صافيناز محمد أحمد

خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

تمثل منطقة البحر الأحمر أهمية استراتيجية فى الترتيبات الأمنية والاقتصادية على الصعيدين الدولى والإقليمى؛ باعتبار البحر الأحمر أحد أهم ممرات المياه فى العالم، نظرا لموقعه الاستراتيجى المتميز، فضلًا عن أنه يوفر إمكانية الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط والمحيطات المفتوحة ؛ فمنطقة البحر الأحمر تضم عددا كبيرا من الدول العربية المتشاطئة عليه، وهى: مصر، والسعودية، واليمن، وإريتريا، والسودان، والأردن، وجيبوتى، والصومال، ويقع فى شماله إحدى أهم قنوات الممرات الملاحية للتجارة العالمية، وهى قناة السويس، ويتحكم مضيق باب المندب فى مدخله الجنوبى. يضاف إلى ذلك تفاعلات “عسكرة البحر الأحمر” بين القوى الدولية الكبرى من خارج الإطار الجغرافى للمنطقة؛ كالولايات المتحدة وروسيا والصين والدول الأوروبية ومصالحها فى المنطقة بحسبانها تتحكم فى ممرات ملاحية ضرورية لحركة التجارة العالمية، وسلاسل التوريد، ونقل النفط والغاز، وغيرها من السلع الاستراتيجية.

أسهم الموقع الاستراتيجى لمنطقة البحر الأحمر فى تعدد مصالح الدول المتشاطئة من الناحية الاقتصادية، كما أسهم أيضا فى تدافع الترتيبات السياسية والأمنية لتلك الدول، بما جعل “المنظور الأمنى القومى” محددًا مهمًا من محددا تلك الترتيبات، الأمر الذى أدى إلى تعدد المشروعات الإقليمية والدولية المتصلة بترتيبات الأمن فى المنطقة من ناحية، وإلى تنافس هذه المشروعات تنافسًا حادًا من ناحية أخرى، بل بدأ هذا التنافس-فى إحدى مراحل تفاعلات الدول المتشاطئة والقوى الدولية غير المتشاطئة- يتطور إلى مرحلة جديدة تتشكل معها ملامح ما يمكن تسميته “تعارض المصالح الاستراتيجية”، وهى مرحلة ينتقل فيها هذا التعارض إلى مرحلة ما من “النزاع”، وصولا إلى المرحلة الحرجة التى قد تصل إليها أى علاقات استراتيجية دولية، وهى مرحلة “الصراع”، ثم مرحلة “المواجهة المسلحة”.

لذا، يمكن القول إن حالة الحراك السياسى والعسكرى والأمنى والاقتصادى الذى تشهده منطقة البحر الأحمر خلال السنوات الثلاث الماضية، جديرة بإعادة رسم، أولًا: طبيعة التحالفات الدولية والإقليمية فى المنطقة. ثانيًا: خريطة السيطرة والنفوذ فيها. ثالثًا: أولويات المصالح للدول المتشاطئة فى ضوء محدد أمنها القومى وطبيعة تفاعلاتها مع القوى الدولية من خارج المنطقة. رابعًا وأخيرًا: خريطة القواعد العسكرية التى تعد المظهر الرئيسى لتفاعلات الدول المتشاطئة خلال السنوات الخمس الماضية؛ حيث أعطت تلك الدول أولوية لاستراتيجية إقامة القواعد العسكرية على سواحلها فى البحر الأحمر، الأمر الذى يعكس حالة من الاستثمار العسكرى/ السياسى الواضح، استنادًا إلى كون هذه الاستراتيجية هي الوسيلة البحرية الأساسية فى حماية أمنها القومى، وبذلك تضمن حماية تجارتها وناقلات النفط ومواجهة الإرهاب، فضلًا عن اعتبارها قاعدة متقدمة فى مراقبة بؤر التوتر التى قد تهدد أمنها القومى، لا سيما الأزمات فى الجزء الجنوبى من البحر الأحمر فى اليمن وإرتيريا والصومال، وما ارتبط بها من تغيرات فى شكل العلاقات بين دول القرن الإفريقى بصفة عامة.

فى ضوء كل هذه الاعتبارات، اهتمت مصر بمنطقة البحر الأحمر اهتماما بالغًا منذ عام 2014، حيث رأت القيادة السياسية ضرورة وضع استراتيجية خاصة بترتيب أولويات الأمن القومى المصرى، ووضع أمن البحر الأحمر من جنوبه إلى شماله ضمن أولويات هذه الاستراتيجية، فسعت إلى تفعيل آلية إنشاء القواعد العسكرية البحرية المتقدمة على سواحله كقاعدة “برنيس” على سبيل المثال، وهى قاعدة بحرية وجوية، تتركز مهمتها الأساسية فى حماية وتأمين السواحل المصرية الجنوبية، فضلا عن تحديث قطع أسطولها البحرى فيه بأحدث المعدات، إلى جانب مشاركتها   -كدولة مشاطئة للبحر- فى مجلس الدول العربية الإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، الذى تأسس فى يناير 2020، كتكتل إقليمى يتبنى رؤية للتعاون بين الدول الأعضاء تهدف إلى ضمان أمن البحر الأحمر وخليج عدن من أجل تحقيق الأمن والاستقرار والتنمية فى هذه المنطقة.

فى هذا الصدد، تأتى أزمة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عقب عملية طوفان الأقصى فى أكتوبر 2023، لتدفع منطقة البحر الأحمر والصراع حول أهميتها الاستراتيجية فى الأزمات الإقليمية إلى الواجهة مجددا؛ فلم تعد أزمة القراصنة فى جنوبه، ولا الصراع فى اليمن، هى فقط الأزمات التى تهدد المصالح الدولية والإقليمية فيها، بل بات الصراع الإسرائيلى مع المقاومة الفلسطينية، ودور محور المقاومة الإقليمى برعاية إيران فى إسناده للأخيرة، عاملا مؤثرا بصورة فعلية على المصالح العالمية فى المنطقة؛ انطلاقا من الدور القوى الذى لعبته -ولا تزال- جماعة أنصار الله الحوثية اليمنية فى دعم المقاومة الفلسطينية، وذلك عبر عدة عمليات عسكرية متعددة الأهداف؛ منها ما استهدف السفن الإسرائيلية أو سفن الدول الداعمة لإسرائيل فى منطقة باب المندب وخليج عدن، ومنها ما استهدف مناطق حيوية داخل إسرائيل فى الأراضى المحتلة. وقد دفع هذا التفاعل “النوعى” من قبل جماعة أنصار الله الحوثية إلى إعادة التفكير مجددا فى الأهمية الاستراتيجية لمنطقة البحر الأحمر، وسبل تأمينها ضد مخاطر التفاعلات الخاصة بالأزمات الإقليمية.

فى سياق متصل، تأثرت مصر كثيرا بتداعيات هذه التطورات نتيجة لتراجع حركة الملاحة العالمية فى قناة السويس، ما أدى بالتبعية إلى تراجع عائد الإيرادات ومعدل مساهمتها فى الناتج الإجمالى للدخل القومى. بالرغم من ذلك، لم تشارك مصر فى أى تفاعلات دولية من شأنها تقويض جبهة الإسناد اليمنية للمقاومة الفلسطينية، ليس انطلاقا من قناعتها بطبيعة ونوعية استراتيجيات الإسناد التى تقوم بها هذه الجبهة تحديدا، وإنما من منطلق تأييد مصر للقضية الفلسطينية وقناعتها السياسية بأن القضية الفلسطينية عامة هى القضية المحورية فى الشرق الأوسط، وهى قضية العرب الأولى. من ثم، أصبحت مصر أمام معادلة “المهددات – الاستجابة” التى تفرض عليها ضرورة “الاستجابة الحتمية” بشأن” إدارة خيارات متعددة” فى ظل بيئة شديدة التنافسية فى البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن، بما يمكِّنها من تحجيم “التهديدات” الناجمة عن تداعيات الوضع الإقليمى الأمنى المتطور من ناحية، ويمكِّنها أيضًا من تحجيم التداعيات الاقتصادية الحادة التى تواجهها على خلفية تأثيرات أزمة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بالنسبة لحركة الملاحة فى قناة السويس من ناحية أخرى.

وفقا لذلك، جاءت هذه الدراسة تحت عنوان “ الرؤية المصرية تجاه أمن البحر الأحمر: بين آفاق التعددية وتصاعد التوترات” للدكتورة مروة صبحى – مدرس العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، لتكشف عن طبيعة المهددات التى تواجه الدولة المصرية فيما يتعلق بمنطقة البحر الأحمر من ناحية، وطبيعة التنافسية الإقليمية والدولية فى المنطقة نفسها من ناحية ثانية، والتحديات التى تواجهها فيما يتعلق بإدارة الأمن الإقليمى فيها من ناحية ثالثة وأخيرة، لتنتهى الدراسة بطرح طبيعة الرؤية المصرية فى مواجهة هذه التحديات بما يحجِّم من تداعياتها على الحالتين الاقتصادية والأمنية للدولة.