عمرو عبد العاطي

باحث في الشئون الأمريكية، ومساعد رئيس تحرير مجلة السياسة الدولية

 

شكّل فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب -آنذاك- على المرشحة الديمقراطية وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون، والتي كان يُنظر إليها على أنها تُمثل التيار المؤسسي داخل الولايات المتحدة، في الانتخابات الرئاسية لعام 2016، نقطة تحول مهمة في التاريخ السياسي الأمريكي، حيث مثل تحديا عميقا للنظام السياسي، وللمعايير السياسية الأمريكية، خاصة أنه نُظر إليه على أنه شخصية ثورية ضد المؤسسة السياسية التقليدية ونخب واشنطن.

ورغم أن صعوده إلى السلطة (2017-20121) كان ينظر إليه على أنه مرحلة "شاذة" في مسار التاريخ السياسي الأمريكي، فإن انتصاره للمرة ثانية في 5 نوفمبر 2024 على منافسته الديمقراطية نائبة الرئيس الحالية كامالا هاريس، بنسبة تفوق كثيرا ما كانت تكشف عنه العديد من استطلاعات الرأي الوطنية، يُعزز دوره كشخصية "ثورية" ضد المؤسسة السياسية والنخبة الأمريكية التقليدية، مما يمثل تحولًا تاريخيًّا.

ويتردد صدى ترشيح ترامب وسياساته بين الناخبين الأمريكيين الذين يشعرون بالتهميش من قبل الأحزاب السياسية والنخب الأمريكية، ولا سيما مع تصوير ترامب، الذي تميز مساره السياسي بالخطاب الشعبوي، نفسه من خارج النخبة المؤسسية التقليدية، ووعده "بتجفيف المستنقع" الذي أوجدته نخبة واشنطن، التي ترى أنه شخص "شاذ لا يمثل أمريكا"، حسبما قالت هاريس في آخر تجمع انتخابي لها.

سياق محفز

ساعدت الأزمات الاقتصادية التي واجهتها الولايات المتحدة منذ الأزمة المالية في عام 2008، والركود الاقتصادي اللاحق اللذان أثرا على الأمريكيين من الطبقة العاملة، ولا سيما أولئك الذين يعيشون في المناطق الريفية والصناعية، على تزايد موجة السخط بين مختلف شرائح الأمريكيين على المؤسسة الأمريكية، الأمر الذي استغله ترامب لتعزيز شعبيته بين الناخبين الذين شعروا بتخلي الحزبين السياسيين الرئيسيين: الديمقراطي والجمهوري، اللذين كان ينظر إليهما على أنهما أكثر توافقا مع مصالح الشركات من احتياجات المواطنين العاديين.

وقد بلور ترامب حملاته الانتخابية لأعوام 2016 و2020 و2024، على استقطاب الناخبين الذين كانوا محبطين مما اعتبروه نظاما سياسيا "فاسدا". وجذب شعاره، "اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى" (ماجا)، القائم على العودة إلى ماضي أفضل، بشكل خاص الناخبين البيض من الطبقة العاملة الذين شعروا بالتهميش بسبب العولمة والتغيرات الأمريكية الديموغرافية. وقد وفر اعتقاد أغلبية الناخبين الأمريكيين، وفقًا للعديد من استطلاعات الرأي، بأن البلاد تسير على الطريق الخطأ، وتنامي الغضب من أداء الحكومة الفيدرالية، أرضًا خصبة لرسالة ترامب المناهضة للمؤسسة الأمريكية.

فعلى عكس السياسيين التقليديين الذين غالبًا ما يتنقلون بين الهياكل المؤسسية والحزبية القائمة، صُور ترامب على أنه شخص من خارج النخبة والمؤسسة الأمريكية، الأمر الذي كان محوريا في جاذبيته بين قطاع كبير من الأمريكيين من خلال تأطير ترشيحه على أنه انفصال عن الوضع الراهن، وتقديم منظور جديد للحكم وصنع السياسات.

ولم يستهدف خطابه النخب الديمقراطية فحسب، بل أيضا الشخصيات المؤسسية داخل الحزب الجمهوري، والتي كانت متشككة في ترشيحه. وقد سمح ذلك له بتشكيل تحالف واسع من الناخبين الساخطين عبر الخطوط الحزبية، وتوحيد أولئك الذين شعروا بالغربة بسبب الخطاب السياسي الديمقراطي والجمهوري التقليدي.

حملة انتخابية مضادة

بلور ترامب حملته الانتخابية لعام 2024 لاستهداف الناخبين الذين أصيبوا بخيبة أمل متزايدة من الهياكل السياسية التقليدية القائمة. ووضع ترامب عودته للبيت الأبيض مرة ثانية كمواجهة ضد ما وصفه بأنه "مؤسسة فاسدة"، مدعيا أن انتصاره "سيُعيد أمريكا" لمواطنيها. ولذلك ركزت الحملة على عدد من القضايا الأساسية التي أكدت على موقفه المناهض للنخبة السياسية الأمريكية. فلم تستهدف رسائله الانتخابية الحزب الديمقراطي فحسب، بل أيضا أعضاء حزبه الذين وصفهم بأنهم شخصيات مؤسسية تعيق جدول أعماله. ومن خلال وصف نفسه بأنه مرشح "مناهض للمؤسسة" مرة أخرى، استدعى شكلا من أشكال الشعبوية التي ناشدت كلا من الجمهوريين التقليديين، والناخبين المستقلين الذين شعروا بالغربة من الخطاب السياسي السائد.

وارتكز خطاب ترامب الاقتصادي حول "القومية الاقتصادية" التي تركز على إعادة الوظائف للولايات المتحدة، والحد من الاعتماد على الاقتصادات الأجنبية، وانتقاد الاتفاقيات التجارية القائمة مثل نافتا. كما وعد بإعطاء الأولوية للعمال والصناعات الأمريكية، على عكس السياسات التجارية التي جادل بأنها تركت العمال الأمريكيين ضعفاء، وهو ما يتعارض مباشرة مع تركيز المؤسسة على العولمة والتجارة الحرة. وقد كانت لرؤيته القائمة على "القومية الاقتصادية" صدى لدى الناخبين في المناطق الصناعية الذين شعروا بأن الإدارات الديمقراطية والجمهورية السابقة تخلت عنهم، والمعارضين للسياسات الأمريكية في الخارج والمرتبطة في كثير من الأحيان بالنخبة السياسية.

وقد ارتبط بذلك دعوات ترامب لتخلي الولايات المتحدة عن الالتزامات التي تُثقل كاهلها وتفرض ضغوطا على دافعي الضرائب من الأمريكيين، والتي تؤيدها النخبة والمؤسسة الأمريكية لحماية النظام الدولي الليبرالي الذي لعبت واشنطن الدور الرئيسي في تأسيسه في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية في عام ١٩٤٥، وما فرضته من عبء مع استثمار الإدارات الديمقراطية والجمهورية المتعاقبة الكثير من الموارد والاهتمام لحماية وصون الأمن والاستقرار الدوليين، بينما يستفيد خصوم ومنافسو الولايات المتحدة من ذلك بدون تحمل أي تكلفة، وبما ساعد عديد من الدول، ولا سيما روسيا والصين، على بناء قوتها لتصبح راهنًا قوة متحدية للولايات المتحدة.

 وقد استغل ترامب تنامي تيار بين الناخبين الأمريكيين يرفض رؤية التيار المؤسسي والنخبة لدور أمريكي أكثر تدخلًا في الشئون الدولية وإعادة بناء الدول، في مقابل تدهور الأوضاع الأمريكية الداخلية وتراجع مستوى الخدمات والبني التحتية، للترويج لشعار "أمريكا أولا" الذي لاقى قبولا واسعا من قطاع كبير من الناخبين الأمريكيين.

وناشدت رسائل ترامب الانتخابية الناخبين الذين شعروا بأن القيم الأمريكية التقليدية تحت الحصار من قبل النخب الليبرالية، التي تروج لحقوق المثليين والإجهاض، والهجرة وسياسات الهوية، والقضايا الثقافية التي دفعت عديد من الأمريكيين للشعور بالغربة بسبب تغيير المعايير الاجتماعية، وقد استغل ترامب ذلك لتعزيز فكرة أنه وحده يمكنه حماية الهوية الأمريكية، وهو ما ربطه بمواقفه المتشددة من الهجرة، واقترح بناء جدار على طول الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، وتنفيذ ضوابط أكثر صرامة على الهجرة.

ولاقى هذا الموقف قبولا متزايدا بين الناخبين المهتمين بالأمن القومي والتغيير الثقافي، وتحدى ترامب بشكل مباشر سياسات الهجرة الأكثر اعتدالا التي تفضلها المؤسسة السياسية الأمريكية.

وطوال حملته الانتخابية لعام 2024، واجه ترامب بقوة وسائل الإعلام الرئيسية، ووصفها بأنها متحيزة ومتواطئة في الترويج لروايات المؤسسة كما فعل خلال حملتيه الانتخابيتين السابقتين. وأكد هذا العداء تجاه وسائل الإعلام على التزامه بأيديولوجيته الشعبوية، وتعزيز قدراته على التواصل المباشر مع مؤيديه من خلال منصات التواصل الاجتماعي في تخطي لوسائل الإعلامية التقليدية.

 ومن خلال التحكم في روايته الخاصة والانخراط مباشرة مع المؤيدين، تمكن ترامب من الحفاظ على وجود دائم في الوعي العام وتشكيل الخطاب السياسي بشروطه الخاصة، وهو ما تردد صداه بين العديد من الأمريكيين الذين سئموا من الصواب السياسي التي تروج له وسائل الإعلام التقليدية، ووصاية النخبة السياسية الأمريكية.

وغالبا ما استخدم ترامب ألقابا مهينة لخصومه ومنافسيه، وعبارات مبالغ فيها للفت الانتباه وإثارة ردود الفعل. وفي حين أن هذا النهج كان استقطابيا، فإنه أثبت فعاليته في الحفاظ على التغطية الإعلامية وكسر معايير الخطاب السياسي، ما عزز من صورة ترامب كشخصية مناهضة للمؤسسة واستعداده لتحدي الوضع الراهن. وكثيرا ما استخدم لغة "تُشيطن" المؤسسات الأمريكية مثل الكونجرس ووسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية، وهي كيانات ينظر إليها تقليديا على أنها ركائز الديمقراطية الأمريكية. ومن خلال تصويرها على أنها "فاسدة" وتخدم مصالح أعضائها، زرع ترامب عقلية "نحن ضدهم" التي حفزت قاعدته الانتخابية.

عواقب عدة

على الرغم من نجاح الرئيس المنتخب دونالد ترامب في الاستفادة من تنامي السخط بين الناخبين للمؤسسة والنخبة الأمريكية والتي مكنته من الفوز في الانتخابات الرئاسية لعامى 2016 و2024، فإن عمله على تعزيزه يفرض العديد من التداعيات السلبية على مستقبل النظام السياسي، وتراجع النموذج الأمريكي. وتتمثل أبرز أهم عواقب استثمار ترامب في التيار المناهض للمؤسسة في زيادة الاستقطاب داخل المجتمع الأمريكي. فلم تظهر الانقسامات التي تفاقمت خلال فترة رئاسته الأولي في الصراع الحزبي فحسب، بل أيضا في الاستقطاب الاجتماعي على أسس عرقية. وغالبًا ما كان الخطاب الذي استخدمه ترامب عنصريا، وأجج المشاعر القومية التي يتردد صداها مع شعور شرائح من الأمريكيين بالتهديد من التحولات الديموغرافية التي تشهدها الولايات المتحدة مع تنامي موجات الهجرة.

ورغم أن استهداف ترامب للمؤسسة والنخبة الأمريكية وهجماته المتكررة على وسائل الإعلام باعتبارها "أخبارا مزيفة"، ورفضه للأحكام القضائية التي تتعارض مع أجندته قد ساهمت بصورة رئيسية في فوزه في 5 نوفمبر الجاري، فإنها تُساهم في تعزيز مناخ من عدم الثقة تجاه المؤسسات الديمقراطية، وتقويض الضوابط والتوازنات التي تُعد السمة الرئيسية لنظام الحكم الأمريكي، وتفرده عن الأنظمة الديمقراطية الليبرالية الأخرى التي لها باع طويل في الدفاع عن القيم الليبرالية والديمقراطية.

ويرسخ انتصار ترامب للشعبوية داخل التيار السياسي الأمريكي، مما قد يشجع الشخصيات السياسية الأخرى على اعتماد لغة مماثلة مناهضة للمؤسسة. ويمكن أن يؤدي هذا التحول إلى إعادة توجيه السياسة الأمريكية بعيدا عن الحكم القائم على توافق الآراء ونحو أطر أكثر تصادما واستقطابا.

ومع تلك التحديات، يُجادل الكثيرون بأن المؤسسات الأساسية للديمقراطية الأمريكية لا تزال قوية وقادرة على مواجهة التحديات المتعددة التي يفرضها فوز دونالد ترامب ضد المؤسسة والنخبة الأمريكية. فقد ظل الفصل بين السلطات حجر الزاوية في النظام السياسي الأمريكي، ثابتا إلى حد كبير. وقد حافظ الكونجرس والمحاكم والنظام الفيدرالي على سلطاتهم القانونية، ولم يتم إضعافهم بشكل كبير خلال رئاسة ترامب الأولى. وقد أثبت القضاء، على وجه الخصوص، استقلاله من خلال الحكم ضد ترامب في العديد من القضايا البارزة.

واستجابة لرئاسة ترامب، قد تكون هناك جهود لسن إصلاحات مؤسسية بعد سنوات حكم ترامب الأربعة القادمة، تتصدى لتجاوز المؤسسة التنفيذية، وتعزز الضوابط والتوازنات التي يتسم بها النظام السياسي الأمريكي، والتي أكد عليها الآباء المؤسسون، ولحمايته من الحركات الشعبوية المستقبلية، واستعادة ثقة الجمهور في نزاهة المؤسسة الأمريكية ومساءلتها.

خلاصة القول، عكس انتصار دونالد ترامب في ٥ نوفمبر الجاري رفض الناخبين الأمريكيين للنخب التقليدية، والدعوة إلى العودة إلى القيم الأمريكية التأسيسية كما يرونها. ويمثل لحظة حاسمة في الصراع المستمر بين الشعبوية والنخبوية في الولايات المتحدة.

 ويتجاوز تأثير انتخاب ترامب كشخصية ثورية ضد المؤسسة والنخبة الأمريكية مجرد الانتصارات الانتخابية في عامي 2016 و2024؛ حيث يحمل تحولا عميقا في الثقافة السياسية الأمريكية. فمن خلال تسخير السخط الواسع بين الناخبين ضد النخب والمؤسسات الراسخة والمدفوع بالمظالم الاقتصادية والقلق الثقافي والإحباطات العميقة، أعاد ترامب تشكيل المشهد السياسي بطرق تتحدى المفاهيم التقليدية للحكم. ويبقى التساؤل الذي يشغل الكثيرين داخل الولايات المتحدة وخارجها حول ما إذا كانت الديمقراطية الأمريكية تستطيع التكيف مع هذه التيارات الثورية أو مقاومتها، هو الفيصل في تحديد مستقبل الولايات المتحدة خلال السنوات الأربع لدونالد ترامب في البيت الأبيض.