جدد المرجع الدينى الشيعى فى العراق على السيستانى، في 4 نوفمبر 2024، دعوته لحصر السلاح المنفلت بيد الدولة، فى إشارة إلى السلاح الذى تحوزه المليشيات الشيعية المنضوية ضمن هيئة الحشد الشعبى. تبدو الدعوة وكأنها نكوص من قبل السيستانى عن فتواه الخاصة بالجهاد الكفائى التى أطلقها فى يونيو عام 2014، ودعا فيها العراقيين إلى حمل السلاح لمواجهة خطر تنظيم "داعش" الذى سيطر على عدد كبير من المحافظات العراقية آنذاك. لكن سابقة التصريحات الصادرة عن السيستانى فى هذا الشأن تشير إلى إنها لم تكن المرة الأولى التى يدعو فيها إلى حصر السلاح بيد الدولة؛ ففى عام 2017، وبالتزامن مع انتهاء المواجهات مع تنظيم "داعش" وسيطرة الحكومة مجدداً على كل المحافظات التى كان تحت سيطرة التنظيم، أطلق السيستانى دعوته الأولى فى هذا السياق. وفى ديسمبر 2019، وبعد شهرين من الحراك الشعبى فى أكتوبر 2019، احتجاجاً على تردى الأوضاع المعيشية وتفشى الفساد، ونتيجة لاستخدام العنف المفرط من قبل بعض المليشيات المسلحة ضد المحتجين، أعاد السيستانى إطلاق دعوته بضرورة حصر "السلاح المنفلت" تحت سيطرة المؤسسات الأمنية والعسكرية النظامية. وفى سبتمبر 2021، جدد السيستانى الدعوة نفسها استباقاً للانتخابات البرلمانية التى أجريت فى أكتوبر 2021، وهى الدعوة التى أيدتها حركة "سائرون" التابعة لتيار الزعيم الشيعى مقتدى الصدر فى مبادرتها الداعية إلى ضم "المليشيات المنضبطة" من هيئة الحشد الشعبى ضمن صفوف القوات النظامية العراقية سواء جهاز الأمن الداخلى أو الجيش.
لم تفلح مساعى الحكومات العراقية السابقة فى شأن نزع سلاح المليشيات المسلحة، والتى تتجاوز وفقاً لتقديرات عراقية الـ (15) مليون قطعة سلاح، كما لم تتمكن حكومة شياع السودانى الحالية من فرض الأمر نفسه، باستثناء قيام وزارة الداخلية عام 2023، بإطلاق "الاستراتيجية الأمنية لحصر السلاح بيد الدولة"، وهى الاستراتيجية التى حققت نتائج محدودة، ولم ترتق إلى حالة الحصر الكامل والشامل للسلاح.
مغزى التوقيت
يأتى تجديد السيستانى لدعوته لضم سلاح المليشيات العراقية ضمن القوات الأمنية الرسمية، والتى أطلقها يوم 4 نوفمبر 2024، وسط تطورات ومتغيرات إقليمية جديدة ومغايرة تماماً لتلك التى كان عليها الوضع الذى أطلق فيه السيستانى دعواته السابق ذكرها؛ فمعظم تلك الدعوات إن لم يكن كلها، جاءت استجابة لتطورات عراقية داخلية محضة، أما دعوته الجديدة فجاءت فى ظل تطورات خارجية ناتجة عن حالة التفاعلات الدولية والإقليمية مع عملية "طوفان الأقصى" التى قامت بها المقاومة الفلسطينية فى 7 أكتوبر 2023، وفى ضوء ما تقوم به جماعات "محور المقاومة الإقليمى" برعاية إيران - حزب الله اللبنانى والمليشيات العراقية وجماعة أنصار الله الحوثية اليمنية- من إسناد عسكرى للمقاومة الفلسطينية، رداً على العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة منذ عام مضى.
ووفقاً لتفاعلات المليشيات العراقية مع حدث الإسناد الإقليمى للمقاومة الفلسطينية ضمن مبدأ "وحدة الساحات"- عبر عمليات عسكرية استهدفت القواعد الأمريكية فى العراق وسوريا، منذ أكتوبر 2023- يمكن تحديد الدوافع التى أعاد فى سياقها على السيستانى طرح دعوته مجدداً بشأن حصر السلاح بيد الدولة، وفقاً لما يلى:
1- قيام جيش الاحتلال الإسرائيلى بوضع العراق ضمن بنك أهداف عملياته العسكرية المرتقبة، لاسيما فى حالة تنفيذ إيران تهديدها بالرد على الضربة الإسرائيلية الأخيرة (26 أكتوبر 2024)، حيث تواردت أنباء عن احتمالية أن تستخدم إيران الأجواء العراقية منطلقاً لهذا الرد، بعد أن استخدمت إسرائيل الأجواء العراقية نفسها فى آخر ضربتها التى وجهتها لإيران بما أثار حفيظة الأخيرة، فثمة أنباء تفيد بأن الولايات المتحدة المتواجدة عسكرياً فى العراق وفرت الحماية للطائرات الإسرائيلية التى عبرت الأجواء العراقية فى طريقها لضرب إيران.
2- اتساع طموحات "بنك الأهداف" الإسرائيلى تجاه العراق ليشمل المرجعية الدينية العليا نفسها على السيستانى، وذلك بعد أنباء فى هذا الشأن تداولتها إحدى القنوات الإعلامية الإسرائيلية، حيث نشرت صورة للسيستانى ضمن قوائم اغتيالات جديدة يعدها الجيش، على غرار سلسلة الاغتيالات التى نفذها تجاه عدد من القيادات التاريخية لـ"محور المقاومة" وعلى رأسها الأمين العام لحزب الله اللبنانى حسن نصرالله، ويحيى السنوار رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الفلسطينية. وتشمل قائمة الاغتيالات الجديدة المحتملة أيضاً كلاً من زعيم جماعة أنصار الله الحوثية عبدالملك الحوثى، وقائد فيلق القدس بالحرس الثورى إسماعيل قاآنى وآخرين.
3- تزامن دعوة السيستانى مع لقائه ورئيس البعثة الأممية فى العراق العُمانى محمد الحسان يوم 4 نوفمبر 2024، وهو اللقاء الذى قيل بشأنه أن حسان قد حث السيستانى خلاله على إعلان "موقف جاد" تجاه مسألة السلاح المنفلت فى يد المليشيات العراقية، لكونه أداة تهدد الاستقرار والأمن داخل العراق ومحيطه الإقليمى، بل طالبه بممارسة ضغوط على النخب والقوى السياسية العراقية، لاسيما الإطار التنسيقى الحاكم تحديداً، من أجل إحكام السيطرة على تفاعلات المليشيات المنضوية ضمن هيئة الحشد الشعبى المشاركة فى "محور المقاومة الإقليمى" بدعم من إيران.
4- ربط السيستانى تجديد الدعوة إلى حصر سلاح المليشيات بعدد من العوامل التى تستهدف تحقيق استقرار العراق، ووضعها ضمن خطط عملية لإدارة الدولة وهى: تفعيل مبدأ الكفاءة والنزاهة عند إسناد المناصب القيادية والتنفيذية، وتحكيم سلطة القانون، ومكافحة الفساد المالى والإدارى، والعمل على منع التدخلات الخارجية فى القرار السيادى العراقى. وتمثل تلك العوامل رؤية ثابتة لدى السيستانى بشأن إدارة الدولة منذ سنوات، وهى الرؤية التى فشلت كافة الحكومات العراقية فى تحقيقها، ما دفع السيستانى إلى اعتزال أى لقاءات رسمية تجمعه والقيادات الحكومية منذ عام 2016.
5- محاولة من السيستانى لمنع تأثر العراق بحالة التصعيد الذى يلوح فى الأفق بين إيران وإسرائيل فى سياق الرد والرد على الرد العسكرى المتبادل منذ أكتوبر 2024، وإن كانت خبرة تفاعلات المليشيات العراقية مع حدث الإسناد الإقليمى للمقاومة الفلسطينية ضمن "محور المقاومة" برعاية إيران ليست واحدة؛ فهناك تباينات فى وجهات النظر حول أساليب وطرق وآليات هذا الإسناد من ناحية، وهناك اختلاف حول ساحة توجيه الاستهداف ما بين القواعد الأمريكية فى العراق أو الداخل الإسرائيلى من ناحية ثانية، وهناك أخيراً المصالح العراقية مع الولايات المتحدة، والتى وإن كانت تدينها فى العلن عدد من قوى الإطار التنسيقى الحاكم (الظهير السياسى لقوى الحشد الشعبى)، إلا إنها فى الواقع ترغب فى الحفاظ على "نمط ما" من العلاقات الثنائية العراقية-الأمريكية قائماً، حتى وإن تبنت خطة لإنهاء الوجود العسكرى الأمريكى مؤخراً، وهى خطة من مرحلتين على مدار الفترة ( 2024- 2026).
6- سعى من جانب السيستانى لإسناد الجهود التى يبذلها رئيس الحكومة شياع السودانى تجاه الحوارات التى يجريها الأخير بصورة مستمرة، خلال الشهرين الماضيين، مع الشركاء الدوليين والإقليميين للعراق. ويستهدف السودانى بها إخراج العراق من "بنك أهداف" إسرائيل فى المرحلة المقبلة من ناحية، والعمل على خفض التصعيد والتوترات فى جوار العراق الإقليمى من ناحية ثانية، وذلك باعتبار أن المراحل المقبلة من أزمة التصعيد الإسرائيلى تجاه إيران وجماعات محورها الإقليمى قد تفتح الإقليم على حالة من المواجهات العسكرية المفتوحة وغير محسوبة العواقب والنتائج، خاصة بعد استهداف إسرائيل للجنوب اللبنانى فضلاً عن محاولاتها المتكررة لغزوه برياً.
فى الأخير، يمكن القول إن العراق فى سياق علاقة المليشيات المسلحة بإيران والمنخرطة فى محور الإسناد الإقليمى للمقاومة الفلسطينية انعكاساً للعدوان الإسرائيلى غير المسبوق على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، يبدو وكأنها مقبلة على مرحلة جديدة فى تفاعلاتها الإقليمية عنوانها العريض أنها باتت ضمن "بنك أهداف" إسرائيل بصورة مباشرة، وأن دعوة المرجعية الدينية العليا على السيستانى لحصر سلاح تلك المليشيات وربطها بعوامل الحفاظ على استقرار وأمن الدولة العراقية، ما هى إلا وسيلة تحاول عبرها المرجعية إسناد توجهات رئيس الحكومة شياع السودانى فى محاولاته النأى بالعراق بعيداً عن المواجهات الإسرائيلية-الإيرانية المقبلة، وهى المواجهات التى من المحتمل أن تستخدم الأجواء العراقية كساحة لها.