطورات إلى تغيير مماثل فى شرق سوريا لاسيما فى مناطق سيطرة الإدارة الذاتية للأكرد، وإن ظلت رهناً لمعادلة التواجد العسكرى الأمريكى فى مناطق الشمال الشرقى وبالقرب من الحدود العراقية-السورية. هذه المعطيات تعنى أيضاً أن هيئة تحرير الشام هدفها الرئيسى هو إخراج المليشيات الإيرانية والتابعة لها من مجمل الحزام الجغرافى فى مناطق غرب وجنوب محافظة حلب، وكذلك مناطق جنوب وشرق محافظة إدلب، وتحديداً مدينة معرة النعمان فى جنوب شرق إدلب؛ لأنها تمثل نقطة سيطرة استراتيجية لكونها تقع على بعد 84 كيلومتر عن حلب، و60 كيلومتر عن محافظة حماة، ومن ثم فهى تمثل نقطة تواصل مهمة بين ثلاثة محافظات هى إدلب وحلب وحماة، وهو ما قد يفسر إصرار فصائل المعارضة على التقدم عسكرياً للسيطرة على هذه المدينة. واللافت هنا، أن مستوى الضربات العسكرية الجوية الروسية رغم توسيع دائرة استهدافها لفصائل المعارضة السورية جغرافياً، إلا أنها وبعد أسبوع من اجتياح الفصائل لحلب لازالت محدودة العدد والتأثير، وهو ما "قد" يؤشر إلى رغبة روسية ضمنية هدفها إخراج المليشيات الإيرانية من مناطق تمركزها فى شمال غرب سوريا، وإن صدق هذا التصور فسنكون أمام تغيير حقيقى فى معادلة التعاون الروسى-الإيرانى-السورى الذى تم العمل بها على مدار السنوات الأربعة الماضية، وهو استنتاج قد يرتبط بتسويات فى ملفات أخرى ذات أهمية استراتيجية لروسيا خارج الملف السورى، وأبرزها بالطبع ملف الحرب الروسية-الأوكرانية.
من المعطيات السابقة يمكن القول إن تفاعلات روسيا مع التطورات السريعة فى سوريا، والناتجة عن اجتياح هيئة تحرير الشام لمناطق سيطرة النظام السورى فى محافظات حلب وحماة، تبدو مختلفة تماماً عن تفاعلاتها عام 2016 عندما ألقت بثقلها العسكرى فى عملية تحرير شرق حلب من فصائل المعارضة السورية المسلحة، وأن هذا التغيير وإن كان يرجع لأسباب انشغالها بحربها العسكرية على كييف بالدرجة الاولى، إلا أن ثمة أسباباً أخرى يتعلق بعضها باحتمالية اتجاه موسكو إلى تغيير نمط التعاون مع إيران فى الملف السورى من ناحية، ويتعلق البعض الآخر بطبيعة العلاقات الروسية-التركية المتأرجحة فى الملف نفسه من ناحية ثانية، أما ثالث تلك الأسباب فيتصل بالتقدير الاستراتيجى الروسى نفسه لطبيعة التطورات فى منطقة المشرق العربى الناتجة عن الحرب الإسرائيلية على غزة، وهو ما انعكس فى موقفها الذى لايزال قابعاً ضمن مرحلة "تقييم المستجدات" على الساحة السورية، ولا تخلو كل هذه التقديرات من انتظار الأمريكى القادم للسلطة فى يناير 2025 المقبل، وما يمكن أن يُحدِثه من تغييرات فى السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الملف السورى، بصورة تدفع هذا الملف إلى أحد مسارين: إما مسار قد يؤدى إلى تسوية شاملة تضمن استقرار المنطقة، أو مسار مقابل ينتهي إلى فتح جبهات الصراع فى سوريا مجدداً على نحو قد يفرض تحولات استراتيجية تعيد تشكيل الوضع فى المشرق العربى المشتعل بطبعه.