فارق شاسع بين حلب في 22 ديسمبر 2016 وحلب في 27 نوفمبر 2024. في الأولى، نجح النظام السوري، بمساعدة روسيا وإيران والمليشيات الموالية لها، في استعادة السيطرة بشكل كامل على المحافظة. وفي الثانية، تمكنت هيئة تحرير الشام وبعض الفصائل الأخرى من اجتياحها مجدداً، بعد أن انسحبت منها القوات النظامية.
في الحالتين، إيران كانت حاضرة. لكن مستوى هذا الحضور كان مختلفاً إلى حد كبير. وقد كان المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي صريحاً في تأكيد أهمية حلب بالنسبة لإيران، عندما قال في 7 ديسمبر 2016: "ندافع عن إيران في حلب"، مضيفاً: "يجب أن لا ننتظر حتى يأتي العدو إلى داخل بيتنا لنفكر بالدفاع عن حياضنا بل يتعين قمع العدو عند حدوده".
لكن اللافت أن خامنئي الذي كان يتحدث عن حلب بـثقة وأريحية واضحة في عام 2016، ومع اقتراب إعلان السيطرة الكاملة للنظام على المحافظة، لم يستطع التحدث عنها بالثقة والأريحية نفسها في عام 2024، وهو ما يعود إلى أن إيران تدرك عمق هذا الفارق بين التاريخين الذى تفرضه الظروف المختلفة التي طرأت منطقة الشرق الأوسط على مدى ثمانية أعوام.
دور إقليمي غير مضغوط
انخرطت إيران في معركة حلب الأولى وهى تمارس دوراً إقليمياً لم يكن يتعرض لضغوط شديدة من جانب قوى إقليمية ودولية تسعى إلى كبحه أو على الأقل ضبط مستواه عند حدود معينة. وبالطبع، فإن ما زاد من هذه الأريحية التي كانت تمارس إيران بها دورها الإقليمي هو أنها نجحت في الوصول إلى صفقة نووية مع إدارة أمريكية كانت راغبة في إعادة إدماج إيران بالمنطقة، وهى إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، التي بدأت في فتح قنوات تواصل مع إيران منذ عام 2009، على نحو ساهم في إنضاج التفاهمات النووية في عام 2013 إلى أن تم الإعلان عن الوصول للاتفاق النووي في 14 يوليو 2015.
وقد وصل الأمر بإيران – التي تم تعليق العقوبات الدولية التي كانت مفروضة عليها وبدأت في تسلم قسم من أموالها المجمدة في الخارج وإبرام صفقات ضخمة مع الشركات الأجنبية التي بدأت في التسابق على الاستثمار في السوق الإيرانية – إلى درجة أنها كانت تعتبر نفسها "القوة الإقليمية الأولى"، وليس مجرد قوة إقليمية ضمن خريطة تضم قوى عديدة، للدلالة على تفردية موقعها في المنطقة وفقاً لتصور قيادتها.
وقد أشار الأخضر الإبراهيمي المبعوث الأممي العربي الأسبق إلى سوريا، إلى هذا التصور عندما كان يبذل جهوداً حثيثة خلال فترة توليه منصبه (أغسطس 2012 - مايو 2014) بهدف إقناع إيران بالتدخل من أجل الوصول إلى تسوية للأزمة السورية، حيث قال أن الأخيرة اشترطت أن يكون هناك اعتراف دولى بها باعتبارها القوة الرئيسية الأولى فى المنطقة، إذ قال له المسئولون الإيرانيون الذين التقى بهم حسب تصريحاته: "نحن لسنا دولة مهمة فى الاقليم، بل نحن الدولة المهمة فيه".
لكن الآن، بات واضحاً أن الدور الإقليمي الإيراني يتعرض لاختبار صعب، بفعل المعطيات الاستراتيجية الجديدة التي فرضتها الحرب التي اندلعت في المنطقة منذ 7 أكتوبر 2023. إذ وجهت إسرائيل – التي تعرضت بدورها لاختراق أمني فادح كشفت عنه عملية "طوفان الأقصى" - ضربات قوية سواء ضد إيران نفسها أو ضد وكلائها في المنطقة. إذ قامت باغتيال عدد من قادة الحرس الثوري في سوريا ولبنان، على غرار راضي موسوي الذي كان مسئولاً عن إدارة الدعم الإيراني للوكلاء، الذي قتل في 25 ديسمبر 2023، ومحمد رضا زاهدي قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري في سوريا ولبنان الذي قتل في قصف القنصلية الإيرانية في دمشق في أول أبريل 2024، إلى جانب عباس نيلفروشان نائب قائد فيلق القدس الذي اغتيل برفقة الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في 27 سبتمبر 2024.
كما تعرض حزب الله اللبناني لضربات عسكرية قوية من جانب إسرائيل، رغم أنه حتى تاريخ وقف إطلاق النار في 27 نوفمبر 2024، كان قادراً على شن هجمات نوعية داخل إسرائيل بواسطة الصواريخ والطائرات من دون طيار.
هنا، فإن هذه الضغوط التي تتعرض لها إيران والمليشيات الموالية سوف تضع حدوداً للمدى الذي يمكن أن يصل إليه انخراطها في المعركة الحالية في حلب على عكس ما كان قائماً في معركة حلب الأولى.
ويضاف إلى ذلك أن قدرة إيران على استدعاء وكلائها للانخراط في تلك المعركة باتت مختلفة في الحالتين. ففي الأولى، كانت لدى إيران قدرة أكبر على دفع المليشيات للانخراط في تلك الحرب، مستفيدة في هذا السياق من المناخ العام الذي كان قائماً في تلك الفترة، والذي فرضه تصاعد خطر تنظيم "داعش" الذي دفع المرجعية الشيعية العليا في العراق ممثلة في علي السيستاني إلى إصدار فتوى "الجهاد الكفائي" التي كانت الأساس الأيديولوجي لتأسيس مليشيا الحشد الشعبي فيما بعد، والتي انخرطت بدورها في الصراع السوري، حيث لم تكن هناك ضغوط قوية يمكن أن تساهم في ضبط مستوى هذا الانخراط في هذه المرحلة.
أما الآن، فإن هذه القدرة باتت محل اختبار صعب بدورها. وبدا ذلك واضحاً في مسارعة العراق إلى نفى التقارير التي تزعم انتقال عناصر من المليشيات إلى سوريا، للانخراط في المواجهات العسكرية ضد هيئة تحرير الشام والفصائل الأخرى. بل إن رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض أكد، في 2 ديسمبر الجاري، عدم صحة تلك التقارير، مشدداً على أن "الحشد الشعبي لا تعمل خارج العراق". وبصرف النظر عن هذه التصريحات، وحتى في حالة انتقال عناصر من هذه المليشيات إلى سوريا بالفعل في حالة ما إذا احتدمت المعارك واستمر تراجع القوات السورية، فإن ذلك لا ينفي أن إيران لم تعد تمتلك خيارات متعددة في هذا السياق على غرار ما كان قائماً في مرحلة ما قبل 2016.
غياب سليماني
في معركة حلب الأولى، كان القائد الأسبق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني يقوم بدور روجت له إيران كثيراً في إدارة العمليات العسكرية في حلب. بل إن صوراً عديدة التقطت له وهو يتجول أمام قلعة حلب بعد السيطرة عليها، في رسالة من جانب إيران بأنها رقم مهم لا يمكن تجاهله في معادلة الصراع في سوريا.
لكن في معركة حلب الحالية، غاب سليماني، الذي قتل في العملية العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية في بغداد، في 3 يناير 2020، برفقة نائب أمين عام مليشيا الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس. ورغم أن إيران سارعت إلى تعيين إسماعيل قاآني قائداً لفيلق القدس، في اليوم نفسه، إلا أنه لم يستطع ملء الفراغ الناتج عن غياب سليماني، الذي كان لديه نفوذ وشبكة علاقات قوية مع المليشيات وداخلها.
هنا، فإن الفشل في ملء الفراغ ربما لا يكمن في أداء قاآني نفسه، وإنما يرتبط برغبة النظام الإيراني في تفادي الخطأ الفادح الذي ارتكبه بوضعه كل "مفاتيح" العمليات الخارجية للحرس الثوري، ومن ثم إيران، في يد سليماني، على نحو كان له دور في "بعثرة" تلك المفاتيح بعد مقتله، وهو ما دفعه إلى "توزيع" سلطات سليماني على أكثر من قيادي بحيث يتفادى التعرض لهذا الاختبار الصعب مجدداً.
حرب مشتعلة
في معركة حلب الأولى، لم تكن هناك حرب أخرى في المنطقة، ووفر ذلك لإيران أريحية أكبر وهامش حركة أوسع في الانخراط في هذه المعركة. لكن في معركة حلب الثانية، هناك حرب قائمة في المنطقة تجاوزت عامها الأول ولم يتضح بعد متى ستنتهي. فرغم الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، في 27 نوفمبر الفائت، فإن الحرب ما زالت تجري في قطاع غزة، مع ضربات عسكرية هنا وهناك في الضفة الغربية وسوريا واليمن وحتى في لبنان، في اختراق واضح لهذا الاتفاق.
هذه الحرب كانت إيران طرفاً مباشراً فيها، بعد أن فرضت تصعيداً عسكرياً مباشراً بينها وبين إسرائيل، بدأ عندما قصفت الأخيرة القنصلية الإيرانية في دمشق، في أول أبريل الماضي، على نحو دفع إيران إلى شن هجمات عسكرية مباشرة، وللمرة الأولى، ضد إسرائيل في 13 من الشهر نفسه، ردت عليها الأخيرة بهجوم محدود بعد ذلك بستة أيام.
هذا التصعيد تجدد مرة أخرى، بعد أن اغتالت إسرائيل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في قلب العاصمة طهران، في 31 يوليو الماضي، ثم الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله برفقة نائب قائد فيلق القدس عباس نيلفروشان في 27 سبتمبر الماضي، وهو ما ردت عليه إيران، في أول أكتوبر الماضي، بهجمات عسكرية جديدة، دفعت إسرائيل بدورها، بعد أن أصابت بعض الصواريخ الإيرانية أهدافها مباشرة، إلى شن هجمات مضادة في 26 من الشهر نفسه.
في خضم هذا التصعيد، الذي قد يتجدد في ظل الخلافات القائمة بين الطرفين، لا تمتلك إيران الخيارات نفسها التي كانت متوافرة في عام 2016 عندما ساهمت في استعادة حلب من التنظيمات الإرهابية والمسلحة التي سيطرت عليها. وتزداد حدة الضغوط التي تتعرض لها إيران في هذا الصدد مع الوضع في الاعتبار وصول الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مجدداً بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 5 نوفمبر الفائت.
خلافات مع الحلفاء
في معركة حلب الأولى، كان هناك تنسيق عالي المستوى بين إيران وحلفائها في سوريا، بدا واضحاً في انخراط روسيا بشكل مباشر في الصراع العسكري بداية من سبتمبر 2015 على نحو كان له دور في تغيير توازنات القوى لصالح النظام السوري. لكن في المعركة الحالية، لا يبدو الأمر كذلك. فالتباينات باتت واضحة في مواقف هذه الأطراف.
إذ تبدي إيران تحفظات عديدة إزاء السياسة الروسية سواء في سوريا، في ظل تفاهماتها الأمنية مع إسرائيل، أو في الملف النووي، أو في ملف قره باغ. كما لا تبدو إيران مطمئنة إلى سياسة "النأى بالنفس" التي اتبعها النظام السوري إزاء الحرب التي اندلعت في المنطقة بداية من 7 أكتوبر 2023. كما لم تعد خلافاتها مع تركيا خافية رغم حرص الطرفين على إدارتها وتقليص حدتها.
في النهاية، يمكن القول إن هذه الاختلافات بين حلب 2016 وحلب 2024 سوف تمثل متغيراً مهماً ربما يكون له دور في ضبط مستوى انخراط إيران في تلك المعركة، التي تسبق استحقاقات استراتيجية مهمة لا تبدو هينة بالنسبة لإيران، خاصة مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض في 20 يناير 2025.