حينما نجحت القوات السورية في استعادة مدينة حلب من التنظيمات الإرهابية والمسلحة التي كانت تسيطر عليها في ديسمبر 2016، اعتبرت معظم التقديرات الإسرائيلية أن هذا الحدث لا يمثل تحولاً استراتيجياً في مسار الحرب الأهلية السورية، وحتى تدخل روسيا وحزب الله لحماية نظام الأسد من السقوط لم يغير من قناعة الحكومة الإسرائيلية بضرورة الوقوف على الحياد، وهو الموقف الذي اتخذته من هذا الصراع بعد تفجره في عام 2011.
بعد ستة سنوات عاد الوضع للانقلاب مجدداً بعد أن تمكنت هذه التنظيمات بقيادة هيئة تحرير الشام من الاستيلاء على مدينة حلب. لكن معظم التحليلات الإسرائيلية تميل إلى أن هذا التحول لا ينبغي أن يقود إلى تغيرات جذرية في الموقف التقليدي لإسرائيل من الصراع الممتد منذ سنوات في سوريا بين الأسد والمتمردين على حكمه والذي يمكن وصفه بموقف المُراقِب. ورغم ذلك، حذرت بعض الآراء هناك من ضرورة تقييم الوضع الحالي ليس بمقارنته بما جرى قبل ستة سنوات، بل بدراسته في إطار المستجدات على الأرض، خاصة في ظل الأوضاع التي أفرزتها حرب إسرائيل المتعددة الجبهات ومنها الجبهة السورية نفسها منذ أكتوبر من العام الماضي.
معالم السياسة الإسرائيلية القديمة حيال سوريا
منذ نشوب الحرب الأهلية في سوريا عام 2011، وحتى ما قبل نشوب الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان، تمسكت إسرائيل بموقف المُراقِب لما يجري من تطورات هناك، ووضعت أربعة خطوط حمراء، دونها لن تتحرك للتدخل في الصراع السوري المتعدد الأطراف وهى:
1- منع قوات الأسد من الاقتراب من خطوط وقف إطلاق النار في هضبة الجولان المحتلة.
2- منع حزب الله وإيران من استغلال الحرب في سوريا لتهريب سلاح متطور، خاصة الصواريخ داخل الجنوب اللبناني لدعم الترسانة الحربية للحزب.
3- منع تمركز الجماعات المسلحة التي تقاتل قوات الأسد وحلفائه قرب هضبة الجولان.
4- عدم السماح للتدخل الروسي في الحرب السورية بإعاقة حركة الجيش الإسرائيلي في تحقيق الأهداف الثلاثة السابقة.
وعلى مدى إثنى عشر عاماً، تمكنت إسرائيل من تجنب التدخل المباشر في الحرب الأهلية السورية بعد تفادي ثلاثة مخاطر محتملة، كانت تستوجب التحرك الفوري حال تخطي الخطوط الحمراء المشار إليها سابقاً، فيما لم تكن عملياتها المتواصلة (في صورة غارات جوية) على مدى الفترة نفسها في عمق الأراضي السورية كافية لمنع تحقيق الهدف الثاني (منع تهريب السلاح من سوريا إلى حزب الله في لبنان)، حيث أظهر حزب الله قدرة ممتدة على قصف إسرائيل بالصواريخ والطائرات المسيرة بشكل شبه يومي على مدى ما يزيد عن عام، مما يعني أن الحزب نجح في مراكمة مخزون ضخم من هذه الأسلحة سواء عبر ممرات التهريب الواصلة بين سوريا ولبنان، أو من خلال النقل الجوي لهذه الأسلحة من إيران وسوريا إلى حزب الله، وأيضاً ربما عبر نجاح الحزب في تصنيع هذه الأسلحة محلياً.
بيئة الصراع الحالي في سوريا
في أعقاب نجاح هيئة تحرير الشام والفصائل المتعاونة معها مؤخراً في الاستيلاء على مدينة حلب، ومع توعد الأسد بطرد قواتها، يبدو أن فصلاً جديداً من الحرب الأهلية السورية بات على الأبواب، فهل ستظل إسرائيل متمسكة بموقفها كمُراقِب لمجريات هذا التطور، أم تبدأ في تبني سياسة مغايرة في ظل المعطيات الحالية وعلى رأسها:
1- اتفاق وقف إطلاق النار مع حزب الله.
2- عدم وضوح موقف تركيا التي دعمت في السابق المتمردين السوريين من التطورات الجارية حالياً.
3- اكتفاء روسيا بإدانة هجمات المتمردين وعدم استخدامها لقواعدها العسكرية في سوريا للدفاع عن قوات الأسد.
4- انشغال إيران بالأوضاع في لبنان وتركيزها على منع الانهيار الكامل لحزب الله هناك.
5- التحولات المرتقبة في السياسة الأمريكية حيال الوضع نفسه بعد عودة الرئيس دونالد ترامب للبيت الأبيض.
وضع المُراقِب سيبقى خيار إسرائيل الأول
من المرجح أن يتسبب عدم اليقين السائد حيال ما يجري في سوريا حالياً، وأيضاً حيال التغيرات المحتملة في العناصر الخمسة المذكورة، في تمسك إسرائيل بموقف المُراقِب الذي تبنته على مدى السنوات الماضية لأكثر من سبب:
أولاً: ليس لإسرائيل أي مصلحة في التدخل في الصراع الدائر بين الأسد وخصومه، خاصة وأن أياً من الطرفين لم يثبت قدرته على حسم الصراع لصالحه، وهو وضع مثالي بالنسبة لإسرائيل، التي ضمت الجولان السوري إليها وحصلت على اعتراف أمريكي عام 2018 بهذا الإجراء، حيث لا يزال الأسد والمتمردون عليه يعلنان تمسكهما - بشكل منفصل- بتحرير الجولان من الاحتلال الإسرائيلي، ومن ثم فإن انشغال كليهما بالحرب ضد الآخر سيعني تلقائياً استبعاد أي تهديد لسيادة إسرائيل على الجولان في المدى المنظور، خاصة وأن القانون الدولي لا يعترف بضم إسرائيل للمنطقة، وهو ما سيعطي شرعية دولية لمطالبة أي نظام سوري باستردادها سلمياً، أو عبر الكفاح المسلح كأداة مشروعة ضد الاحتلال.
ثانياً: يمكن لإسرائيل استغلال حالة الضعف والارتباك التي يمر بها حزب الله، بعد الضربات القاسية التي تلقاها، لصالح تحقيق الهدف الذي فشلت فيه من قبل، وهو منع تجديد وتطوير ترسانة الحزب من الأسلحة الصاروخية والمسيرات، حيث انتزعت إسرائيل من الولايات المتحدة الحق في الدفاع عن أمنها حتى أثناء فترة وقف إطلاق النار مع الحزب، وتعتبر إسرائيل أن ضرب المعابر وطرق تهريب السلاح عبر الأراضي السورية وعبر الحدود اللبنانية–الإسرائيلية هو عمل من أعمال الدفاع عن النفس الذي لا يعد-وفقاً لها- انتهاكاً لاتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان.
ثالثاً: يرى بعض الخبراء الأمنيين الإسرائيليين أن الخطر الذي يتعرض له نظام الأسد حالياً ربما يجبر إيران وحزب الله على تغيير أولويات المواجهة، فبدلاً من التركيز على استعادة قدرات ما يسمى بمحور المقاومة ضد إسرائيل، سيتعين على كليهما إعطاء الأولوية لمواجهة المليشيات المناوئة في سوريا والعراق، وهو ما أكده التحليل الذي قدمه الجنرال السابق عاموس يادلين في القناة 12 N العبرية في 2 ديسمبر الجاري تحت عنوان ذي دلالة هو: "من الأفضل لنا أن نتعامل مع الشيطان الذي لا نعرفه"، حيث يقول: خلال السنوات التي سيطر داعش فيها على مناطق في العراق تم إغلاق الطريق البري الإيراني إلى سوريا، والآن نتوقع أن نشهد إغلاقاً شبيهاً بذلك للمعابر البرية من سوريا إلى لبنان، في الوقت الذي ستكون فيه لدى إسرائيل حرية العمل الواسعة ضد الشحنات الجوية عبر سوريا.
رابعاً: لا تتوقع أسرائيل أن تتحرك روسيا، التي لها مصلحة في حماية نظام الأسد الذي منحها قواعد عسكرية في سوريا، لتغيير الوضع القائم والذي حدث توافق إسرائيلي–روسي حوله منذ عام 2015، وبمقتضاه يمكن لروسيا حماية مصالحها هناك مع عدم تعارض ذلك مع حرية عمل إسرائيل في الأجواء السورية لمنع تهريب السلاح إلى حزب الله. كما أن الاتصالات الجارية بين موسكو وواشنطن بشأن الأوضاع المتفجرة في الشرق الأوسط قد تسفر–مع تولي ترامب السلطة في يناير المقبل–عن التوصل إلى توافق بين الجانبين على صفقة تؤيد فيها واشنطن تسوية مقبولة لروسيا لإنهاء حربها في أوكرانيا، مقابل تعاون موسكو من أجل تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا خاصة والشرق الأوسط عامة.
خامساً: من المعروف أن تركيا تدعم فصائل المتمردين السوريين، وأن المصالح بينهما مشتركة في أكثر من جانب، وكذلك هناك استياء تركي من عدم التزام النظام السوري بالعودة إلى اتفاق سوتشي عام 2019. ولكن رغم ذلك، قد تطمح تركيا في توسيع أدوارها في الشرق الأوسط عبر إبداء استعدادها لمعاونة الرئيس الأمريكي القادم دونالد ترامب على تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة، مقابل منحها دوراً أوسع في الوساطة لحل النزاع الفلسطيني–الإسرائيلي، خاصة مع الجهود التي تبذلها تركيا حالياً للحلول محل قطر في الوساطة بين حماس وإسرائيل. ولأن العلاقات الإسرائيلية–التركية في أدنى مستوياتها حالياً بسبب الحرب الدائرة في غزة، فسيكون من الصعب على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الموازنة بين رغبته في تعظيم الدور الإقليمي لتركيا من خلال القضية الفلسطينية، وبين عجزه عن تحسين علاقته بإسرائيل التي ستعارض أي دور لتركيا في الملف الفلسطيني.
ختاماً، من خلال الاستعراض السابق يمكن القول إن الموقف الذي اتخذته إسرائيل من تطورات الحرب الأهلية في سوريا منذ اندلاعها عام 2011 لم يتغير، حيث تركز فقط على أهدافها الحيوية في سوريا، وعلى رأسها إضعاف كافة الأطراف المنخرطة بشكل مباشر في الحرب الأهلية السورية، خاصة إيران وحزب الله وتركيا. وقد برهنت الأحداث والتطورات منذ ذلك الوقت على أن الأمن الإسرائيلي لم يتأثر كثيراً سواء عندما تمكن المتمردون على نظام الأسد من الاستيلاء علي حلب، أو عندما عاد النظام لبسط سيطرته هناك عام 2016، بل يمكن القول إن اضطرار حزب الله لإرسال مقاتليه إلى سوريا لدعم نظام الأسد وحمايته من السقوط في ذلك الوقت كان أحد أسباب ضعف قدرة الحزب على مواجهة إسرائيل في الحرب التي دارت على مدى أكثر من عام منذ 7 أكتوبر 2023، حيث يُعتقد أن إسرائيل استغلت انخراط حزب الله في الحرب الأهلية السورية لكي تخترقه استخباراتياً سواء في لبنان أو سوريا، وهو ما مكنها من اغتيال أغلب قياداته في الضربات القاتلة التي وجهتها له في شهري سبتمبر وأكتوبر الماضيين.