دخل وقف إطلاق النار على جبهة لبنان حيز التنفيذ في الرابعة فجراً من السابع والعشرين من نوفمبر 2024 أي بعد نحو سبعين يوماً من هجوم البايجرز وبعد نحو شهرين من اغتيال الأمين العام السابق لحزب الله حسن نصرالله. تتعدد التكهنات بشأن هذا الاتفاق الذي يعيد الاعتبار للحزم في تنفيذ القرار 1701 الصادر عام 2006 لوقف الحرب آنذاك ولم ينفذ بشكل جدي منذ ذلك الحين. فالبعض يعتبر أن الاتفاق لا يعدو أن يكون مجرد هدنة لمدة ستين يوماً فقط وليس وقفاً دائماً للحرب، بل إن جولة أخرى من القتال قد تتجدد مع انتهاء مدة الهدنة. ولكن المبعوث الأمريكي آموس هوكشتاين، مهندس هذا الاتفاق، يقول أنه إنهاء للأعمال القتالية بشكل كامل واتفاق مستدام، ويمهد للتفاوض الجاد حول حل كل النقاط العالقة في الحدود البرية بين البلدين[1].
وهناك من يعتبر أن الوصول لهدنة في لبنان بمعزل عن جبهة غزة هو فرض لإرادة إسرائيل على حزب الله وبالتالي نصر لها، بينما يعتبر آخرون أن إرهاق إسرائيل واستنزافها في الحرب هو ما أجبرها على عقد اتفاق مع لبنان وعدم المضى في الخيار العسكري حتى النهاية. كما أن المستوطنين لم يعودوا للشمال بالحرب بل سيعودون بالاتفاق، وهو ما يعني أن وعد نصرالله قد تحقق، وبالتالي فهذا الإفشال للأهداف الإسرائيلية يُسجل كانتصار لحزب الله. بينما يرى فريق ثالث أن حزب الله لم ينتصر في الميدان بالنظر لهذا الكم الكبير من الخسائر على مستوى القيادات والعناصر والعتاد خاصةً أنه أصبح مجبراً على سحب قدراته العسكرية إلى ما وراء الليطاني والامتناع عن التسلح من جديد. فيما يعتبر فريق رابع أن مجرد قدرة حزب الله على الاستمرار في إطلاق الصواريخ والمسيّرات حتى آخر لحظة قبل وقف إطلاق النار يعني أنه لم ينهزم.
اتفاق دائم أم هدنة؟
لا شك أن اتفاق وقف إطلاق النار قد أحاطت به الكثير من الأسئلة والشكوك طالت طبيعته ومصيره واستمرت حتى لحظات قليلة قبل تنفيذه. فالتشكيك في وجود الاتفاق من الأساس استمر لأيام طويلة حتى بدأ فعلياً ودخل حيز التنفيذ. ولعل أحد أهم الأسباب في ذلك أن جبهة لبنان كانت على وشك أن تهدأ في 25 سبتمبر 2024 وفق تفاهم فرنسي-أمريكي، ولكنها ما لبثت أن اشتعلت مرة أخرى بتصعيد جديد وهو اغتيال نصرالله. ولذا فإمكانية انقلاب نتنياهو على الاتفاق في اللحظات الأخيرة كانت واردة ومحفزة لهذه الشكوك. ولكن يبدو أن الخسائر التي طالت الجيش الإسرائيلي في جبهة الجنوب قد أقنعت الحكومة الإسرائيلية أخيراً بأن فرض الحل العسكري ليس كفيلاً بتحقيق أهداف العدوان على لبنان. فأهداف العدوان ما فتئت تتراجع شيئاً فشياً مع تعثر التقدم الإسرائيلي في الجنوب، ونفاذ بنك الأهداف الصالحة للقصف الجوي وعدم قدرة هذا الدمار الشامل الذي أحدثته الضربات الجوية على وقف تحليق صواريخ ومسيّرات حزب الله في العمق الإسرائيلي.
ويضاف إلى ذلك عنصر جدية إدارة بايدن في الخروج من الفترة الرئاسية بإنجاز ما في الشرق الأوسط، ورغبة إدارة ترامب في دعم جهود هوكشتاين حتى يصل لاتفاق قبل بداية ولاية الإدارة الجديدة، بما حقق عنصر الضغط الأمريكي اللازم الذي أقنع تل أبيب بقبول الاتفاق[2]. فالأمريكيون وحدوا أدوات الضغط بين الإدارة المنتهية ولايتها والإدارة الجديدة كي يقللوا من هامش مناورة نتنياهو في وقت الفراغ بين الإدارتين، وهو الفراغ الذي كان قد استغله في سبتمبر الماضي ومكنّه من شراء الوقت لمزيد من العدوان على لبنان. أما الاتفاق نفسه، فيبدو أن ما عُرض على لبنان ليس ما عُرض على إسرائيل، وهو الهامش الذي يتيحه الاتفاق غير المباشر، فالضامن الأمريكي سمح باختلاف مضمون الاتفاق المعروض على الفريقين كي يقبل كل منهما بما يرضيه. ويبدو أن الفارق بين الاتفاقين هو ما ستسعى واشنطن وباريس من خلال اللجنة الخماسية إلى اختباره وتثبيته على الأرض خلال فترة الهدنة.
ينص الاتفاق المعلن على امتناع كل من حزب الله (أو أي مجموعات مسلحة أخرى انطلاقاً من لبنان) وإسرائيل عن تنفيذ أي أعمال هجومية عبر الحدود ضد بعضهما البعض، وفي حالة الخرق يحق لكل من لبنان وإسرائيل الدفاع عن النفس. كما ينص على انسحاب وتفكيك بنية حزب الله العسكرية إلى ما وراء نهر الليطاني، ومنع توريد السلاح للحزب أو تصنيع الأسلحة من جانبه محلياً بشكل غير شرعي بما قد يعيد قدراته العسكرية لسابق عهدها. كما ينص على انتشار الجيش اللبناني في الجنوب على التوازي مع قوات اليونيفل للإشراف على انسحاب حزب الله والكشف عن أي تحصينات لا تزال قائمة أو لم يتم تفكيكها[3]. بينما تقوم القوات الإسرائيلية بالانسحاب من الشريط الحدودي الذي دخلت إليه إلى ما وراء خط الحدود خلال ستين يوماً، وهو ما يعني أن إسرائيل قد حصلت على بند "حرية الحركة" الذي كانت تتشبث به ولكنه مغلف ببند "الانسحاب خلال ستين يوماً" وهو الذي قُدم للبنان دون أن يثير رفض الأطراف اللبنانية خشيةً على مبدأ السيادة.
أما تشكيل وعمل اللجنة الخماسية المشرفة على تطبيق القرار 1701، فهو أمر خلافي آخر وقابل للتفخيخ بشكل جدي. فاللجنة كانت أصلاً ثلاثية وتضم لبنان وإسرائيل مع اليونيفل وتجتمع بشكل موضعي عند التبليغ عن خروقات، ولكنها كانت تفتقد للنفوذ اللازم الذي يجبر طرفيّ الصراع على الانصياع لقراراتها. ولكن مع دخول الولايات المتحدة وفرنسا اللجنة أصبح لها نفوذ حقيقي يمكنها من الضغط على الطرفين لتنفيذ القرار بانسحاب حزب الله وانتشار الجيش اللبناني بدلاً منه، وأيضاً انسحاب إسرائيل من الشريط الحدودي خلال ستين يوماً. كما أن للجنة أيضاً مكون من اليونيفل للتواجد على الأرض والإشراف على الانسحاب والانتشار وأيضاً لجمع الأدلة على الأرض والتحقق من الخروقات المبلغ عنها. وهنا خرج الوسيط الأمريكي من مأزق إصرار إسرائيل على التدخل في حال الخروقات، وأيضاً خرج من مأزق رفض حزب الله لتعديل صلاحيات اليونيفل- أي بجعلها تحت الفصل السابع بدلاً من الفصل السادس.
فلجنة مراقبة تنفيذ الاتفاق ستكون مخولة بالفصل في مدى جدية الخروقات وتتخذ ما يلزم لدى الطرفين لفرض احترام بنوده. فإذا كانت إسرائيل لاتزال تحتفظ بوسيلة قائمة للتجسس ولتتبع عناصر حزب الله في الجنوب، فهي ستكون على دراية بمدى جدية تنفيذ الانسحاب وستكون قادرة على تقديم أدلة مخابراتية ملموسة لتعزيز مزاعمها. أما حزب الله فإنه يزعم بأنه لا يزال يتمتع بجاهزية تسمح له بمراقبة مدى التزام إسرائيل بالانسحاب خلال الستين يوماً وسيكون مؤهلاً لرد أي تجدد للعدوان[4]. غير أن استمرار خروقات القوات الإسرائيلية التي اعترفت بإطلاق النار وقتل أو اعتقال كل من اقترب من القرى الحدودية بعد وقف إطلاق النار، سيكون تحدياً كبيراً لمصداقية اللجنة عند البدء بعملها خلال الأيام المقبلة.
أما عن مهلة الستين يوماً فهي التفاف آخر على مطالبات متصادمة لأطراف الصراع. فحزب الله رفض بشدة أن يتم التفاوض على تفاصيل الاتفاق النهائي تحت النار، كما رفض مطالب المبعوثين المطالبين ببحث تفاصيل اليوم التالي أثناء اشتعال الحرب. ولذا فالستين يوماً ستكون فعلياً فترة تفاوض مع لبنان وحزب الله، إذ سيخرج الوسيط الأمريكي من جعبته سلة الشروط التي لم يتمكن من تداولها مع حزب الله خلال الحرب لرفض الأخير ذلك. وفي المقابل من المفترض أن يتحقق خلال الستين يوماً شرط فرنسي مهم وهو انتخاب رئيس جديد للجمهورية وبداية انتظام عمل المؤسسات الدستورية اللبنانية من جديد، حيث كان حزب الله رافضاً لمبدأ انتخاب رئيس أثناء الحرب، ولكنه وافق على التخلي عن مرشحه المفضل - سليمان فرنجية - والدفع بمرشح توافقي. وفي هذه المهلة أيضاً ستكون إسرائيل مضطرة للانسحاب، ولكن بعد أن تتأكد من كيفية قيام اليونيفل والجيش اللبناني بالمهمة التي كان تلّوح بأن لها الحق بالقيام بها، وهي نزع سلاح حزب الله وإبعاده إلى شمال الليطاني.
ولذا سيكون على الإسرائيليين تنفيذ تعهداتهم تجاه الأمريكيين خلال هذين الشهرين، وهي نفس الفترة التي سيخرج فيها بايدن من البيت الأبيض ليدخل ترامب. فإذا استشعر الإسرائيليون بأن الضغط الأمريكي قد خفت أو أن الأولويات قد تغيرت فقد لا ينفذوا الانسحاب، وهنا ربما ينهار الاتفاق أو يتحول من مستدام لمجرد هدنة يليها تصعيد جديد. أما لو جاء ترامب بشهية مفتوحة لعقد اتفاقات وتثبيت سلام في المنطقة، فإن هوكشتاين سيكون مخولاً بتمديد عمله في لبنان لتثبيت الهدنة وتحويلها لاتفاق دائم يحل الاشكاليات العالقة في الحدود البرية بين البلدين في نحو 13 نقطة حدودية خلافية. وهنا قد يكون لصهر ترامب من أصل لبناني مسعد بولس نفوذ قوي في تحديد ملامح السياسة الأمريكية الجديدة نحو لبنان على أساس براغماتي يوازن بعض الشئ الانحياز الأمريكي المعتاد لإٍسرائيل[5]. وهنا سيكون انسحاب حزب الله في مقابل انتشار الجيش اللبناني تحت المجهر وعنصراً محدداً لمدى الالتزام الأمريكي-الفرنسي بتوفير الدعم والعتاد العسكري للجيش بالإضافة لتوفير المساعدات الاقتصادية للبنان للنهوض به من عثرته المالية ولإطلاق ورشة الإعمار.
الحرب توقفت ولكن مَن انتصر؟
لا يزال سؤال النصر أو الهزيمة معلقاً على الجبهة اللبنانية، فالحروب غير المتناسبة كتلك التي اندلعت في لبنان يصعب الخروج منها بحصيلة دقيقة تحدد مَن انتصر ومَن هُزم خاصة أن كلا الطرفين يدعي الانتصار. سوّغ نتنياهو قبوله بوقف إطلاق النار بضرورة تركيز الاهتمام على التهديد الإيراني أولاً، ثم إعطاء استراحة للجيش الإسرائيلي كي يعيد التسلح لاستئناف القتال ثانياً، ثم لفصل المسارات بين جبهة لبنان وجبهة غزة ثالثاً[6]. وبمقارنة هذه الأسباب بالأهداف المعلنة قبل انطلاق العدوان الإسرائيلي على لبنان، فإنه قد غاب عنها تماماً الهدف الرئيسي وهو إعادة سكان الشمال إلى بيوتهم، وهو ما لم يتحقق حتى اللحظة ولم يعلن إطار زمني لتحقيقه. وهنا يكون الجانب الإسرائيلي قد حقق فقط مكسب فصل مساريّ غزة ولبنان في شأن وقف إطلاق النار، ولكنه لم يحقق هدفه الرئيسي، ألا وهو استخدام القوة لفرض عودة سكان الشمال بأمان. ولعل هذه الفرضية توحي بأن الاتفاق بالنسبة لإسرائيل ليس إلا هدنة لالتقاط الأنفاس لحين تغير الإدارة الأمريكية واستكشاف تصورات ترامب عن مستقبل التعامل مع لبنان وحزب الله ومن ورائه إيران.
أما على الجانب الآخر، فحزب الله أعلن الانتصار في هذه الحرب، واعتبر أنه سيكمل طريق المقاومة بعزيمة أكبر وسيستمر في دوره بدعم "المظلومين والمستضعفين والمجاهدين في فلسطين"، ولكنه لم يحدد بدقة ملامح هذا الدور في ظل التزامه بالانسحاب العسكري من جنوب نهر الليطاني ووقف هجماته ضد إسرائيل[7]. لم يعترف حزب الله حتى آخر لحظة قبل دخول الاتفاق حيز التنفيذ بتخليه عن مبدأ "وحدة الساحات" أو قبوله بفك مسارات وقف الحرب على جبهتي غزة ولبنان، ولكنه اضطر في النهاية للرضوخ. وفي وصف حصيلة الحرب قال رئيس الكتلة البرلمانية لحزب الله محمد رعد بأنه "نصر مُر"، فالمنطق يرفض أن يعترف بنصر حقيقي في ظل الخسائر الكبيرة من القيادات الحزبية وخاصةً اغتيال أمينه العام نصرالله[8].
وإذ أعلن الحزب بالتفصيل عن الخسائر التي كبدها للقوات الإسرائيلية، فإنه لم يعلن تفصيلياً بعد الخسائر التي تكبدها هو، وإن كان من عادته فيما مضى الإعلان عن خسائره البشرية وتكريم من سقطوا من عناصره بعد انتهاء الحرب. ويبدو من ذلك إما أن حزب الله لا يعتبر بعد أن الحرب قد انتهت، ولذا يظن أن الإعلان عن الخسائر في الوقت الراهن يضعف من موقفه التفاوضي في الأيام الستين القادمة. أو أنه يؤجل كل ذلك لحين الإعلان عن موعد التشييع الشعبي لأمينه العام السابق ولقادته العسكريين من الصف الأول، ثم يقوم بالتكريم المطلوب لعناصره من الصفوف الأمامية في الميدان. وفي تفصيل الخسائر التي تكبدتها إسرائيل وفق حزب الله قـُتل أكثر من 130 وأصيب ما يزيد عن 1250 من الجنود ودمرت 59 دبابة ميركافا و11 جرافة عسكرية و4 من الآليات المدرعة وناقلات الجند، فضلاً عن إسقاط 9 طائرات مسيّرة فوق الأجواء اللبنانية[9]. وكان حزب الله قد اعترف بسقوط نحو 500 من عناصره خلال العام الماضي قبل بداية تصعيد العدوان الإسرائيلي على لبنان منتصف سبتمبر الماضي، بينما تزعم مصادر إسرائيلية أن الحزب قد فقد نحو 2450 من عناصر منذ بداية التصعيد[10].
فيما اعترفت إسرائيل بمقتل 75 فقط من جنودها على جبهة الشمال ومقتل 45 مدنياً في الهجمات الصاروخية القادمة من لبنان. أما عن الخسائر العسكرية التي تكبدتها إسرائيل داخل أراضيها فلا تزال محجوبة بفعل الرقابة العسكرية ولم يكشف عنها بعد. ولكن الخسائر المدنية التي تكبدها لبنان كبيرة للغاية وتبلغ نحو 3768 شهيداً و15699 جريحاً هذا بخلاف وصول عدد شهداء الجيش اللبناني إلى 46 شهيدا. وذلك دون احتساب ضحايا الهجمات المكثفة في الساعات الأخيرة قبل وقف إطلاق النار[11]. هذا بخلاف الخسائر المادية الضخمة التي قدرها البنك الدولي بشكل أولي بنحو 3.4 مليار دولار وخاصة في قطاعات الإسكان والبناء والزراعة والسياحة والضيافة، فضلاً عن تكاليف الفرص الضائعة للاستثمار والانتاج التي توقفت نتيجة لاشتعال الحرب التي قدرت بنحو 5.1 مليار دولار[12].
وهنا يبدو مرة أخرى أنه من الصعب الوقوف على هوية المنتصر والمهزوم من هذه الجولة من المواجهات بين الطرفين. فالخسائر متبادلة ولكنها قد تميل إلى تعزيز كفة إسرائيل ضد لبنان، فحجم الدمار الذي سببته إسرائيل أكبر وأكثر اتساعاً، وهو ما برز خلال الساعات الأخيرة قبل إعلان وقف إطلاق النار، حيث أطل رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو في خطابه لتبرير وقف إطلاق النار من مبنى محصن. بينما أطل نائب رئيس المجلس السياسي لحزب الله محمود قماطي من سيارة متنقلة يتوعد إسرائيل بالرد إذا ما أخلت بالاتفاق، ولكنه في الحقيقة كان متنقلاً بين المقرات خلال القصف الإسرائيلي المكثف الذي تخطى الضاحية الجنوبية إلى عدة أحياء أخرى ببيروت وكان يُخشى معه أن يتسبب في اغتيال قيادات إضافية لحزب الله.
عند هذه اللحظة، كانت إسرائيل تبدو وكأنها المنتصرة، ولكن مع دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ وبزوغ الصباح عن سماء لبنانية هادئة دون الطيران الإسرائيلي المحلق، انطلقت جموع النازحين من البلدات الجنوبية والبقاع والضاحية الجنوبية عائدة إلى مساكنها أو ما تبقى منها. هكذا انطلق النازحون اللبنانيون دون إذن من أحد، بل وضد التحذيرات التي ساقها الجيش اللبناني وحزب الله من ضرورة التريث في العودة لحين الكشف عن الألغام أو الذخائر غير المنفجرة في ساحات المعارك. ورغم أن سكان الجنوب لم يعودوا فعلياً لكل القرى الحدودية، فلا يزال الجيش الإسرائيلي يسيطر على الخط الحدودي من القرى ويمنع العودة إليها لحين انسحابه، فإن مجرد تحقق مشهد العودة جزئياً في الجنوب اللبناني وعدم تحققه مطلقاً في الشمال الإسرائيلي كان لافتاً. وهنا اقتنص الشعب اللبناني لحظة النصر بالعودة الفورية إلى البلدات والقرى التي هُجِّر منها تحت النار، بينما لم يعد المستوطنون الإٍسرائيليون إلى الشمال، فكان المكون البشري هو الحاسم في اقتناص مشهد النصر لصالح لبنان وفق هذا المنطق.
ولكن مع ذلك، يبقى الدمار الكبير الذي خلفته الحرب على لبنان عبئاً لا يمكن إنكاره ويستدعي ورشة كبيرة لإعادة الإعمار وتمويلاً طائلاً لتعويض الأهالي المتضررين. وهذه مهام لا يزال حصرها مستمراً في الوقت الحالي ولكنها تبقى من ضمن مهام الدولة اللبنانية المؤجلة ومن ضمن أدوار حزب الله الذي عوّد جمهوره على الاضطلاع بها بعد كل جولة من القتال مع إسرائيل. وهنا يكون لحلفاء حزب الله وخاصة إيران نصيب الأسد من تمويل عمليات إعادة الإعمار والتعويض، وهو ما قد يشوبه تحديات كبيرة إذا ما أخذنا في الاعتبار الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها إيران. ومما يعطي مؤشراً إضافياً عن هوية المنتصر والمهزوم في هذه الحرب أن تراجع إيران عن نهجها الهجومي والتوسعي في المنطقة قد يؤسس لمرحلة جديدة تتراجع فيها أيضاً عن دعم حلفائها بشكل لامحدود طمعاً في رسم ملامح تفاهم ما مع إدارة ترامب مستقبلاً. وفي هذا الإطار، إذا ما سلمنا بأن إيران متراجعة وترامب سيدخل البيت الأبيض خلال أسابيع، فيبدو أن المنتصر ليس حزب الله بكل تأكيد. ولكن إذا ما أعادنا التحليل بافتراض أن ترامب يريد تثبيت وقف الحرب وإحلال السلام – ليس بالضرورة حباً بالسلام ولكن طلباً للرخاء الاقتصادي الذي يصاحبه- فإنه سيحرص على إرغام الجميع على وقف الحرب وهذا بالتأكيد ليس نصراً مطلقاً لإسرائيل كما كان يطمح نتنياهو.
استحقاقات الداخل اللبناني
مع وقف إطلاق النار، انطلقت في لبنان جدالات متعددة حول مستقبل دور حزب الله ومستقبل نشاطه السياسي وعلاقته بالنشاط العسكري وعلاقته الجديدة مع الجيش اللبناني الذي ينفذ الانتشار في الجنوب في الوقت الراهن. ولعل هذه الجدالات لا تخلو من تصفية حسابات مؤجلة من جانب خصوم حزب الله عن مرحلة سيطرته على الحياة السياسية في السنوات الأخيرة والتي وصفت في فترات متعددة باعتبارها "تغول للشيعية السياسية". كما أنها لا تخلو أيضاً من تصفية حسابات خاصة باستئثار حزب الله بقرار الحرب والسلم الذي أدخل لبنان في دوامة الحرب الأخيرة وأدى إلى خسائر مادية وبشرية لا تحصى. فهذه الجدالات هي ما أشار إليها نبيه بري بدعوته لـ"طي الصفحة الأخطر في تاريخ لبنان" بما قد يوحي بأن الصفحة الجديدة ستكون مختلفة المعالم وتحتاج إلى تغيير كبير لرسم ملامحها الجديدة. بينما دعا النائب عن حزب الله حسن فضل الله إلى إطلاق حوار وطني شامل، وذلك على هامش جلسة البرلمان الأولى خلال الهدنة والتي تم فيها التمديد لقائد الجيش وقادة الأجهزة الأمنية لعام إضافي.
يعتبر الاستحقاق السياسي الأبرز في الوقت الراهن هو انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وقد دعا رئيس البرلمان نبيه بري إلى جلسة انتخاب في 9 يناير المقبل[13]، وهو ما يعني أن الانتخاب سيتم ضمن مهلة الهدنة إذا كان التوافق قائماً. ولكن رحلة اختيار "المرشح التوافقي" لا تخلو من عقبات ومخاطر قد تهدد بمزيد من التأخير في انتخاب الرئيس. فالمرشح التوافقي الأبرز الذي كان مطروحاً قبل بداية الحرب هو قائد الجيش العماد جوزيف عون. ولكن بالنظر إلى المهام المستجدة والمتعددة للجيش في الجنوب خلال المرحلة الراهنة، لا يبدو أن رحيل قائد الجيش ليلتحق بالمنصب السياسي الأول في البلاد سيكون محل ترحيب من أغلب الكتل البرلمانية، خاصةً أن ذلك سيستتبع الدخول في جدل اختيار قائد جديد للجيش في هذه المرحلة الحرجة من تعدد مهامه جنوباً، مما يعيد النظر في إمكانية طرح أسماء سياسيين توافقيين بدلاً من اللجوء لطرح أسماء عسكريين متقاعدين أو على وشك التقاعد كما كان الأمر مع العماد جوزيف عون الذي تم التمديد له مؤخراً. على أي حال، سيحتاج قائد الجيش في حال التوافق على انتخابه رئيساً لتعديل دستوري يسمح له بالترشح لموقع الرئيس نظراً لاشتراط الدستور اللبناني مرور عامين بعد التقاعد وقبل تولي موقع الرئاسة.
لا تبدو القوى المسيحية مجتمعة على اسم مرشح توافقي، فالقوات اللبنانية وحزب الكتائب ومن يمثل تيار "السيادة" سبق وأن طالبت بانتخاب رئيس يتعهد بنزع سلاح حزب الله، مما يجعل خيار هذا التيار بعيداً عن مسمى "الرئيس التوافقي". بينما يرى حلفاء حزب الله - بعد انتهاء أو وقف الحرب- أنهم الأقرب لطرح هذا "الرئيس التوافقي" من بين صفوفهم خاصةً بعد الوفاء بمهمة دعم الحزب خلال هذه المرحلة الأخطر من تاريخه. وهنا لا يمكن إغفال أن رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل لا تزال لديه طموحات سياسية في الوصول إلى موقع الرئاسة. وقد برهن على ذلك خلال الحرب بإطلاق بعض المواقف التي انتقدت أداء حزب الله وبدا معها أنه يأخذ موقعاً وسطاً بين حلفاء الحزب وخصومه ليعطي لنفسه صفة "وسطية" تؤهله أن يكون مقبولاً من خصوم حزب الله. غير أن التجربة السياسية الاستئثارية لباسيل خلال فترة رئاسة ميشال عون لاتزال ماثلة في الأذهان، بما قد يجعل الكثير من القوى السياسية تحجم عن تكرارها لست سنوات أخرى.
في المقابل، لا يبدو أن ترشيح سليمان فرنجية لا يزال قائماً بعد جنوح حزب الله لخيار "المرشح التوافقي"، ففرنجية هو المرشح الأقرب للحزب، ولذا لا ينطبق عليه وصف "التوافقي". ولكن ربما قد يجدّ جديد في هذا الخصوص خاصة مع التأييد الفرنسي السابق لفرنجية، ولكونه "صديقاً شخصياً" لمستشار ترامب للشأن اللبناني مسعد بولس. بينما قد يتنقل الجدل الرئاسي لطرح أسماء تكنوقراط ممن لهم قبول دولي لدى الأمريكيين أو الفرنسيين والجوار العربي، وهذا ينطبق مثلاً على موظفين دوليين لبنانيين سبق أن خدموا في جهات ومؤسسات دولية. وهنا قد تكون الكتل المستقلة هي القوى الوازنة التي تحسم انتخاب أحد هذه الأسماء على أساس توافقي.
من المتوقع أن تشهد المرحلة القادمة وحتى جلسة الانتخاب طرح العديد من الأسماء بهدف التوافق عليها بين الكتل. كما أن التداول في الأسماء قد يطال أيضاً اسم رئيس الحكومة وتوزيع الحقائب الوزارية كي يصبح انتخاب الرئيس هو بوابة عودة الانتظام لكل مؤسسات الدولة المعطلة، بما يوحي بأن الدعوة للحوار الوطني الشامل التي أشار إليها النائب حسن فضل الله ربما لا تعني فقط الانفتاح على الآخر وإنما أيضاً طرح كل الملفات للتداول دفعة واحدة. ولكن من غير المعروف حتى اللحظة هل ستكون جلسة الانتخاب جلسة واحدة ومن بعدها ينسحب النواب لإسقاط النصاب – كما درج نواب الثنائي الشيعي في الجلسات السابقة- أم أنها ستكون جلسة واحدة متعددة الجولات لحين انتخاب رئيس. ولعل سلوك نواب الثنائي الشيعي خلال الفترة القادمة سيُنبئ إذا ما كان حزب الله مقبلاً على انفتاح حقيقي تجاه الداخل اللبناني أم أنه سيحافظ على نزعته بالسيطرة على الحياة السياسية اللبنانية. فاختبار انتخاب الرئيس هو الاختبار الأهم الذي قد يكشف عما إذا كان الحزب سيعيد النظر في طروحاته السياسية الداخلية ومدى انفتاحه على بناء مؤسسات الدولة المدنية بشكل ملموس أم أنه لايزال متشبثاً بتكريس وتعزيز كيانات ومراكز قوى موازية للدولة.
[2] سميح صعب، "بصمات ترامب على اتفاق وقف اطلاق النار في لبنان تجاوب ايراني وإسرائيلي مع تبريد الساحات"، النهار، 28-11-2024، t.ly/uhrcu
[4] موقع النشرة، "حزب الله على أتم الجهوزية للتعامل مع أطماع العدو"، 27-11-2024، t.ly/ATJPd
[6] سي إن إن عربية ، "لماذا وافقت إسرائيل على وقف إطلاق النار في لبنان؟ نتنياهو يوضح، 26-11-2024، t.ly/xSvuV
[7] موقع النشرة، "حزب الله على أتم..."، المرجع السابق
[10] الشرق الأوسط، "ما حجم الخسائر البشرية والمادية جراء الحرب الإسرائيلية على لبنان"، 26-11-2024، t.ly/O65lo
[11] موقع فرانس 24، "ماحجم الخسائر في لبنان وإسرائيل منذ بداية الحرب؟"، 27-11-2024، t.ly/XUt1O
[12] ليبانون 24، "تقرير جديد للبنك الدولي كم بلغة كلفة الأضرار جراء الحرب؟"، 14-11-2024، t.ly/TDwLp