فرضت الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة حالة من الارتباك أمام قطاع معتبر من الناخبين الأمريكيين لم يجد ضالته في أي من المرشحين. إذ يمثل دعم الولايات المتحدة اللا متناهي لإسرائيل المسألة الوحيدة التي اتفق عليها الحزبان الجمهوري والديمقراطي على حد سواء. فلم يخفَ على أحد دعم المرشح الجمهوري دونالد ترامب لإسرائيل صراحة، وهو الرئيس الأمريكي الوحيد الذي اعترف بالقدس "الموحدة" عاصمة لإسرائيل. أما الرئيس الحالي جو بايدن، فقد أدت مواقفه المؤيدة لما أطلق عليه "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" في هذه الحرب، دون الاعتبار لسقوط آلاف الضحايا من المدنيين، إلى خسارته تأييد بعض الشرائح. وتنسحب هذه النظرة أيضًا على كامالا هاريس باعتبارها نائبة للرئيس بايدن، بل تذهب بعض التحليلات إلى أنها كانت الحاكم الفعلي للولايات المتحدة نظرًا للحالة الصحية الغامضة للرئيس. إذن، تتحمل هاريس، في رؤية بعض الأمريكيين، جزءًا من المسئولية في عدم اتخاذ أي موقف في سبيل إنهاء الحرب. وبالتالي لم يعد هناك أي مصداقية للحديث عن العدالة وحقوق الإنسان والمهمشين طالما أن قيمة الحياة في حد ذاتها ليست متساوية في نظر هؤلاء.
لما الحديث الآن عن الطريق الثالث؟
منذ أن صعد الحزب الجمهوري ليحل محل الحزب الليبرالي، كثاني أكبر حزب في الولايات المتحدة، بقى الحزبان الديمقراطي والجمهوري على رأس الحياة الحزبية. ورغم وجود أحزاب أخرى في الحياة السياسية كحزب الخضر والحزب الليبرتاري وحزب الدستور، لم تستطع أي منها أن تغير مواقعها كأحزاب مهيمنة. وظلت المنافسة على مختلف المناصب السياسية والقضائية على جميع مستويات الحكم؛ المحلي والفيدرالي، تنحصر بين هذين الحزبين، خاصة وأن الملاءة الأيديولوجية لكل منهما تتسع لمختلف التيارات داخل الاتجاه الواحد، سواء الليبرالي أو المحافظ[1].
وبدون انحياز، فإن حرب غزة ليست العامل الوحيد في هذا الارتباك. فمؤخرًا، يسود المجتمع الأمريكي حالة من الإحباط في أوساط الناخبين الأمريكيين، إذ لا يشعر قطاع واسع من الناخبين أن أيًا من المرشحين يلبي مطالبهم، وهناك شعور عام بالاستياء من أداء الحزبين التقليديين. كما أن المجتمع الأمريكي يشهد درجة عالية من الاستقطاب في الآونة الأخيرة، ويرغب في رؤية بديل ثالث يكسر حالة الجمود تلك في السياسة الأمريكية. ورغم أن الناخبين يعبرون عن رغبتهم تلك منذ عام 2006، وعلى مدار 12 عامًا متواصلة، ولكن لا يبدو أن هناك أي حزب قادر على حشد قدر كافٍ من التأييد، بحيث تتآكل حصة معتبرة من تأييد الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، ومن ثم نشهد تعددية حزبية في الولايات المتحدة.
في 4 أكتوبر 2023، أي قبل ثلاثة أيام من اندلاع حرب غزة في 7 أكتوبر، كشفت مؤسسة جالوب Gallup - المرموقة في مجال استطلاعات الرأي- أن نسبة 63% من الأمريكيين، باختلاف انتماءاتهم الحزبية سواء جمهوريون أو ديمقراطيون أو مستقلون، يدعمون ظهور حزب ثالث على الساحة الأمريكية، لأن الحزبين الديمقراطي والجمهوري "يؤدون بشكل سيء"[2]. وفي أول أكتوبر 2024، أعلنت جالوب انخفاض هذه النسبة إلى 58%[3].
المصدر: مؤسسة جالوب لاستطلاعات الرأي، Gallup، https://news.gallup.com/poll/651278/support-third-political-party-dips.aspx
والسبب في انخفاض النسبة هذا العام هو انخفاض نسبة الجمهوريين المؤيدة لمسألة الحزب الثالث، خاصة بعد انسحاب روبرت كينيدي جونيور، المحسوب على التيار المحافظ، وإعلانه تأييد دونالد ترامب، في 23 أغسطس 2024، وبالتالي استعادت الكتلة الجمهورية تماسكها مرة أخرى. ورغم ارتفاع نسبة الديمقراطيين المؤيدة لظهور حزب ثالث، إلا أنها لم تستطع رفع محصلة النسبة النهائية في استطلاع عام 2024، ولكن يعد هذا الارتفاع في حد ذاته تعبيرًا عن أزمة في التيار الليبرالي. ففي حين يمثل دونالد ترامب وحده الكتلة المحافظة، ولا يواجه تهديدًا يذكر من قبل مرشح الحزب الليبرتاري اليميني، إلا أن التيار الليبرالي يشهد تنافس ثلاثة مرشحين على من يمثله، أشهرهم كامالا هاريس مرشحة الحزب الديمقراطي، ولكنها ليست الوحيدة!، فهي تواجه منافسة مع مرشحين اثنين آخرين، يهددان بسحب كتلة معتبرة من شرائحهم التقليدية، مما يكلفهم الانتخابات لصالح ترامب.
وأمام هذه الأزمة، تأتي محاولة فرض نظرية اختيار "أقل الضررين" أو "الأقل شرًا" على الناخب الأمريكي وكأنه ليس هناك مخرج ثالث. ولكن يبدو أن هذا الطريق -للمفارقة- تقوده مرشحة "يهودية" هي جيل ستاين، مرشحة الرئاسة عن حزب الخضر. ستاين -74 عامًا- تخرجت في كلية الطب من جامعة هارفارد، واستمرت في العمل كطبيبة حتى تقاعدت عام 2005، ولكن نشاطها السياسي بدأ منذ التسعينات في مجال السموم وارتباطها بالأمراض والصحة العامة ومكافحة العنصرية وعدم العدالة البيئية، حينها قادت حملات لتنظيف خمس مناجم للفحم في ماساتشوستس، وإغلاق معمل لحرق النفايات الطبية السامة، والمساهمة بدور في إعادة صياغة النشرات التحذيرية المتعلقة بالصيد لحماية حقوق النساء والأطفال والمهاجرين والسكان الأصليين من تسمم الزئبق[4].
الجدل حول ترشح ستاين
دائمًا ما توجه ستاين انتقاداتها للحزبين الديمقراطي والجمهوري على أنهما أدوات في يد أغنياء الحرب وتطلق عليهم "أحزاب وول ستريت". ولكن يظل ترشُّحها تهديدًا حقيقيًا للحزب الديمقراطي تحديدًا، فمن المتوقع أن تحظى ستاين بأصوات بعض الديمقراطيين غير الراضين تمامًا عن برنامج الحزب، خاصة وأنها تعتمد في برنامجها على سد هذه الثغرات، فهي تبتعد عن يسار الوسط وتميل أكثر نحو تيار اليسار التقدمي.
يخشى الحزب الديمقراطي من أن تستطيع ستاين حشد الأصوات في الولايات المتأرجحة-خاصة ميتشجان التي تضم أكثر من 300 ألف من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا-وهو ما يعرضه لخسارة تلك الولايات لصالح ترامب والجمهوريين. ليست هذه المرة الأولى التي تترشح فيها ستاين للرئاسة، فقد ترشحت سابقًا في انتخابات عام 2012 وحصلت على المركز الرابع بنسبة 0,38%من الأصوات، وفي انتخابات الرئاسة عام 2016، والتي فاز فيها ترامب، حصلت أيضًا على المركز الرابع بنسبة 1% من الأصوات. ويذكر أنها حصلت في ولاية ويسكنسن على 31 ألف صوت، أكثر من الهامش الذي فاز به ترامب في تلك الولاية بواقع 23 ألف صوت، وهو ما تعتمد عليه انتقادات الديمقراطيين لها، لأنها بترشحها تشتت الكتلة الديمقراطية لصالح بقاء الكتلة التصويتية لترامب متماسكة، إذ كان من الأفضل أن تذهب تلك الأصوات إلى هيلاري كلينتون آنذاك، وهم بذلك يخشون من تكرار نفس السيناريو هذا العام، ومن ثم يتهمونها بمساعدة ترامب، حتى أن ترامب نفسه لم يفوت الفرصة ليعبر عن إعجابه بها. وبناء عليه، حاول مندوبو الحزب الديمقراطي منع ترشح ستاين خاصة في الولايات الحاسمة، من خلال تقديم الاعتراضات القضائية في ولاية ويسكنسن، وأوهايو، وإلينوي، ونجحوا بالفعل في إبعادها عن قوائم الاقتراع في ولاية نيفادا[5].
ومن جانبها، ترفض ستاين هذا الاتهام وتروج إلى أن لديها كتلة تصويتية معتبرة لم تكن لتصوت لكامالا هاريس من الأساس، منهم الشباب الرافضين لدعم الولايات المتحدة غير المشروط لإسرائيل، والكتلة التصويتية المؤيدة للمرشح الديمقراطي السابق بيرني ساندرز والذين يشعرون أن الحزب الديمقراطي قد خذلهم في قضايا يسارية وليبرالية عدة، فضلًا عن أصوات العرب الأمريكيين والمسلمين عمومًا. كما أنها تحشد مجموعة أخرى من الناخبين العازفين تمامًا عن التصويت في الانتخابات نتيجة شعورهم بالإحباط ويحتاجون بشدة لمرشح على مستوى يلبي طموحاتهم، وهؤلاء أيضًا لم يتم انتزاعهم من الديمقراطيين[6].
في آخر استطلاع للرأي أجراه "مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية" في الفترة من مايو إلى أغسطس 2024 على عينة إجمالية من 3850 مسلم، أوضح أن هناك تقاربًا في نسبة المسلمين الأمريكيين المؤيدين لهاريس وستاين بواقع 29,4 و29,1% على التوالي. وأوضح المجلس أن حوالي 2,5 مليون مسلم -مسجلين في قوائم الناخبين- يبحثون خيار المرشح الثالث مثل ستاين وغيرها، والسبب في هذا هو دعم الولايات المتحدة لإسرائيل اقتصاديًا وسياسيًا. وأعلن المجلس أن ستاين تقود استطلاعات الرأي بين المسلمين في ثلاث من ست ولايات متأرجحة، متفوقة على هاريس وترامب[7].
المصدر: مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التركية TRT، https://www.trtworld.com/magazine/why-is-jill-stein-becoming-the-popular-choice-for-muslim-american-voters-18223179
كما أعلنت اللجنة العربية الأمريكية لمكافحة التمييز، في استطلاع الرأي الذي أجرته في شهر يوليو 2024، أن ستاين تتفوق على هاريس في نسبة التأييد بين العرب بواقع 45,3%، في حين حصلت هاريس على نسبة 27,5%، ولازالت نسبة 17% لم تقرر بعد.
أما على المستوى الوطني، ففي أحدث استطلاع للرأي قامت به صحيفة نيويورك تايمز بالتعاون مع جامعة سيينا كوليدج، في الفترة من 20 إلى 23 أكتوبر 2024، أوضح أن المنافسة حامية الوطيس بين هاريس وترامب، بنسبة تأييد 48% لكل منهما، في حين تحصد جيل ستاين 2% من الأصوات[8]، وهي نسبة تعتبر الأعلى مقارنة بالسنوات السابقة إذا ما تم ترجمتها إلى أصوات بالمعدل نفسه.
لذا، لا يمكن استبعاد حدوث مفاجأة في نسبة الأصوات التي سوف تحصدها ستاين، رغم أنها تدرك تمامًا أنه ربما ليس هنا كفرصة للفوز بالرئاسة، إنما هي محاولة حتى "يسمعونا ويعتبروا لموقفنا". ودائمًا ما تردد أن النخبة السياسية التقليدية على الساحة حاليًا تعتقد أنهم يمتلكون أصوات الناخبين، في حين أنهم لابد وأن يكتسبوها عن حق، مشيرة إلى أنها شعرت في هذه الانتخابات لأول مرة بمشاعر الامتنان من قبل الناخبين الذين يستقبلونها بالأحضان في كل مكان، وما هو إلا دليل على تسيد الشعور باليأس والإحباط[9]. لذا، بدلًا من المفاضلة بين أقل الشرور، يمكنهم الكفاح من أجل "الصالح العام"[10]. إلا أنه لا يمكن توقع حدوث اختراق كبير في الانتخابات هذا العام، لأن الناخب الأمريكي لم يعتد على منح صوته لمرشحين ليس لديهم فرص مضمونة في الفوز.
برنامج ستاين الانتخابي
بعد أن تقاعدت من عملها بالطب، بدأت ستاين بالعمل السياسي في سن الخمسين. في أحد اللقاءات أثناء حملتها لانتخابات الرئاسة عام 2012، قالت إنها الآن تمارس الطب السياسي بعد أن مارست الطب الدوائي، لأن السياسة هي أساس كل العلل، ولذا لابد من علاج هذا المرض وهي تقصد بذلك الحروب والفقر والتغير المناخي تماما مثل الرعاية الصحية. وفي حملتها الانتخابية لعام 2016، استمرت على النهج نفسه وأعلنت بشكل واضح عن أفكارها التقدمية للتخلص من جشع الرأسمالية واستغلالها والسعي نحو اقتصاد يحمي الفرد والكوكب ويعزز السلام[11]. وفي حملتها لسباق رئاسة 2024، وجدت ستاين فرصتها في تعزيز خطابها من خلال حرب غزة، إذ منحتها الحرب إطارًا فكريًا وأيديولوجيًا أوسع،وتشير دائمًا إلى قوى الإمبريالية والاقتصاد الرأسمالي الممولة لآلة الحرب والدمار بدلًا من الاستثمار في الاستدامة وتوفير الوظائف والخدمات الاجتماعية والصحية للجميع. وبناء عليه، يقوم برنامج ستاين الانتخابي على ثلاث أسس؛ الناس people، الكوكب planet، السلام peace.
تروج ستاين لسيادة العدالة الاجتماعية بين جميع الناس في الولايات المتحدة والعالم كله من خلال الدفاع عن حقوق العمال ووضع حد للتمييز الممنهج ضد المرأة والمهاجرين وذوي البشرة السمراء، وتضيف تصنيفا آخر وهو أصحاب البشرة البنية brown people، وهو تصنيف ظهر مؤخرًا ليعبر عن فئة من الناس لا يمكن تصنيفها من أصول أفريقية جنوب الصحراء كغالبية الأمريكيين الأفارقة، وبطبيعة الحال ليسوا من أصول أوروبية بيضاء، ولكنهم غالبًا من الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا. وتدافع عن الحقوق المدنية وحقوق المثليين والنساء في اتخاذ القرار في ما يتعلق بأجسادهن ومنها الإجهاض، فضلًا عن حقوق السكان الأصليين وذوي الإعاقة وغيرهم من المهمشين[12]. وفي محاولة لتجسيد قيم الاندماج التي تروج لها ومكافحة التمييز في صورة الإسلاموفوبيا، اختارت "المسلم" باتشوير ليكون نائبًا للرئيس في سباقها للرئاسة، وهو الذي درس التاريخ الإسلامي والأفريقي، وأطلق على هاريس "الوجه الأسود للاستعلاء الأبيض".
تسعى ستاين إلى اقتصاد يعمل لصالح الطبقات العاملة وليس زيادة تراكم الثروة في أيدي الأغنياء، من خلال حد أدنى للأجور يضمن معيشة كريمة، وتقديم خدمات رعاية الأطفال ومعاش تقاعدي، وتأمين صحي شامل للجميع على غرار خطة المرشح الديمقراطي السابق بيرني ساندرز[13]. وتعِد ستاين بإلغاء الديون الطلابية، بحيث يتوفر التعليم الجامعي المجاني للجميع من أجل منحا لطلاب المهارات المطلوبة التي تساعدهم في الحصول على وظائف مرموقة ودخول مرتفعة لمواجهة التحديات الاقتصادية الجديدة، بدون أن يثقل كاهلا لطلاب بالديون.
ويتبين أن البرنامج الذي تعرضه ستاين يتقاطع في بعض النقاط مع الحزب الديمقراطي، ولكنه أكثر يسارية ويركز على دور الحكومة في توفير الخدمات الاجتماعية. وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية، فإنها تعد بوقف آلة الحرب في أوكرانيا والشرق الأوسط، تمامًا كما يعد ترامب، ولكن كلاهما ينطلق في هذا من أرضيات فكرية مختلفة.
ولكن أبرز ما تتبناه ستاين هو تنفيذ "الاتفاق الأخضر الجديد الحقيقي" الذي أقره حزب الخضر في برنامجه، وهو يختلف عن الاتفاق الأخضر الجديد -الذي سبق طرحه للكونجرس في فبراير 2019- في أنه يضم بنودا ملزمة، من أجل الانتقال إلى استخدام مصادر الطاقة النظيفة بنسبة 100%، وخفض الانبعاثات الكربونية إلى صفر أو سالب، من خلال خفض الإنفاق والعمليات العسكرية، وتفكيك البنية التحتية النووية، فضلًا عن التخطيط الديمقراطي والملكية العامة لمشروعات الطاقة والنقل والتصنيع والإسكان[14].
ختامًا، مع وجود ترامب في السباق الرئاسي تتغير المعادلة التي يقيس بها الناخب الأمريكي الانتخابات، خاصة الناخب الديمقراطي،وأثبتت انتخابات عام 2020 هذه الفرضية. فالتيار الديمقراطي لا يرى شخص ترامب تحديدًا مجرد منافس من الحزب الجمهوري، بل يعتبره تهديدًا حقيقيًا يستوجب التكاتف والتلاحم بين كل التيارات المضادة له وتحييد الاختلافات الطفيفة في السياسات في التيار الليبرالي واليساري ومن ضمنها تيار الخضر، لأجل تحقيق الهدف الأسمى وهو إبعاد ترامب عن البيت الأبيض.
[7]Edibe Beyza Caglar, “Why is Jill Stein becoming the popular choice for Muslim American voters?” TRT world,