رابحة سيف علام

خبيرة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية

 

رغم وجود مؤشرات كثيرة خلال العام الماضي على أن المعارضة السورية تعيد ترتيب صفوفها عسكرياً من أجل عودة قوية لتهديد نظام الرئيس بشار الأسد، إلا أن التزامن بين وقف إطلاق النار في لبنان وبدء معارك حلب كان لافتاً على أكثر من مستوى. أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في خطابه عن وقف إطلاق النار على جبهة لبنان تحذيرات قوية للأسد بالكف عن اللعب بالنار، بينما سارعت إيران باتهام إسرائيل والولايات المتحدة بالوقوف خلف هجمات المعارضة السورية في حلب. فالرابط قوي بين الحدثين، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن قوات المعارضة المسلحة التي تتوغل في حلب وريفها على اتصال مباشر بالإسرائيليين. لم يكن ليخطر على بال طهران في أسوأ الكوابيس أن كل خصومها سيقررون محاربتها في نفس الوقت وفي أماكن متعددة. فبالأمس كان يتعين عليها أن تنقذ حليفها في لبنان، حزب الله، واليوم عليها أن تنقذ حليفها في دمشق بشار الأسد.

تفكك معادلات أمن النظام السوري

لم يكن دعم إيران لبشار الأسد خلال سنوات الحرب السورية بالأمر العابر، فلولا دعم طهران بالسلاح والعتاد والمقاتلين للأسد لكان الواقع على الأرض مختلفاً تماماً اليوم. وبالمثل لو لم تدعم موسكو الأسد بالطيران الحربي، لتغطي تحركات المليشيات الموالية لإيران على الأرض، لم يكن الأسد ليستمر في البقاء في الحكم حتى اليوم. هذه المعادلة هي التي أنقذته قبل سنوات، ولكن هذه المعادلة لم تعد موجودة اليوم ويتعين عليه أن يبحث عن بدائل سريعة ليغطي نقص القوات الكبير الذي يعاني منه في مواجهة تقدم قوات المعارضة.

فالجيش السوري كان قد شهد انشقاقات كثيرة خلال مرحلة الثورة السورية أثرت على قوامه وعديده لأن كبار الضباط وهم الأكثر ولاء للأسد بقوا ولكن المجندين تعاطفوا مع الثورة ورحلوا، فتناقصت أعداد المنخرطين بالخدمة العسكرية رفضاً لقتال الشعب السوري آنذاك. فكانت طهران حاضرة لتجند الشباب على أساس مذهبي من مختلف البلاد التي تتمتع فيها بنفوذ كبير، منها لبنان بمعرفة حزب الله، ومنها العراق، ومنها أيضاً باكستان وأفغانستان وهم أساساً من فقراء الشيعة الذي لجأوا في إيران هرباً من الصراع في بلادهم. ولكن عندما تثبت حكم الأسد ونجا من خطر السقوط، فضّت إيران هذه الترتيبات العسكرية الحاشدة والمكلفة جداً أيضاً وأبقت على مواقع عسكرية يتواجد بها ضباط إيرانيون وعناصر لحزب الله فقط. ولكن الحرب الأخيرة على لبنان أغرت إسرائيل بقصف المواقع الإيرانية في سوريا لوقف خط الإمداد السخي الذي يتمتع به حزب الله عبر سوريا. ومن هنا كان لابد لإيران وحزب الله الانسحاب أو على الأقل إعادة الانتشار في سوريا للتمويه على القصف الإسرائيلي الذي حصد العديد من القادة في الخطوط الخلفية للمواجهة.

ويبدو أنه رغم إعلان الهدنة في لبنان، مع وجود خروقات متعددة لها من جانب إسرائيل في قرى الجنوب، ولكن الأمر لا يمتد بالضرورة إلى سوريا، فيمكن لإسرائيل أن تستأنف قصفها في سوريا في أي وقت، لأن الاتفاق الأخير لم يشمل سوريا. ولكن في المقابل، كان الأسد قد تلقى تحذيرات متعددة من مغبة توفير بيئة مريحة لإيران وحزب الله في سوريا، ولعل أهم هذه التحذيرات قد حملها الروس إلى دمشق. فروسيا المنهمكة أصلاً في حرب أوكرانيا لا تريد المزيد من التشتيت وليست بوارد الدخول بشكل مباشر في الصراع مع إسرائيل ولذا سوريا لابد أن تبقى خارج التفاعلات النشطة للصراع بين إيران وحلفائها وإسرائيل.

إزاء هذه المعضلة كان لابد للأسد أن يختار من يفضل؟ الحماية الجوية الروسية التي أنقذته بقصف خصومه أم الحماية البرية الإيرانية التي تمده بالمقاتلين والسلاح. وهنا يبدو أن الأسد قد تأخر في حسم أمره، فأعيد إنتاج مشهد الحرب السورية من جديد لتذكيره بمن أكثر إفادة له إيران أم روسيا، وعليه أن يختار من يساند ولمن ينصاع في الترتيبات العسكرية في المنطقة. في هذا الإطار، لا شك أن استعادة الجولان السوري المحتل خارج حسابات الأسد الراهنة وليس بوارد أن يتخذ أي قرار في التحالف العسكري على أساسه، بل الأساس له حالياً وفيما مضى هو البقاء في الحكم وحماية ما تبقى من ترتيبات أمنية تضمن استمرار النظام.   

سوابق تاريخية لهذا الهجوم

على الجانب الآخر، لم تكن تحركات المعارضة السورية بعيدة عن تداعيات الحرب الإسرائيلية على لبنان، فالقصف الإسرائيلي خلال الشهرين الماضيين أجبر الإيرانيين على إخلاء مواقعهم العسكرية في سوريا، ومنها نحو أربعين موقعاً في حلب وحدها. فاقتناص الفرصة من جانب المعارضة السورية كان هدفاً نظرياً ولكن سرعة التنفيذ وتزامنها مع هدنة لبنان كانت لافتة جداً. باشر هجوم المعارضة فريقان متحالفان: هيئة تحرير الشام بقيادة أبو محمد الجولاني، وهي جبهة النصرة سابقاً وفرع سابق لتنظيم القاعدة في سوريا. والجهة الثانية هي المجموعات العسكرية المسلحة المحسوبة على تركيا وتنتشر في شمال حلب في مناطق سبق أن تمدد فيها النفوذ التركي. هذا التحالف بين الفريقين ليس الأول من نوعه، بل سبق لهما أن تحالفا في عمليات عسكرية مشابهة للقتال جنباً إلى جنب في نفس المناطق تقريباً، وأيضاً في ظروف دولية مشابهة أيضاَ.

قبل ثماني سنوات، في صيف 2016 إلى ربيع 2017، كان الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما يستعد للخروج من البيت الأبيض والرئيس الأمريكي السابق (والذي يستعد للعودة إلى البيت الأبيض بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 5 نوفمبر الفائت) دونالد ترامب يستعد لحكم الولايات المتحدة لأول مرة. حينها أرادت تركيا أن تضمن لها بعض النفوذ على الأرض استعداداً لفترة مساومات سياسية في سوريا كانت تعلم أنها قادمة لا محالة مع الإدارة الأمريكية الجديدة. ولذا أوعزت إلى المليشيات القريبة منها بتنظيم هجمات في ريف حلب الشمالي والغربي، ثم دعمت هذه القوات لاحقاً بعملية سُميت حينها "درع الفرات". كان لهذه العمليات هدف مشترك هو إبعاد قوات الأسد وإبعاد قوات قسد (قوات سوريا الديمقراطية) الكردية ولكن تقدم العمليات لم يكن بلا سقف. لاحقاً اضطرت تركيا للتفاهم مع روسيا على إخراج المعارضة السورية من مدينة حلب إلى إدلب ضمن تفاهمات باتت تعرف لاحقاً باتفاقيات آستانة لخفض التصعيد. ومن هنا دخلت تركيا في ترتيبات سياسية مع روسيا وإيران في مسار آستانة الذي استمر لسنوات مفسحاً الطريق لعودة الأسد لمناطق سورية كثيرة كان قد فقدها خلال سنوات الحرب مقابل وعود بتنفيذ اصلاحات تسمح بعودة آمنة للاجئين السوريين. ولكن الأسد لم ينفذ هذه الوعود ولم يسمح بعودة اللاجئين، ومضى في حكمه وكأنه انتصر للأبد. بينما ضاقت أنقرة بعبء اللاجئين السوريين على أراضيها وتريد خلق مجال أوسع لإعادتهم بشكل آمن لا يسبب لها مشكلات داخلية ولا خارجية مع المجتمع الدولي.

من جانبه، يتأمل الجولاني زعيم هيئة تحرير الشام الترتيبات في سوريا ويجد نفسه خارجها بالكامل، فلا تنظيمه ممثل ضمن مسار جنيف التفاوضي برعاية الأمم المتحدة، ولا هو معترف به من جانب مسار آستانة بل مستثنى منه باعتباره تنظيماً إرهابياً تماما كما القاعدة وداعش. ولكن الإدارة الأمريكية غيرت من أسلوب التعامل مع "الإرهاب"، حيث انسحبت من أفغانستان وسلمت البلاد لطالبان التي كانت متحالفة سابقاً مع القاعدة، فلماذا لا يطمع الجولاني بترتيب مشابه له في سوريا؟! ربما يجب أن يتحالف مع فصيل سوري معارض له رعاة على طاولة المفاوضات، وهكذا كانت المجموعات المسلحة القريبة من تركيا هي الاختيار الأمثل. وربما يتقرب للجمهور السوري بالتعهد بحماية الأقليات الدينية والعرقية في حلب، ويعود لمكافحة الوجود الإيراني في سوريا وتصدير شعارات إسقاط الأسد ليكوّن لنفسه حاضنة شعبية ضمن دوائر جديدة بخلاف الإسلاميين المتشددين، هكذا يكسب الجولاني أرضاً ويكسب شعبية ليطلب من الأمريكيين التعامل معه على غرار طالبان أفغانستان.

من ينقذ الأسد؟

ولكن من ينقذ الأسد اليوم؟ حزب الله منخرط في ترتيبات الجبهة الداخلية في لبنان، لابد أن ينسحب من جنوب الليطاني بالترتيب مع الجيش اللبناني، ولابد أن يرمم مؤسسات الدولة اللبنانية بانتخاب رئيس جديد وتكوين حكومة. ولكن الأهم أن يرمم شعبيته داخلياً ضمن جمهوره المباشر وفي دوائر اللبنانيين الذين احتضنوا النازحين ويتطلعون لبناء علاقة صحية معه تحت سقف الدولة اللبنانية. آخر ما يحتاجه حزب الله اليوم هو إرسال مقاتلين وسلاح للدفاع عن الأسد على أساس مذهبي، بما قد يهدد السلم الأهلي في لبنان، فقبل أيام قليلة كانت البيئة الحاضنة لحزب الله من الشيعة تقيم بشكل آمن في مناطق سُنية ومسيحية بتآلف وطني كبير في عموم لبنان. هذا التماسك الأهلي اللبناني على المحك، خاصة أن إسرائيل تراهن بشدة على أن يكرر حزب الله أخطائه في سوريا كي تضيف أسباباً جديدة لإشعال حرب أهلية في لبنان. ولا شك أن إسرائيل تتمنى أن يختفي حزب الله من جنوب لبنان وينسحب إلى سوريا كي يغرق في حرب بلا طائل مع المعارضة السورية.  

إيران ربما ستتفهم رفض حزب الله العودة إلى سوريا وستوفر مقاتلين شيعة آخرين من العراق وباكستان وأفغانستان، ولكن من يوفر لهم الغطاء الجوي في سماء سوريا؟ روسيا لاتزال تدرس إمكانية الانخراط في هذا الأمر، ولكن قدرتها على توفير الطيران الرادع محدودة نظراً لحشد كل قواها لجبهة أوكرانيا، بل قد لا تمانع أن تخسر قليلاً في سوريا في سبيل أن تكسب كثيراً في أوكرانيا. بينما التحالف الدولي لقتال داعش الذي لا يزال فاعلاً في سوريا بقيادة أمريكية يبدو أنه قرر تغيير أهدافه وقصف رتلاً عسكرياً موالياً لإيران كان يعبر من العراق إلى سوريا شرق البلاد في البوكمال. هذا التطور المثير يعني أن إيران تستنفر لحشد المليشيات الموالية لها في سوريا لصد هجوم المعارضة والدفاع عن الأسد ولكنها لا تملك بعد غطاءاً جوياً يحميها. فالأمر أقرب للمصيدة، حيث تحشد إيران قدرات بشرية وعسكرية في سوريا كي يتم تصفيتهم جواً بشكل تدريجي بينما تمضي القوات المعارضة السورية على الأرض في التقدم لحين صول تركيا وروسيا لتفاهم جديد لاقتسام الكعكة السورية خصماً من النفوذ الإيراني وقوات الأسد.   


نُشر أيضا بجريدة الأهرام ويكلي، 5 ديسمبر 2024.