يحتل موضوع دراسة النسق العقيدي Belief System أهمية كبيرة في دراسة علم السياسة بوجه عام والعلاقات الدولية بوجه خاص، لما يلعبه هذا المتغير من دور محوري في تفسير سياسات وتحركات الدول، انطلاقًا من خلفيات قياداتها السياسية، لا سيما الدول المحورية والكبرى، حيث يحاول هذا النوع من الدراسات استيعاب المفاهيم والأفكار والمبادئ التي تُسهم في صنع السياسات والاستراتيجيات، من خلال الوقوف على المعتقدات والقيم والأيديولوجيات التي يُؤمن بها القادة والسياسيون ويعتمدون عليها في تحديد مواقفهم وسياساتهم. وقد تناولت عدة دراسات بالتحليل الأنساق العقائدية لقادة بارزين في المنطقة، مثل الزعيم «جمال عبد الناصر»، والرئيس «محمد أنور السادات»، وغيرهم من الرؤساء الذين لعبوا أدوارًا جوهرية في تشكيل مستقبل منطقة الشرق الأوسط خلال القرن العشرين؛ لمحاولة فهم وتحليل دوافع قراراتهم الحاسمة، لا سيما قرار «عبد الناصر» بتأميم قناة السويس، وقرار «السادات» بشأن إعلان حرب السادس من أكتوبر 1973، وأجريت دراسات أخرى في هذا المجال، بالتطبيق على نهرو في الهند، وأردوغان في تركيا، والقذافي في ليبيا. كما يكتسب هذا المجال اليوم أهمية خاصة في ظل تسارع الأحداث المفصلية والزخم الهائل في القرارات ذات الشأن.
تُعد إسرائيل من الدول المهمة والمحورية في الشرق الأوسط، التي لعب قادتها أدوارًا بارزة بدايةً من تأسيسها وحتى الآن، كما يُعد رئيس وزرائها «بنيامين نتنياهو» من أبرز قادتها وأطول رئيس وزراء تولى الحكم. وقد أثر بشكل كبير في السياسة الإسرائيلية خلال فترات عمله التي تجاوزت الأعوام الستة عشر عام. وبالرغم من ذلك، فقد لُوحظ أن الدراسات العربية المهتمة بتحليل سياسات «نتنياهو» تُركز فقط على السياسات الخارجية وبعض القرارات المفصلية وكيفية إدارته للعلاقات مع الدول الأخرى، دون الأخذ في الاعتبار جذور ورواسب هذه السياسات والمنطلقات الفكرية والدوافع التي تُحركه داخليًا وخارجيًا، وهو ما أحدث بعض القصور في فهم وتحليل جُل القرارات والسياسات؛ لانطلاق أغلب المحللين في تحليلهم من حسابات المكسب والخسارة، مرورًا بأهمية القرار وتداعياته على الدولة والدول المحيطة، مع إهمال دور الجانب الأيديولوجي والنسق العقيدي كمحرك للقادة.
تتعدد العوامل النفسية للقادة السياسيين بين الإدراك والتصورات والطبيعة الشخصية والعقائد التي يؤمن بها الفرد، والتي يكتسبها من نشأته العائلية والفكرية وخبرته العملية، لتتفاعل كل هذه العوامل وتتداخل فيما بينها لتشكل عملية صنع القرار السياسي. في هذه الدراسة، سيتم تناول تأثير النسق العقيدي لرئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو» ودوره في تحديد طبيعة القرارات السياسية المتخذة على مدار فترات حكمه، مع إيلاء اهتمام خاص للدور الذي لعبته عقيدته السياسية والأمنية في اتخاذ قرار حرب غزة الخامسة 2023، من خلال محاولة فهم المرتكزات العقائدية لديه. يُولي «نتنياهو» أهمية خاصة لقضايا الأمن القومي لدرجة أنه يُبرر 90 % من تحركاته باعتبارها جهود تصب في مصلحة أمن إسرائيل في المقام الأول، كما دفعه غلبة مخاوفه الأمنية إلى اللجوء لأمننة أغلب السياسات وتصدير التهديدات للشعب الإسرائيلي.
تقوم رؤية «نتنياهو» للأمن القومي على مجموعة من المبادئ التي ورثها من أفكار المفكر الصهيوني «جابوتنسكي» عن «الصهيونية التصحيحية»، التي يقوم جزء منها على الرفض المطلق للتسويات مع الفلسطينيين باعتبارهم مصدر دائم للتهديد، بجانب السعي لاستخدام التكنولوجيا العسكرية لفرض الدولة في المنطقة، وضمان التقدم النوعي، فضلًا عن إيمانه بمبدأ «رعاية القوة» والذي يُفسر تعنته وإصراراه دومًا على استخدام العنف والتطرف في توظيف القوة. كما تشمل رؤيته للأمن القومي ترويجه لفكرة «إسرائيل الكبرى» ورفضه التهديدات، التي برزت في استخدامه لخريطة تضم غزة والضفة الغربية في أثناء كلمته في الدورة الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2022، وهي المبادئ التي تُفسر تحركاته اليوم، ولماذا يميل للتصعيد وتوسيع رقعة الصراع لتطول أطراف أخرى، مثل إيران ووكلائها في المنطقة. إذ تبدو مسارات الصراع في الشرق الأوسط اليوم بالغة الكثافة والتعقيد، وتتسع دوائرها لتغرق العديد من الأطراف الدولية والإقليمية، وتتصاعد بانتظام المخاطر التي تواجه دول المنطقة وعملية السلام التي عكف على بنائها القادة السابقون عشرات السنين.
بات الشرق الأوسط، بعد مرور عام على حرب غزة، خاليًا من منظومة إقليمية قادرة على الإدارة السلمية لمسارات الصراع الكثيرة في ظل تراجع الأدوار الفعالة لبعض البلدان صاحبة الثقل، وتخبط بلدان أخرى بين حروب بالوكالة وسياسات خارجية غير مستقرة، لتتسع مساحات فعل ونفوذ القوى غير الدولاتية من حزب الله إلى الحوثيين. تندفع القوى الكبرى والإقليمية، التي تتجاهل الأدوات السياسية لمواجهة صراعات الشرق الأوسط إلى لحظة خطأ مأساوي جديد في المنطقة، وإلى لحظة جديدة من تغييب العقل بتجاهل حقيقة أن تصعيد «نتنياهو» المواجهة العسكرية في المنطقة حتمًا سيفشل إقرار السلام الذي علق آماله على تحقيقه من خلال بناء نظام إقليمي جديد قائم على الدبلوماسية والتجارة وتقديم المكاسب الاقتصادية وذلك بالتطبيع مع دول المنطقة، وأن الأولوية ستظل للحل السلمي للقضية الفلسطينية باعتبارها المدخل للاستقرار في الشرق الأوسط.